إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

تطوير شريعة الأحوال الشخصية

خـاتمــة:


أما بعد فإن هذه هي الخاتمة.. وهي خاتمة قد أفضينا إليها بعد تطواف طويل، مررنا فيه على القمم الشواهق من أصول الديـن.. ونحـن، الآن، وهـنا، على موعد مع إحدى كبريات حقائق عصرنا الحاضر، وتلك هي أن هذه الحضارة المادية، العلمية، الآلية، العملاقة، تواجه الديـن - من حيث هو ديـن- بتحد لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية الطويل العريض.. إن هذه الحضارة ((التكنولوجية)) ليست رجسا من عمل الشيطان، وإنما هي من صنع العـزيز الحكيـم.. وحكمته وراءها لا تنفـد.. ولكن من أجلها، وأعظمها، هذا التحدي الذي أخذت تواجه به الدين.. فإن هذه الحضارة العلمية العملاقة قد استخدمت الآلة استخداما ألغى الزمان والمكان إلغاء يكاد يكـون تاماً.. وكان من جراء ذلك أن توحد هذا الكوكب، الذي نعيـش فيه، ((جغـرافيا)) توحيداً جعل سكانه جيرانا.. والجوار بالأقطار كالجوار بالأبيات، يقتضي طيب المعاملة، وحسن الخـلق، وسعة التسامح.. ولقـد كان المعصوم يوصي كثيراً بحسن معاملة الجار.. حتى لقد قال مرة: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)).. وحسن الجـوار في مستوى الأقطار يتطلب حسن خلـق من النسق العالي الذي لـم يجيء الدين إلا لتحقيـقه.. وقد قال المعصوم مرة في إيجاز مهمته كرسول: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) فكأنه قد قال: ما جئت إلا لأتمم مكارم الأخلاق.. ومكارم الأخـلاق، جماعها، وقمتـها، حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة.. وأيسر ذلك وأدناه ألا يتعدى الفرد، في قول، ولا في عمـل، على حريات الآخرين.. ولا يتحقق هذا النسق السامي من حسن التصرف إلا بقوة الفكر المروض بأدب شريعة الدين، وأدب حقيقته.. وإنما من أجل ترويض الفكر على هذا النسق العالي من الصفاء، والسلامة، وسعة الإدراك، نزل القرآن، وشرعت الشريعة.. قال تعالى في ذلك: ((وأنزلنا إليك الذكر، لتبين للناس ما نزل إليهم.. ولعلهم يتفكرون..)).. قوله: ((وأنزلنا إليك الذكر))، يعني القرآن جميعه، في مستوياته الثلاثة: الفـرقان، والقرآن، والذكـر.. قـوله: ((لتبين للناس ما نزل إليهم))، يعني ما تدنى، وتنـزل، إلى مستوى فهومهم من سماء أصول القـرآن، إلى أرض فروعه.. ولقد تحدثنا عن الأصول، والفروع، في هذا الكتاب، وفي كتابنا: ((الرسالة الثانية من الإسلام))، بما يغني عن الإعادة هنا.. والمقصود بالتبيين هنا، من قوله: ((لتبين للناس)) إنما هو التبيين بالشرح، وبالتفسير، والتبيين بالتشريع أيضا.. ثـم قـال ((ولعلهم يتفكرون)) فأبان أن الغرض من إنزال القـرآن، ومن تفصيل التشريع، إنما هو ترويض الفكر على الصفاء، الذي هو وسيلة القلب إلى السلامة.. ولا تتم ((مكـارم الأخـلاق)) إلا بالفكر الصافي، والقلب السليم.. الفكر الصافي من كدورة الأوهـام، والخرافات، والأباطيـل.. والقلب السليـم من المخـاوف، التي جعلتـه بيتـاً تعشعـش فيه سخائم الكراهيـة، والحقـد، والحسـد..
