إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

جنوب السودان
المشكلة!! والحل!!

ما الحل؟


ان المشكلة ليست هي تقسيم الجنوب الي اقاليم، أو عدم تقسيمه.. وانما المشكلة هي مشكلة الجنوب القديمة بما تحويه من كراهية، وعدم ثقة.. وقد كانت مسألة التقسيم هي المناسبة التي وقتت ظهورها من جديد على السطح.. فالمشكلة، على الرغم من أنه قد تم حلها في المستوى السياسي باتفاقية اديس ابابا، الا انها لا تزال كامنة داخل النفوس.. فعلي الجنوبيين والشماليين معا أن يعملوا، بكل وعي، وبكل مسئولية، على المحافظة على الحل السياسي ريثما تتوفر الظروف، والاسباب التي تؤدي الي اقتلاع المشكلة من جذورها من داخل النفوس.. فلقد دفعت بلادنا الكثير، والكثير جدا، من دماء ابنائها، ومن امكاناتها، في سبيل هذه المشكلة.. فعلينا الا نجعل كل ذلك يضيع هدرا.. ونحن هنا نحب أن نذكر بعبارة للأستاذ محمود محمد طه وردت في مقال له عن مشكلة الجنوب في الخمسينات.. فقد جاء في تلك الكلمة قوله: (فعلى الذين فَدوا رحمة الله، وعلى الذين فُدوا الا يجعلوا دماء موتاهم تهراق في غير طائل)، هذا هو الواجب.. علينا جميعا، من شماليين، وجنوبين، الا نجعل دماء موتانا في قضية الجنوب تهراق في غير طائل، وذلك بالحرص، والعمل الجاد، في سبيل حل المشكلة، وفي سبيل خدمة مواطنينا في كلا الإقليمين.. ونحن، حتى الآن، لم نقم بهذا الواجب.. نحن، حتى الآن مشغولون، بالعداوة لبعضنا البعض، بأكثر من شغلنا بالعمل على تنمية إقليمينا، وعلى توعية مواطنينا..
اما بالنسبة لموضوع التقسيم، فاذا نظرنا اليه بصورة مجردة، فهو، من حيث المبدأ، أفضل من عدم التقسيم، وذلك لأن التقسيم الي أقاليم أكثر هو عمل في اتجاه الديمقراطية، وفي اتجاه تسليم السلطة للشعب، اذ يتيح للشعب فرصة أكبر في المشاركة في حكم نفسه، ويضعه أمام مسئولياته، ثم هو يسهل من العملية الادارية، ويعين على التنمية، هذا إذا نظرنا الي الموضوع من الناحية المبدئية المجردة.. ولكن القضايا العملية لا تعالج بمثل هذه النظرة المجردة، فلا بد من اعتبار كل الظروف والملابسات.. والاعتبار للظروف والملابسات هو الذي يجعلنا لا نقف مع التقسيم، في الوقت الحاضر، ونقترح أن يؤجل الي أن تحين الظروف المناسبة له.. والاعتبارات، والملابسات، التي تجعلنا نرجح عدم التقسيم في الوقت الحاضر هي أن للجنوب وضعا خاصا لا بد أن يعتبر.. وهذا أمر لا ينبغي أن يكون فيه خلاف.. فالجنوب أكثر تأخرا من بقية الاقاليم الأخرى.. وهو في حرب أهلية طويلة لم يخرج منها الا قبل أقل من عقد من الزمن.. وإخواننا في الجنوب لم تتوفر لهم الثقة في الشمال بعد.. وهذا أمر واضح، وبصورة جلية، مما قدمناه من أقوالهم.. وهو أمر لا بد من اعتباره.. وهو أمر طبيعي أيضا.. فالنفوس البشرية لا تتخلص من رواسبها في يوم وليلة.. ولذلك فمن حق الجنوبيين أن يحتفظوا بإقليمهم موحدا حتى تطمئن نفوسهم للشمال، وللحكومة المركزية، وحتي يشعروا هم قبل غيرهم، بحاجتهم الي التقسيم، فالحكم الإقليمي، في أي إقليم، انما هو لمصلحة هذا الإقليم في المكان الأول، ثم أن التقسيم يقتضي تعديل اتفاقية اديس ابابا، وهي اتفاقية لا تزال حديثة عهد، فمن الخير أن لا تعدل في الوقت الحاضر.. ولنظام مايو مصلحة خاصة في بقاء اتفاقية اديس ابابا، لأنه حقق بها سمعة عالمية وقدم بها نموذجا رائعا للدول الأخرى في حل المشاكل الداخلية المتشعبة، والمستعصية.. فمن مصلحة مايو، ومن مصلحة البلاد الا تتعدل هذه الاتفاقية والا تتعرض لهزة..
والتقسيم إذا اريد له أن يتم لا بد أن يتم بالطرق الدستورية، وهذا يقتضي تعديل المادة (8) من دستور السودان الدائم وتعديل المادة (34) من قانون الحكم الذاتي الإقليمي لجنوب السودان لعام 1972.. فالمادة (8) من دستور السودان تقول: (يقوم نظام الحكم الذاتي الإقليمي في الإقليم الجنوبي على اساس السودان الموحد وفقا لقانون الحكم الذاتي الإقليمي للمديريات الجنوبية لسنة 1972 والذي يعتبر قانونا اساسيا لا يجوز تعديله الا وفقا للنصوص الواردة فيه).. أما المادة (34) من قانون الحكم الذاتي الإقليمي للمديريات الجنوبية لسنة 1972، فهي تقول: (هذا القانون لا يعدل الا بأغلبية ثلاثة أرباع مجلس الشعب القومي وموافقة ثلثي المواطنين في الإقليم الجنوبي في استفتاء يجري في ذلك الإقليم).. وهذا يعني أن تقسيم الإقليم الجنوبي الي اقاليم أكثر يقتضي موافقة ثلاثة أرباع أعضاء مجلس الشعب القومي، وثلثي المواطنين في الإقليم الجنوبي، وهو أمر لا نعتقد أن دعاة التقسيم يملكونه، بل أننا حسب اتصالاتنا، بإخواننا الجنوبيين، نشعر أن الأغلبية ضد اتجاه التقسيم، ولذلك نري أنه من الخير لدعاة التقسيم من اخواننا في الجنوب الا يدخلوا في إجراءات دستورية يعلمون سلفا أنها لن تؤدي الي ما يتطلعون اليه.. فمن الخير اذن أن يسووا المسألة مع اخوانهم في الإقليم سياسيا عن طريق الحوار الموضوعي، الذي يرمي الي الوصول الي تسوية توفق بين رغبة الأغلبية في الإقليم، في الاحتفاظ بالإقليم موحدا، وبين تطلعات الاقليات للمشاركة في حكم اقاليمهم، وابعاد هيمنة القبائل الكبيرة.. وهذا أمر يمكن تحقيقه في إطار الحكم الشعبي المحلي لعام 1981 مع المجهود في التوعية لمحاربة القبلية في العمل السياسي والذي يمكن ان يقوم به المثقفون..