مقام الأصالة:
لقد فرضت صلاة الحقيقة، صلاة الصلة (الصلاة صلة بين العبد وربه) – وهي ذكر الله، والحضور معه بلا غفلة، في مقام: (ما زاغ البصر وما طغى) الذي قامه النبي الكريم ليلة المعراج.. ولقد فرضت صلاة الشريعة، صلاة المعراج (الصلاة معراج العبد إلى ربه) في مقام (قاب قوسين أو أدنى).. الأولي فرضت والنبي قد كان خارج الزمن، ولذلك فليس لها أوقات تؤدي فيها، وإنما وقتها هو حياة العبد كلها (صلاته حياته) أما الثانية فقد فرضت في منتهي الزمن، داخل الزمن، ولذلك فإن لها أوقاتاً تؤدي فيها.. ولقد أمر النبي الكريم بأن يعرج بصلاة المعراج إلى صلاة الصلة حتى يحقق في اللحم والدم، بمنهاج نبوته، مقام ولايته، مقام الوسيلة، المقام المحمود، وهو مقام الأصالة.. ومقام الأصالة هو مقام الحقيقة المحمدية (الإنسان الكامل) الذي ليس بينه وبين الذات مخلوق، وهو بين الذات وجميع المخلوقات.. فالأصالة هي هذا التفرد بهذا المقام.. وقد عاد النبي الكرم من إلمامته بهذا المقام بمنهاج صلاة المعراج، وقد مناه الله أن يبلغه، بهذا المنهاج، ذلك المقام المحمود.. ولقد ظل في كل لحظة من لحظات حياته، يعرج نحو ذلك المقام، فيأخذ في تجسيده، وتنزيله من الملكوت إلى الملك، حتى تم له تحقيقه بالتحاقه بالرفيق الأعلى، وهو نفسه مقام "الرفيق الأعلى".. والمقام هو مقام الاسم الأعظم (الله) – وهو الإنسان الكامل، الذي عنته الآية (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر، وإلي الله ترجع الأمور). ومجيء الله (في ظلل من الغمام)، إنما هو تجسيد مقام الحقيقة المحمدية في الأرض – وإنزاله من الملكوت إلى الملك.. ولقد شد النبي الكريم هذا المقام إلى الأرض، وقربه منها، بقيامه فيه ليله المعراج، ثم بتحققه به بالتحاقه بالرفيق الأعلى.. وبهذه القفزة الروحية الكبري أصبحت الأرض مهيئة ليتحقق في الملك ما حققه النبي الكريم في الملكوت، وفي البرزخ، من هذا المقام.. بل أن خطوات مجيء الاسم الأعظم (الله)، مجسداً في الأرض، قد أخذت تسرع منذ التحاق النبي الكريم بالرفيق الأعلى.. فإن النبي الكريم، قد اخذ وهو في برزخه يرقي مراقي هذا المقام، فيمد الأرض بأنواره، فتتكشف أسرار رسالته، ونبوته، وولايته، وتتحقق على يدي الطلائع من أكابر الصوفية فيوضات كبيرة من الولاية وهم يأخذون أنفسهم بالتأسي به في النبوة، ذلك بأنهم مستيقنون أن حياته، قبل بعثه، وبعده، إنما هي على نهج السداد، فنبوته أزلية:(كنت نبياً وآدم بين الماء والطين)، وبأن حياته ممتدة لا تنقطع بانتقاله إلى الرفيق الأعلى، بل هي نامية ومترقية في برزخه (حياتي خير لكم ومماتي خير لكم) ولذلك ذخر منامهم ويقظتهم برؤيته (من رآني في المنام فقد رآني حقاً فإن الشيطان لا يتمثل بي) وأخذوا عنه مناهج طرقهم التي سلكوا بها اتباعهم، فحفظوهم بها على الجادة، في وقت انحطاط أمر الدين، وارتفاع أمر الدنيا، وذلك إلى أن يأتي يوم بعث طريقة الطرق – الطريقة النبوية، ويتأذن الله بتنزيل الحقيقة المحمدية إلى الأرض.
