إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الخفاض الفرعوني

هذا النموذج ضار ومنفّر:


لقد بلغ الأمر ببعض من يتصدون لمحاربة عادة الخفاض، أن يقلّلوا من العفّة كقيمة، ويقولوا ما يمكن أن يشتم منه الدعوة لتجاوزها، على اعتبار أن واقع الناس قد تغير!! وكنموذج لذلك نورد هنا هذا النص من أقوال الدكتور محمد شعلان، فقد قال: (ومع التغييرات الاجتماعية الراهنة مثل استبدال الرجال بالماكينات أو مباشرة بالنساء، فإن التناسل اخذ يفقد أهميته نتيجة لتحديد النسل وانخفاض معدّل وفيات الأطفال، وأصبح الجنس أمرا نسبيا وترفيهيا وتراجعت العفّة والإخلاص كفضيلتين ملازمتين للمرأة، وأصبح الخفاض بلا مغذى)!! ص 118 من كتاب (الممارسات التقليدية).
هذا ما قاله دكتور شعلان، في بحثه الذي قدّم في الحلقة الدراسية التي عقدت بالخرطوم في فبراير 1979 عن الخفاض، بغرض التوعية ضد ممارسته!! وعبارات الدكتور شعلان وضعت بصور تقريرية وكأنها حقائق علمية مفروغ من صحتها، مع أنها تقريرات سطحية، وخاطئة، ومضرة اشد الضرر.. فمن ذا الذي يوافق الدكتور شعلان، على أن (التناسل اخذ يفقد أهميته) بسبب دخول الآلة، وعمل المرأة، وبسبب تحديد النسل، وقلة وفيات الأطفال؟!! إن الأمر الواضح أن التناسل ليس لمجرّد القيام بالعمل وإنما هناك قيمة إنسانية أصيلة ورفيعة، تدفع إليه وتلك، هي عاطفة الأمومة والأبوة، والحرص على استمرارية الحياة في النسل.. والحرص على التناسل ليس أمرا قاصرا على الإنسان، وإنما هو موجود عند جميع صور الحيوات الأخرى.. بل الحقيقة إن الغريزة الجنسية بين الرجال والنساء لأعمق من أن تكون الإنجاب من اجل استمرار الجنس وإنما هي من اجل تصعيد الحب الذي هو وسيلة تحقيق الاستقرار والسلام والحرية من الخوف التي يجهد لتحقيقها كل إنسان.. ومن أسوأ عبارات الدكتور شعلان قوله: (وأصبح الجنس أمرا نسبيا وترفيهيا، وتراجعت العفّة والإخلاص كفضيلتين ملازمتين للمرأة)!! والدكتور شعلان يورد ما قاله في هذه العبارة، كواقع، بني عليه، أن الخفاض أصبح بلا مغذى!! فإذا صحت عبارة الدكتور، فإن هذه ليست قيمة نقرّها، ونبني عليها، وإنما انحطاط حضاري، وإهدار لأهم القيم والفضائل، التي ظلت البشرية طوال تاريخها تعمل على الحفاظ عليها، وقامت في سبيل تحقيقها بكل صور الكبت التي أشرنا إليها ـ نقول إذا صحّ حديث الدكتور شعلان هذا، فإن الأمر لا يقتضي منا أن نقرّه ونبني عليه، وإنما يقتضي منّا أن نعمل بكل جهد على تلافى هذه الكارثة الحضارية الخطيرة.. وحديث هذا الدكتور، عندما يقال في مجتمع مسلم محافظ، كالمجتمع السوداني لا ينتظر منه أن يؤدى إلا للنفور الشديد.. والحديث يشتم منه عدم الحرص على العفّة والإخلاص، بالصورة التي تجعل الخفاض بلا مغزى، فإذا كان البديل للخفاض الفرعوني هو عدم العفّة، وجعل الجنس أمرا نسبيا وترفيهيا، فإنه لمن الخير للناس، ألف مرة، أن يمارسوا الخفاض الفرعوني، وفى أسوأ صوره، لكي يحتفظوا بالعفّة والصون، فإنه إنما أصبحت الحياة الإنسانية، إنسانية، بدخول القيمة فيها، إذا فقدت هذه القيمة، انحطت لتصبح مجرّد حياة حيوانية، لا قيمة لها، ولا عبرة بها.. ولحسن الحظ، فإن ما يقوله الدكتور شعلان، لا ينطبق إلا على بعض المجتمعات الغربية المتحلّلة.. وهو دليل على تدهور الحضارة الغربية، وإرهاص بميلاد مدنية جديدة، توكّد القيم الإنسانية وتصونها وتنمّيها.. بقي أن يعلم القارئ أن الدكتور شعلان هذا، هو (الأستاذ المساعد ورئيس قسم الأمراض العصبية والنفسية في كلية الطب، جامعة الأزهر)!! وإذا أراد دعاة محاربة الخفاض الفرعوني أن يعرفوا لماذا لا تثمر دعوتهم، فلينظروا إلى حديث دكتور شعلان هذا الذي أوردناه فإنه لهو أكبر تجسيد لسلبيات الدعوة القائمة اليوم لمحاربة الخفاض الفرعوني، وانه لهو أكبر دليل على أنها دعوة بلا وعى، وبلا علم، وبلا فهم!!

