إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

جنوب السودان
المشكلة!! والحل!!

ما بعد ثورة أكتوبر


لقد ضمت حكومة اكتوبر الانتقالية، اثنين من الوزراء الجنوبيين من بينهم وزير الداخلية. وقد رحب حزب سانو الجنوبي بالنظام الجديد وأرسل مذكرة الي رئيس الوزراء الجديد السيد سر الختم الخليفة ن يعبر فيها عن رغبة الجنوبيين خارج البلاد في العودة الي البلاد وفق بعض الشروط التي حددتها المذكرة.. وقد أشارت مذكرة سانو الي أن (الفدريشن) هو الحل الوحيد الممكن للمشكلة.. وفي هذه الفترة ظهر تنظيم يضم المثقفين الجنوبيين بالخرطوم تحت اسم (جبهة الجنوب)، وقد اعتبرت الجبهة الممثل لوجهة نظر الجنوبيين ودعيت للاشتراك في الحكومة القومية، وقد كانت جبهة الجنوب منذ تكوينها تعمل في تعاون تام مع حزب سانو الذي كان مركزه بكمبالا في يوغندا..
وفي نوفمبر 1964 أعلن رئيس الوزراء أن مشكلة الجنوب تجد الاهتمام الكبير من حكومته، وأن المشكلة لا يمكن أن تحل بالطرق العسكرية، ودعا الي السلام والحل عن طريق المفاوضات.. وفي ديسمبر من نفس العام أعلن رئيس الوزراء العفو العام عن كل الذين فروا خارج البلاد، منذ أحداث عام 1955، وعن كل المطلوبين للمحاكمة في قضايا سياسية.. وطلب من الجنوبيين اللاجئين في الدول المجاورة، والزعماء السياسيين العودة الي البلاد.. ثم أرسل اثنين من الوزراء الي يوغندا لتوقيع اتفاقية مع حكومتها بخصوص اللاجئين السودانيين، واجراء مفاوضات مع زعماء حزب سانو لإقناعهم بالعودة الي السودان..