إن التحدي الكبير الذي تواجه به حضارة ((التكنولوجية)) العظيمة الدين يتلخـص، جميعه، في كلمة ((السلام)).. فإن الأرض بهذه الحضارة قد توحدت، كما أسلفنا القول.. وهذا الوطن الموحد يطلب إلى سكانه أن يتوحدوا، بصرف النظر عن مللهم، وعن ألسنتهم، وعن ألـوان بشرتهم.. ولا يتـم هذا التوحيد إلا بتنمية، وبتحرير، المواهب المشتركة بين جميع البشر.. وما المواهب المشتركة بينهم جميعاً إلا موهبة القلب، والعقل.. وإنما من أجل تنمية هاتين الموهبتين، ومن أجل تحريرهما جاءت جميع الأديان.. وللأديان، وبخاصة الإسلام، مرحلتان: مرحلة ((العقيـدة))، ومرحلة ((العـلم)).. فأما مرحلة ((العقيـدة)) فإنها تفرق الناس ولا تجمعهم.. والقاعدة فيها: ((كل حزب بما لديهم فرحون)).. لا يجمـع النـاس إلا مرحـلة ((العـلم)). فعلى (العقيـدة)، من ديننا، قامت أمة (المؤمنين).. وعلى (العـلم)، من ديـننا، تجيء أمة (المسلمين).. وهـذه هي الأمة التي ستنتـظم في صفوفـها سائر بشرية هـذا الكوكب.. وإلى ذلك أشار تبارك، وتعالى، حين قال: ((هـو الذي أرسل رسوله، بالهـدى، وديـن الحـق، ليظهره على الدين كله.. وكفى بالله شهيدا)).. ((الهـدى))، ((النور)) لهداية القلوب إلى السلامة من الخـوف.. ((ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله.. ومن يؤمن بالله يهد قلبه.. والله بكل شئ عليم)).. و ((الحـق))، ((الحكمة)) لهداية العقول.. (ولا تلبسوا الحق بالباطل، وتكتموا الحـق، وأنتم تعلمون).. وموهبتا القلب والعقل هما الموهبتان المشتركتان بين جميع البشر بصرف النظر عن مللهم، وألسنتهم، وألوان بشرتهم.. وإلى هاتين الموهبتين المشتركتين بين الناس، أشار، تبارك، وتعالى بقوله: ((فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله، التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الديـن القيم.. ولكن أكثـر الناس لا يعلمون))..((فطرة الله التي فطر الناس عليها)) هما هاتان الموهبتان.. وقد سمى الإسلام ((دين الفطرة)) لعظيم أثره في تحرير هذه الفطرة - القلب من المخاوف.. والعقل من الأباطيل.. وسبيله إلى ذلك إنما هو ((العـلم)).. وهذا هو السر في أن الفاصلة في الآية جاءت بقوله تعالى ((ولكن أكثر الناس لا يعلمون)).. ومرحلة ((العـلم)) في الإسـلام تجـيء بعـد مرحـلة ((العقيـدة)).. فإنما هما مرحلتان: مرحلة ((العقيـدة)) على ثلاث درجات: الإسلام، والإيـمان، والإحسان.. ومـرحله (العلـم) علي ثلاث درجات: علـم اليقين، وعلم عين اليقين، وعلم حق اليقين.. وهـذه، وتلك، تكـونان، بينهما، ست درجات، تتـوج بالدرجـة السابعـة، وهي ((الإسلام)) الذي هو ديـن الفطـرة..
هذا الإسلام هو الذي يواجه، ممثلا لجميع الأديان، هذا التحدي الذي تواجه به هذه الحضارة الآلية، العلمية، المادية العملاقة، جميع هذه الأديان.. والإسلام في هذا المحتوى، وفي هذا المستوى - مستوى ((العـلم)) - إنما حوته أصول القرآن، لا فروعه.. وهذا هو الأمر الذي حملنا على القول بتطوير الشريعة من الفروع، إلى الأصول، ومن مستوى شريعة الرسالة الأولى، إلى مستوى شريعة الرسالة الثانية..
إن هذا الإنسان المعاصر، الذي ذهب إلى القمر، يجوس خلاله، ويستكشف مجاهيله، وأرسل مركباته بآلاتها إلى كوكب المريخ، ترسل صوره، واضحة جلية، هذا الإنسان المتطلع إلى المجهول، الكلف بالغيب، الموكل بالفضاء الخارجي، يجوب بآلاته آفاقه، انما هو، في خفية أمره، يبحث عن نفسه، وهو لا يشعر.. هو يبحث عن نفسه التي أضلها تحت ركام الخرافات، والمخاوف، والأوهام، والأباطيل، عبر قرون لا حصر لها، من تاريخه الطويل.. وسيظل يبحث عنها، وسيجدها، وسيتعرف اليها، وسيكون في سلام معها.. وبهذا، وبهذا وحده، سيحقـق السلام مع الأحياء الآخرين.. فإنه، ما دام هو منقسما على نفسه، وعلى جهل بها، وفي حرب معها، فإنه لن يعطي الآخرين سلاماً، بل حرباً، ذلك بأن فاقد الشئ لا يعطيه..