لا حياء في الدين:


إن عبارة لا حياء في الدين، عبارة أسيء استخدامها وأصبحت تستعمل كستار للتبذّل، ولاستخدام العبارات النابية، والمسفّة، من قبل بعض الوعاظ، ورجال الدين، ومن يجارونهم، وهذا دليل على رقّة الدين، وغياب الحس السليم.. فإن الأمر في الدين على عكس ما يتوهمون.. ففي حقيقة الأمر، لا دين لمن لا حياء له.. وقد نهى النبي عن الفحش والبذاءة فقال: (ليس المؤمن بطّعان، ولا لعّان، ولا فاحش، ولا بذيء)..
وقد جاء عن شمائله صلّى الله عليه وسلم، انه كان أشد حياء من العذراء ى خدرها، فقد قال أنس: (كان النبي أشد حياء من العذراء في خدرها).. والأحاديث النبوية عن الحياء كثيرة، منها مثلا قوله صلى الله عليه وسلم: (الحياء خير كله).. وعن أبى هريرة، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء والجفاء في النار)..
ومن أوضح الأحاديث الدالّة على قيمة الحياء، وعلى الاستخدام الصحيح لعبارة (لا حياء في الدين).. حديث عائشة، والذي جاء فيه: (أن أسماء سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المحيض فقال: (تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتطّهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكا شديدا حتى يبلغ شؤون رأسها ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ قرصة ممسكة فتطّهر بها فقالت أسماء: فكيف تطهر بها؟ فقال سبحان الله! تطّهرين بها، واستحيا النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض بوجهه.. فقالت عائشة: تمرّين بها على موضع الأذى.. ثم قالت نعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهنّ الحياء أن يتفقهن في الدين).. فالنبي استحيا من أن يفّصل لها ـ وقد شرحت لها عائشة ـ هي لم يمنعها الحياء من أن تسأل في أمور دينها.. هذا هو المستوى الذي يمكن أن تستخدم فيه عبارة (لا حياء في الدين)، استخداما صحيحا.. أما اتخاذ العبارة كمبرّر للفحش والبذاءة، والإسفاف، فهو أمر مناقض للدين نصا، وروحا، وهو أمر يأباه مجرّد الحس السليم.. وهو حين يمارس أثناء التوعية، بمضار عادة الخفاض، يبعث على عدم الثقة في دين الدعاة، ويزيد في حرص الشعب على عادة تحفظ عليه دينه وعرضه..