إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

جنوب السودان
المشكلة!! والحل!!

خاتمة


لقد أرخنا في كتابنا هذا، بصورة موجزة، لمشكلة جنوب السودان، منذ بدايتها وحتى وقتنا الحاضر.. وبينا بعض الظروف والملابسات التي صحبت نشأتها وتطورها، وبعض المحاولات التي قامت لحلها حتى اتفاقية أديس أبابا 1972، تلك الاتفاقية التي قدمت لها الحل السياسي، والذي هو خطوة هامة في اتجاه الحل الحضاري الذي يقضي على جذور المشكلة.. وقد بينا موقف جماعة الأخوان المسلمين، كجماعة دينية سلفية، من هذه المشكلة، وبينا موقفنا نحن الجمهوريين منها.. ثم ختمنا كتابنا بالحديث عن القضية الأخيرة، قضية تقسيم الإقليم الجنوبي الي أكثر من إقليم واحد، وهي قضية عن طريقها أطلت مشكلة الجنوب برأسها من جديد.. وقد برهنت هذه القضية الأخيرة بصورة عملية، ان الحل السياسي وحده لا يكفي، وهو لن يكون الحل الجذري للمشكلة، وانما الحل الجذري هو حل حضاري، كما ذكرنا، يصحح القيم، ويقتلع أسباب العداوة، من داخل النفوس.. وهذا الحل لن توفره الحضارة الغربية المادية السائدة اليوم، والتي فشلت فشلا ذريعا، في حل مشاكل الإنسانية المعاصرة، حتى انها أصبحت تعمل للحرب والدمار أضعاف ما تعمل للسلام.. وفشل الحضارة الغربية هذا هو الذي اقتضي، وحتم ظهور مدنية جديدة، تحل مشكلات الحياة المعاصرة المعقدة، والتي ما مشكلة جنوب السودان الا نموذجا لها.. فالبشرية اليوم، وفي كل بقاع الأرض، تحتاج الي القيم الاخلاقية، والروحية، لتشفع بها القيم المادية القائمة، فتقيم على الأرض السلام.. وهذا لن يتم الا عن طريق الدين.. ولذلك فان البشرية، في جميع بقاع الأرض، في حاجة ملحة للدين.. ولكنها لا تحتاج الدين في مستواه العقيدي.. فالدين في المستوى العقيدي لا يقضي على اسباب العداوة، والصراع، وهو يفرق، ولا يجمع.. ولقد رأينا كيف أن الصراع العقيدي كان من اكبر أسباب قيام مشكلة الجنوب..
فالدين الذي تحتاجه البشرية اليوم لتقيم به مدنية السلام والذي به تجد مشكلة الجنوب حلها الجذري، انما هو الإسلام في مستواه العلمي، لا العقيدي.. والإسلام، في هذا المستوى انما يستطيع ان يحقق السلام لأنه يعطي الإنسان التصور الصحيح لبيئته، ويعينه على التواؤم معها.. ولأنه في قاعدة تشريعه، في مستواه العلمي يقوم على القانون الدستوري، الذي يوفق بين حاجة الفرد للحرية الفردية المطلقة وحاجة الجماعة للعدالة الاجتماعية الشاملة، ويرفع الوصاية عن الراشدين من الرجال والنساء، ويجعل كل فرد بشري هو غاية في ذاته، فلا يصح، بحال من الأحوال، ان يتخذ وسيلة لغيره..
وهو بذلك يقضي على جميع أسباب الصراع، والتفرقة القائمة في الأرض الآن.. وهو إنما يستطيع ذلك لأنه يملك المنهاج العلمي، والعملي، لتربية الأفراد، بصورة لا تتوفر في أي جهة سواه.. فالعبادة، والمعاملة، وفق منهاج السنة، في تقليد النبي الكريم، انما هي عمل الغاية الاساسية منه، تحقيق السلام الداخلي، في كل نفس بشرية – السلام مع الله، والسلام مع النفس، والسلام مع الناس، والسلام مع الأحياء، والأشياء.. هذا هو المسلم، وهذا هو معني وصف المعصوم له بقوله: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه، ويده)، اذ المسلمون هنا تعني أيضا الأحياء والأشياء، (وله أسلم من في السموات والأرض، طوعا، وكرها، واليه ترجعون!!)
بهذا المستوى من الدين يتحقق السلام على الأرض، وذلك عندما يرد عليها الخطاب من الأعالي بقوله تعالي: (سلام قول من رب رحيم).. فيتجلى الله على الأرض باسمه السلام، فتشرق الأرض بنور ربها.. وهذا عهد قد أظلنا!! وستكون بلدنا هذه المباركة رائدة الإنسانية اليه!! وشعبنا هذا الكريم، معلم الشعوب فيه.. وما ذلك على الله بعزيز.. وقبل أن نختم هذه الخاتمة لا بد لنا من تبيين أمر يهم اخواننا الجنوبيين، بصورة خاصة، ويهم اخواننا الشماليين، بصورة عامة، ذلك هو أننا، نحن الجمهوريين، حين نتحدث عن الإسلام، لا نتحدث عن المستوى الذي ألفه الناس – مستوى العقيدة – حيث قد نشأت الشريعة الموروثة – الشريعة السلفية – وانما نتحدث عن المستوى الذي ظل مطويا، ومجهولا، منذ بدء الرسالات، من لدن آدم، والي محمد.. نحن نتحدث عن المستوى العلمي للإسلام، وهو في ذلك، تاج الديانات، ونقطة التقائها جميعا – نتحدث عن الدين الموحد، الذي فيه تلتقي البشرية جمعاء، من حيث هي بشرية.. نتحدث عن دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها.. الإسلام هنا علم نفس.. وعلم النفس سيد العلوم.. والنفس البشرية، حيث وجدت، فهي بشرية، عند الأبيض، والأسود، والأصفر، والأحمر، على السواء، وعلى السوية.. ومن أجل ذلك فليس هناك في هذا الدين – الإسلام في هذا المستوى – تمييز ضد أحد، ولا تفرقة، وانما الناس جميعا على حد سوى.. فالرجال، والنساء، لا يتفاضلون، فيما بينهم، الا بالميزات الشخصية من العقل، والعلم، والخلق..
الإسلام اذن هو اللحام الذي يلحم بين شطري البلاد، ما في ذلك ادني ريب، ولا أدني ريبة!!

الأخوان الجمهوريون
أم درمان/ السودان ص ب 1151
تلفون 56912