في عهد فرعون موسى، عندما كان الأمر الغالب على العصر هو السحر، فقد جاءت رسالة موسى بالحق بصورة بزت سحر السـحرة، وأبطلته، فظنوه سحراً، وما هو إياه، وإنما هو يشبهه، ويختلف عنه.. ولقد قص الله علينا من خبره، فقال، جل من قائل: ((ولقد أريناه آياتنا، كلها، فكذب، وأبى * قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى * فلنأتينك بسحر مثله، فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه، نحن ولا أنت، مكاناً سوى * قال: موعدكم يوم الزينـة، وأن يحشر الناس ضحى * فتولى فرعون، فجمع كيده، ثم أتى * قال لهم موسى: ويلكم!! لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب.. وقد خاب من افترى * فتنازعـوا أمـرهم بينهم، وأسروا النجوى * قالوا: إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما، ويذهبا بطريقتكم المثلى * فأجمعوا كيدكم، ثم أتوا صفاً.. وقد أفلح اليوم من استعلى * قالوا: يا موسى إما أن تلقي، وإما أن نكون أول من ألقى * قال: بل ألقوا.. فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى * فأوجس في نفسه خيفة موسى * قلنا: لا تخف!! إنك أنت الأعلى * وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا.. إنما صنعوا كيد ساحر.. ولا يفلح الساحر حيـث أتى * فألقي السحرة سجداً.. قالوا: آمنا برب هارون وموسى * قال أآمنتم له قبل أن آذن لكم؟؟ إنه لكبيركم الذي علمكم السحر.. فلأقطعن أيديكم، وأرجلكم من خلاف.. ولأصلبنكم في جذوع النخل.. ولتعلمن أينا أشد عذاباً، وأبقى * قالوا: لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات، والذي فطرنا، فاقض ما أنت قاض.. إنما تقضي هذه الحياة الدنيا)).. فقد جاءهم الحق بصورة تشبه ما عندهم، ولكنه بز ما عندهم، وفاقه، فعرفوه واستيقنوه، وأذعن له من كان له بصر بالأمور..
وفي عهد عيسى، حين كان الغالب عليهم، والمعظم في صدورهم الطب، جاءهم الحق في صورة تشبه ما عندهم، ولكنها أعظم منه، فقال، جل من قائل: ((ورسولا إلى بني إسرائيل: أني قد جئتكم بآية من ربكم، أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير، فأنفخ فيه، فيكون طيراً بإذن الله.. وأبرئ الأكمه، والأبرص، وأحيي الموتى، بإذن الله، وأنبئكم بما تأكلون، وما تدخرون في بيوتكم.. إن في ذلك لآية لكم، إن كنتم مؤمنين)).. فجاءهم الحق بصورة تشبه ما عندهم، وما يعظم في صدورهم، ولكنه زاد عليه فعـرفوه، واستيقنـوه، وأذعـن له منهـم من سبقـت له من الله عناية..
ثم جاء عهد محمد، فكان الغالب عليه، والمعظم فيه، قوة البيان، وفصاحة اللسان، والعناية بإقناع العقول.. ولم تكن المعجزات في عهد موسى، وعيسى، تهمل إقناع العقول، ولكنها كانت تتجه، في المكان الأول، لتبهر العيون، وتسترهب العقول، بالخوارق.. ولكن معجزة محمد كانت تتجه، في المكان الأول، إلى مخاطبة العقول، لإقناعها بالبيان المعجز، في شمول في العبارة، وعمق في الإشارة، ودقة في المعنى.. هو يقول ((كذلك يبين الله لكم آياته.. لعلكم تعقلون)).. ويقول ((كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون)).. وكذلك كانت معجزة القرآن، ((البيان)).. ثم هو دعوة إلى الفكر ليس لها نظير.. قال تعالى، في ذلك: ((وأنزلنا إليك الذكر، لتبين للناس ما نزل إليهم.. ولعلهم يتفكرون)) فلكأنه تعالى قد جعل الغرض من إرساله رسوله، ومن إنزاله قرآنه ومن تفصيله تشريعه، إنما هو ((الفكر)).. ولكن هذا المستوى السامي من أغراض الدين لم يتحقق.. وهو لا يتحقق إلا في المرحلة العلمية منه التي تقوم على أصول القـرآن.. وذلك لأن الفكـر إنما هـو سمة مرحلة ((العلم)) من الإسـلام، لا مـرحلة ((العقيـدة)) منـه.. ولقد بينا أن الإسلام قد جاء في مرحلتين لأمتين.. مرحلة ((الإيمان)) لأمة المؤمنين.. وهذه تقع في ثلاث مراتب: الإسلام، والإيمان، والإحسان.. ولقد