الأصيل هو (الحي):
إن الأصيل – الإنسان الكامل (الحقيقة المحمدية) هو (الحي) كامل الحياة، فمن صفته (الحي) كان التنزل إلى صفات العالم، المريد (في الملكوت)، والقادر، السميع، البصير، المتكلم (في الملك).. وإنما تكون رجعي (الحياة) عبر هذه الصفات إلى صفة (الحي)، التي بها يكون الفناء عن العلم (تخلف الفكر) والبقاء بالحياة (تقدم القلب).. وكل فرد بشري منّا إنما فيه جرثومة هذه الحياة الكاملة، كامنة، في قلبه.. فإن أول بيت وضعه الله هو القلب (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدي للعالمين) وفيه أجري حياته.. (ما وسعني أرضي ولا سمائي وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن).. ولذلك فليس في سويداء القلب الاّ الحب.. ثم لما اقتضت الحكمة الإلهية تسيير الحياة عن طريق الخوف، برز الجسد من القلب ليفديه، وليحميه، فوقع الخوف على الجسد.. وكان الحي الأول يحس بجسده كلّه، فلكأنه كله قد كان قلبا.. ثم أنه لما تقدمت الحياة، وتوظفت الوظائف، انحصر الحس في الحواس الخمس، وأصبحت وظيفة الجلد هي حماية ووقاية الحي، وظهر العقل كطور متقدم على الحواس، به ازدادت كفاءة وظيفة الحماية، والوقاية.. فقل إحساس الجسد، حتى تبلد، وتحجر.. ومن أجل إعادة الحس إلى الجلد، والي الجسد، ومن أجل تفجير جرثومة الحياة الكاملة، الكامنة فينا، جاء منهاج الصلاة.. فهو منهاج (الحياة) و(الحيوية).. والصلاة إنما تتجه إلى محاربة الخوف الذي حجّر الجسد، وحوّله إلى قشرة كثيفة.. قال تعالي (الله نزّل أحسن الحديث كتابا متشابها، مثاني، تقشعّر منه جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم، وقلوبهم، إلى ذكر الله..)، فاقشعرار الجلود إشارة إلى الخوف الموروث، والخوف المكتسب، الذي كان سببه الجهل بحقيقة الوجود، وبعاقبة الأمور.. ولين الجلود والقلوب إشارة إلى اندفاع دم الحياة من القلب إلى الجسد، نتيجة لاستيقان الحقيقة بأن الحياة خير مطلق، وليس الشر إلا وهما سولته عقولنا.. والصلاة هي وسيلة اكساب هذه الاستيقان بهذه الحقيقة، وهي وسيلة بعث هذه الحياة، في هذا الموات (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ، وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ، كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ، لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا؟؟ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).. فإن الصلاة تورث الرضا بالله رباً مدبراً لأمورنا، فتحرر العقل من الخوف.. فينبسط القلب، وينشر الإحساس في الجسم كله.. ونحن لا نرد مورد الحياة هذا إلا عشنا اللحظة الحاضرة، متأدبين بأدب هذه الآية (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ، وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ، إِلَّا فِي كِتَابٍ، مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا، إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ، وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ).
وأكبر من يتحرر من الخوف هو الإنسان الكامل (الحقيقة المحمدية)، لانفتاحه على المطلق، واطلاعه على العلم المطلق الذي به تكون حرية النفس الداخلية، وسلامة القلب، وصفاء الفكر.. وهو الذي يستطيع أن يحقق بمنهاج الصلاة الحياة الكاملة – حياة الفكر وحياة الشعور، فيصبح جسده كله حياُ، وكله جميلاً، غاية الحياة والجمال.. ذلك بأن الحياة تكتمل لكل ذرة من ذرات جسده، فلا تكون له قشرة خارجية، ولذلك لا تكون له حاجة بالموت الحسي، فإن الموت الحسي إنما هو لتلك القشرة الميتة فينا.. الإنسان الكامل ليس فيه ميت، ولذلك لا يموت.. فإنما يموت الميت.
والإنسان الكامل "الحقيقية المحمدية" مخلوق بالذات الإلهية، وكل ما عداه مخلوق بالواسطة، أما بواسطة الاسم الأعظم "وهو نفسه الإنسان الكامل"، وأما بواسطة الاسماء، وأما بواسطة الصفات، وأما بواسطة الأعمال.. ولذلك فهو معد للحياة الكاملة التي لا تؤوفها آفة الموت، لأنه هو القائم بالاسم "الحي".. ومن ثم أصالته المتفردة.. وهو، في نهاية السبع سنوات التي يقيمها في الأرض، قائماً على جنة الأرض، إنما يصعد بجسده، وقد "تروحن" هذا الجسد الترابي، فصار جسداً سماوياً – صار كله قلباً "فؤاداً".. يليه في سلم التطور الإنساني من يكاد أن يتخلص من قشرته الخارجية، ولكنه إنما يحتاج الموت الحسي، فيموته، فهو يموت كما ينام، ثم تمتد حياته في قبره، كحياة النائم في نومه، وجسده محفوظ، وقبره معمور.. وللأولياء الصالحين تحقيقات من هذه الحياة البرزخية المتصلة العامرة في قبورهم.. وقد أشار النبي الكريم إلى حياة القبر بقولة "القبر أول روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار".
ولقد فرضت الصلاة في مقام الإنسان الكامل، في مقام "الحياة" الكاملة.. ولذلك فإن صلاة المعراج المتنزلة من تلك الصلاة إنما تؤدي إلى تلك الحياة الكاملة.. ففي صلاة المعراج، لدي المصلي المجود، بذرة الحياة الكاملة – بذرة الأصالة.. ونحن إذا تعهدنا تلك البذرة بالرعاية نمت، وأزهرت، فأثمرت، وصار لنا حظ عظيم من تلك الحياة الكاملة.. (وتري الأرض هامدة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت، وربت، وانبتت من كل زوج بهيج).. فالصلاة منهاج لتفجير جرثومة تلك الحياة الكاملة، الكامنة فينا، في قلوبنا.. وحظ كل مصل مجود من تلك الحياة "المحررة من الخوف" إنما هو حظه من الأصالة.. فالأصالة هي الحياة الكاملة المنفتحة على الكمال المطلق.. هي الأصالة للإنسان الكامل "الحقيقة المحمدية" ثم للعباد المجودين منها حظوظ، ولهم فيها مقامات..
ويوم يجئ الإنسان الكامل يفتتح عهد "كمال الأجسام".. وبرهان الجسد الكامل، الذي جسد العلم المطلق، إنما هو البرهان اليقيني الذي لا يدحض، وهو الدعوة البالغة، التي لا ترد.. وعن ذلك قال تعالي (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ، أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ!!).
والإنسان الكامل، بعبوديته للمطلق، وبتحرره الكامل من الخوف إنما هو المسلم الذي يدخل الوجود لأول مرة – المسلم لله، تمام الإسلام، ظاهراً وباطناً.. وهو بذلك استحق أن يكون الخليفة الإلهي.. وهو المعني بالأصالة بالخلافة حيث لم يكن آدم إلا مشروعاً نحو هذا الخليفة.