مؤتمر المائدة المستديرة


بعد المفاوضات تم التوصل الي اتفاق يعقد بمقتضاه مؤتمر في جوبا لمناقشة القضية بين الأطراف المختلفة، ولكن ظهر أن عقد المؤتمر بجوبا غير ممكن بسبب هجمات الأنانيا المستمرة رغم مطالبة حزب سانو لهم بوقف القتال، فتأخر المؤتمر عن المواعيد المحددة له.. ولقد انقسم حزب سانو الي جناحين: جناح متطرف يقف مع انفصال الجنوب ويري أن تكون المفاوضات خارج السودان وكان بقيادة جوزيف أدوهو.. وجناح معتدل يقف مع (الفدريشن) ولا يمانع في أن تتم المفاوضات داخل السودان، وكان بقيادة وليم دينق.. وكان الانقسام في حزب سانو يرجع الي أسباب سياسية، وقبلية، الي جانب الصراع حول الزعامة.. وقد ظلت (جبهة الجنوب) موحدة، وقد ساعد وجود وزيرين منها بالحكومة، هما كلمنت امبورو وأزبوني منديري، على تقويتها وتنظيمها.. أما التنظيم الجنوبي الثالث، (حزب وحدة السودان)، الذي يتزعمه سانتينو دينق، وفلمون ماجوك، فقد كان أقل نفوذا من التنظيمين الآخرين.
وبسبب اللقاء في الأهداف تعاون الجناح المتطرف من حزب سانو مع (جبهة الجنوب) وحاولا ابعاد الجناح المعتدل.. واخيرا تم الاتفاق على أن ينعقد ما سمي بمؤتمر المائدة المستديرة بالخرطوم في مارس 1965 تحت رئاسة النذير دفع الله مدير جامعة الخرطوم آنذاك..
ويضم المؤتمر خمسة واربعين ممثلا للأحزاب الشمالية والجنوبية، حوالي ثمانية عشر ممثلا للشماليين، وحوالي سبعة وعشرين ممثلا للجنوبيين.. هذا الي جانب وجود مراقبين من يوغندا، كينيا، تنزانيا، غانا، نيجيريا، الجزائر، والجمهورية العربية المتحدة..
وقد اتفق ممثلو الاحزاب الشمالية على اقتراح مشروع يحدد العلاقة الدستورية بين الشمال والجنوب.. وقد تضمن مشروع الأحزاب الشمالية بعض المطالب التي كان ينادي بها حزب سانو، ودعاة الحكم الفدرالي في الماضي، وذلك مثل نائب لرئيس الجمهورية جنوبي، واقامة برلمان محلي، ووزارة إقليمية بالجنوب، وجامعة بالجنوب..
وفي حين ان ممثلي الاحزاب الشمالية استطاعوا ان يكونوا جبهة موحدة، ويتفقوا على حل سياسي موحد للمشكلة، نجد ان الزعماء الجنوبيين كانوا منقسمين على أنفسهم، وفشلوا في ان يصلوا الي اتفاق فيما بينهم.. ولما كانت اغلبية ممثلي الاحزاب الجنوبية من المتطرفين، فقد رفضوا حتى مجرد اعتبار الحكم الفدرالي، وكانوا يطالبون بالاستقلال، او الانفصال للجنوب.. وفي النهاية اتضح انه لا يمكن التوصل الي اتفاق في الوقت الحالي، فتم الاتفاق على تكوين لجنة لمواصلة النقاش.. وفي اجتماع مغلق وافق الجنوبيون على ان تبعد اللجنة أي مشروع يؤدي الي الانفصال، واشترطوا الا يعلن هذا الاتفاق..
ورغم فشل المؤتمر في التوصل الي حل، الا أنه كشف للشماليين عدم ثقة الجنوبيين فيهم، وأعان كلا من الجانبين على تصور الفريق الآخر، والمنطلقات التي ينطلق منها.. وبصورة عامة كان المؤتمر تجربة مفيدة الي حد ما في اتجاه الحل.. ولكن من الناحية فقد استغل الأنانيا فترة السلام التي اعقبت ثورة اكتوبر لتنظيم أنفسهم ولجمع السلاح، وبدأوا يهاجمون الجيش، ونقاط البوليس، الأمر الذي أدي الي استمرار الصراع الدموي..
بعد فشل مؤتمر المائدة المستديرة في الوصول الي حل سياسي، اصبحت الاحزاب الجنوبية مقسمة بين تيارين.. تيار يري وحدة السودان وهو مكون من حزب الوحدة بالإضافة الي الجناح المعتدل من حزب سانو، والذي يتزعمه وليم دينق.. وتيار آخر يري الانفصال، ويعمل له، وهو يتكون من زعماء جبهة الجنوب الذين يعيشون خارج السودان، والجناح المتطرف من حزب سانو، الي جانب الأنانيا.. وقد أصبح دعاة الانفصال من الجنوبيين يرون ان العنف والمقاومة العسكرية هما السبيل الوحيد لتحقيق غرضهم.. وقد اتضح للحكومة أنه لا يمكن الوصول الي حل سياسي ما لم يتم القضاء على ارهاب الأنانيا، ولذلك صعدت الحكومة العمل العسكري ضد الأنانيا في عام 1965، واتجهت الي التعاون مع الجنوبيين الذين يؤمنون بوحدة السودان.. وعملت على اقامة قرى سلام آمنة.. ومما زاد من العنف أن الأنانيا استطاعوا أن يتحصلوا على السلاح من ثوار الكنغو الذين كانوا قد هزموا في تلك الفترة.. ومن العوامل التي أثرت على الأحداث في تلك الفترة تعديل الدستور المؤقت وطرد النواب الشيوعيين من البرلمان.. فقد اعتبر الجنوبيين هذا الاجراء دليلا على عدم احترام الاحزاب الكبيرة في الشمال للدستور، مما يوجب عدم الثقة بها، فهي، في أي وقت، يمكن أن تعدل الدستور لتقوم بما تراه في الجنوب، فقد زاد هذا الاجراء في عدم ثقة الجنوبيين في الاحزاب الشمالية..
كما أنه في هذه الفترة ظهرت (جبهة الميثاق الإسلامي) وهي تنظيم أقامه (الاخوان المسلمون)، فدعت الي ضرورة قيام دستور إسلامي في البلاد، وجارتها الاحزاب الأخرى في ذلك، فاستغل دعاة الانفصال في الجنوب هذا العمل، واتهموا الأحزاب الشمالية بالعمل على فرض الإسلام على الجنوب.. وهكذا تعقدت المشكلة بصورة أكبر على يد الاحزاب التقليدية التي أجهضت ثورة اكتوبر، وزاد من تعقيد المشكلة سوء الاحوال الاقتصادية في البلاد بصورة عامة..
وفي خارج البلاد توحدت جبهة التحرير الأفريقية (A.L.F) مع حزب سانو ليكونا ما سمي (جبهة تحرير أزانيا (Azania Liberation Front).. وكان غرضهم المعلن هو تحقيق الانفصال، والاستقلال لجنوب السودان.. وفي الداخل استمرت جبهة الجنوب كتنظيم معترف به يعمل في الشمال والجنوب ويدعو للانفصال..
وقد استمر الوضع في الجنوب على هذه الحالة من السوء، والتقصير، وقد توسعت أعمال الأنانيا الارهابية، وتفاقم العمل العسكري الي أن قامت ثورة مايو 1969..