حواها حديث جبريـل المشهور.. ومرحلة ((الإيقان)) لأمة المسلمين، وهي أمة لم تجئ إلى اليوم، وإنما هي مقبلة.. وقد عناها النبي الكريم بحديث الإخوان المشهـور.. فإنه قد قال: واشوقاه لإخواني الذين لما يأتوا بعـد!! قالوا: أولسنا إخوانك، يا رسول الله؟! قال: بل أنتم أصحابي!! واشوقاه لإخواني الذين لما يأتوا بعـد!! قالوا: أولسنا إخوانك، يا رسول الله؟! قال: بل أنتم أصحابي!! واشوقاه لإخواني الذين لما يأتوا بعـد!! قالوا: ومن إخوانك، يا رسول الله؟! قال: قوم يجيئون في آخر الزمان، للعامل منهم أجر سبعين منكم!! قالوا: منا أم منهم؟؟ قال: بل منكم!! قالوا: لماذا؟؟ قال: لأنكم تجدون على الخير أعوانا، ولا يجدون على الخير أعوانا!! وهذا الحديث الشريف مأخوذ من القرآن الكريم.. من قوله تعالى: ((هـو الذي بعث في الأميين رسولا منهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب، والحكمة، وإن كانـوا، من قبـل، لـفي ضلال مبيـن * وآخرين منهم، لما يلحقوا بهـم.. وهو العزيز الحكيم * ذلك فضل الله، يؤتيـه من يشـاء.. والله ذو الفضل العظيم)).. أشار إلى الإخوان الذين لما يأتوا بعـد، بقوله: ((وآخرين منهم، لما يلحقوا بهم)).. وجاء بقوله: ((ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.. والله ذو الفضـل العظيـم)).. في مقام الرد على التساؤل ((لماذا؟؟)) الذي ورد الرد عليه في الحديـث بقـوله: ((لأنكم تجدون على الخير أعوانا، ولا يجدون على الخير أعوانا ً))..
أمة المسلمين التي لما تأت بعد يكون دينها ذا سبع مراتب: ثلاث مراتب ((الإيمان)).. وثلاث مراتب ((الإيقان)).. ثم تتوج هذه ست المراتب بمرتبة الإسلام.. وهذا هو الإسلام الذي عناه الله، تبارك، وتعالى، حين قال: ((ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه.. وهو في الآخرة من الخاسرين)).. ومراتب الإيقان، التي لم ترد في حديث جبريل، حواها القرآن.. وهي فوق مراتب الإيمان.. هي مراتب ((علـم)).. مراتب علم اليقين، وعلم عين اليقين، وعلم حق اليقين.. وهذه هي مستوى آيات الأصول، التي كثيرا ما تحدثنا عنها، في هذا الكتاب، وفي غيره من كتبنا.. ولقد قصدنا، بحديثنا المستفيض عن مرحلة ((العـلم)) من الإسلام إلى أن الإسلام ((عـلم نفس)).. فعلم النفس هو ما يحتاجه الإنسان المعاصر كما سبق أن بينا..
يقول الله تعالى: ((إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، ويبشر المؤمنين، الذين يعملون الصالحات: أن لهم أجراً كبيراً)).. ههنا الحديث الأساسي عن مرحلة المسلمين، وهؤلاء هم المهديون إلى التي هي أقوم.. والتي هي أقوم إنما هي ((النفس الكاملة)).. لأنها هي على جادة الإستقامة.. وعندما قال النبي الكريم شيبتني هود وأخواتها، إنما عنى من هود قوله: ((فاستقم، كما أمرت، ومن تاب معك، ولا تطغوا.. إنه بما تعملون بصير..)) والاستقامة هنا إنما هي لزوم ((العبودية)) التي هي حد العبد، والطغيان هو الزيادة عن هذا الحد، بدخـول رائحة إدعاء ((الربوبية))، التي هي آفـة العبودية السرمدية، والتي لا تنفك عنها على المدى.. ومنهاج هداية المسلمين إلى النفس الكاملة هو ((عـلم النفس)) ولقد تحدثنا، بشئ من التفصيل، عن هذا في مقدمة كتابنا ((أسئلة وأجوبة)).. الكتاب الأول..
ومن أوضح ما في هذا الباب، من القرآن، قوله، تبارك، وتعالى: ((وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه، ونخرج له، يوم القيامة، كتابا يلقاه منشورا * اقرأ كتابك!! كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا * من اهتدى، فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل، فإنما يضل عليها.. ولا تزر وازرة وزر أخرى.. وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)).. ونحب أن نلفت النظر إلى التوكيد على الفردية الوارد في هذه الآيات الثلاث..
وأما في الآية السابقة فإن المهديين إلى التي هي أقوم إنما هم ((المسلمون)).. وأما ((المؤمنون)) فإنهم مبشرون ((بالجنة)) قال: ((ويبشر المؤمنين، الذين يعملون الصالحات: أن لهم أجراً كبيراً)).. وشتان بين هؤلاء، وأولئك..
وبالرجوع إلى ما أسلفنا الإشارة إليه، من أن المعجزة التي تظهر مع الرسالات إنما هي بسبيل مما يكبر في صدور الناس الذين أنزلت إليهم تلك الرسالات، نجد أن القرآن قد جاء في عهد البلاغة التي كانت كبيرة في صدور العرب، وعظيمة الوقع على نفوسهم، جاء بالإعجاز في هذا الباب، من شمول العبارة، ولطف الإشارة، وفصل الخطاب، ودقـة المعنى.. هذا في استعماله لأواني التعبير العربي - اللغة العربية، ولطالما أشرنا إلى أن القرآن ليس اللغة العربية.. ونعني بذلك: أن اللغة العربية لا تحمل كل معانيه، إنما القرآن عـلم، هو علم النفس البشرية التي اغتربت عن موطنها.. وهي الآن في سبيل الرجعى إليه.. والقرآن هو خط سيرها، في الصـدور، والورود.. وهو إنما صب في قوالب التعبير العربي ليكون منهاجاً لها، به تتحقـق لها الرجعى.. قال تعالى، عن حقيقة القرآن، وعن مظهره: ((حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرآنا عربيا، لعلكم تعقلون * وإنـه، في أم الكتاب، لدينا، لعلي حكيم)).. فالقـرآن حقيقته.. في أم الكتاب.. وأم الكتاب، هنا، هي الذات الإلهية.. فإنه، عندما قال ((لدينا))، قد خرج بالصورة عن الزمان والمكان، فلحقت بالذات.. فهذه هي حقيقة القرآن.. ثم إنه تنزل المنازل، حتى لقد طوعت أواني التعبير العربي لتحمل أكبر قدر من هذا الإطلاق.. والحكمة في ذلك هي أن نفهم نحن: ((إنا جعلناه قرآنا عربياً، لعلكم تعقلون)).. وتطويع أواني التعبير العربي لتحمل هذا الفيض الزاخر من العلم، هو إعجاز التعبير، الذي ووجه به العرب، فلم يستطيعوا أن ينهضوا لتحديه، فأذعنوا له، واستيقنته نفوسهم، وآمن له منهم من سبقت له من الله العناية..
ولكن التعبير باللغة العربية إنما هو ظاهر القرآن.. وللقرآن ظاهر، وباطن، وله حد، ومطلع.. ولقد تحدثنا عن كل أولئك في كتابنا: ((أسئلة وأجوبة)).. ويكفي أن نقول هنا: أن ظاهره هو بمثابة آيات الآفاق.. وأن باطنه هو آيات النفوس.. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: ((سنريهم آياتنا، في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحق.. أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد؟؟)) وكل باطن من القرآن داخله باطن.. ولا تتناهى الصور، على الإطلاق.. لأن نهايتها في الإطلاق - في الذات الإلهية - وحين كانت معجزة الرسالة الأولى من الإسلام هي بلاغة القرآن، فإن معجزة الرسالة الثانية من الإسلام هي ((علمية)) القرآن.. فإن هذا العصر الحاضر هو عصر العلم.. العلم المادي التجريبي.. هذا هو أعظم شئ في صدور الناس الآن، وسيجيء الحـق، في الرسالة الثانية من الإسلام بصورة تشبه هذا العلم، ولكنها تبزه، وتتفوق عليه.. وسيذعنون لها، وستستيقنها نفوسهم، وسينقادون لها.. لا يشذ عنها شاذ، ولا يعصي أمرها عاص.. يقول تعالى في ذلك: ((طسم * تلك آيات الكتاب المبين * لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين * إن نشأ ننزل عليهم، من السماء، آية فظلت أعناقهم لها خاضعين)).. وهذه الآية إنما هي بيان الكتاب المبين المطوي في آية ((طسم)) هـذه.. وهـذه هي مهمة الرسالة الثانية من الإسلام.. هذا مجال التفاوت في فردياتها.. تلك الفرديات التي تنشأ على أديـم مجتمـع تحكم علائـق أفراده الشريعة التي تقـوم على أصول القرآن..
إن ((شريعة الأحوال الشخصية)) هي أهم شريعة في الإسلام، بعد شريعة العبادات.. ولقد حاولنا، في مضمار الحديث عنها، أن نشقق الحديث عن آصل أصول الدين، لأنها هي من أكبر مجالي، ومجالات، هذه الأصـول الأصيلة..