والحقيقة المحمدية منزلة ومجسدة في الأرض، إنما هي المسيح الذي بشر به محمد بقوله (لو لم يبق من عمر الدنيا إلا مقدار ساعة لمد الله فيه حتى يبعث رجلاً من آل بيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً) وبقوله (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، وحتى تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها) فالمسيح المحمدي.. هو من آل بيت محمد نسباً، وهو هو الحقيقة المحمدية مقاما.. (وابن مريم) أي أبن النفس الصافية الكاملة.. فالمجيء إنما هو للمسيح المحمدي وليس للمسيح الإسرائيلي لقرينة النسبة إلى البيت المحمدي.. ولقد قال القرآن: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) أي لرادك في صورة حقيقتك.. وقال ابن عباس (عجبت لمن ينتظر عودة المسيح ولا ينتظر عودة محمد) يعني أن العائد هو محمد في صورة الحقيقة المحمدية.. والحقيقة المحمدية "الإنسان الكامل" هو خاتم الرسل، كما هو خاتم الولايات … فإن النبوة – نبوة الوحي – هي التي ختمت، ولم تختم الرسالة كما في قوله تعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، ولكن رسول الله وخاتم النبيين)..
والحقيقة المحمدية هي رسول الذات الإلهية لتحقيق جنة الأرض الموعودة (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض، نتبوأ من الجنة حيث نشاء، فنعم أجر العاملين) … وفي هذه الجنة تملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، وهي صورة مصغرة للجنة الكبرى.. ومجيء الحقيقة المحمدية (الإنسان الكامل) إنما يكون في آخر أيام هذه الدنيا وأول أيام الأخرة – أول أيام جنة الأرض، فيومه هو (اليوم الآخر) الذي أشار إليه القرآن كثيراً.. (ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر – الآية) وبنزول الحقيقة المحمدية من عالم الملكوت إلى عالم الملك يتم زواج (لقاء) الملكوت بالملك، وهو العرس الأعظم الذي يلبس فيه الوجود حلة الشباب، فيرد فيه الكهول إلى الشباب.. ويتحقق قوله تعالي (وهو الذي في السماء إله، وفي الأرض إله.. وهو الحكيم العليم..) أي إله مطاع.. ويتحقق دعاء المسيحيين (أبانا الذي في السموات!! ليتقدس اسمك، ليأتي ملكوتك، لتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك على الأرض!!) فيطيع أهل الملك – البشر – (لله) كما يطيعه أهل الملكوت - الملائكة.. غير أن الفضيلة للبشر على الملائكة في أن طاعتهم له طاعة طوعية لا طاعة قهرية … ومن ههنا تجئ فضيلة الحرية التي تضوعت على الإنسان (الله) وبها ارتفع الإنسان على الملائكة، في النشأة.. وهي الفضيلة التي حققها محمد ليلة المعراج حينما تقدم للشهود الذاتي، وتخلف جبريل.
إن إنزال الحقيقة المحمدية من الملكوت إلى الملك إنما هو بفضل الله ثم بفضل الصلاة – وهي المعراج الذي أوتيه النبي الكريم، له ولأمته، ليلة المعراج. فيأتي الإنسان الكامل، الذي حقق إنسانيته، فافتتح دورة جديدة من دورات الوجود ترتفع فيها البشرية إلى الإنسانية بقفزة أكبر من تلك القفزة التي ارتفعت بها هذه البشرية عن الحيوانية، ويأتي الإنسان الكامل بالعلم المحيط المستفيض الأصيل الذي لم يسبقه إليه أحد، ولن يلحقه فيه أحد.. ذلك بأنه لم يسبقه إليه أحد ولن يلحقه فيه أحد. ذلك بأنه إنما يستمد علمه من العلم المطلق، فيتلقاه كفاحياً، وهو يباشر الحقيقة المطلقة.. فهو بذلك الأصيل الوحيد، الذي لا يكون مع ظهوره أصيل، وكل من عداه إنما هو على القدم النبوي، وقصاراه أن يبلغ في تجويد تقليده المراقي التي تورثه علماً ذوقياً فردياً، به يصبح صاحب شريعة فردية داخل إطار هذا التقليد، وذلك بما يتكشف له من أسرار المنهاج النبوي، على قاعدة (واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم!!) أي جودوا منهاج تقليد النبي حتى تعلموا من أسرار المنهاج ما يحملكم على المزيد من تجويد التقليد.. وأكبر هذه الأمة السائرة على القدم النبوي سيكون المهدي، وزير المسيح، وخليفته، وهو على منهاج التقليد النبوي وهو معني من معاني القول النبوي (ينزل المسيح وإمامكم منكم)، أي أمامكم في تقليد النبي..
ولكن العابد المجود إنما هو من يدخل في صلاة معراجه (صلاة تقليده) في كل حين، حظاً من صلاة صلته – حظاً من صلاة الاصالة في التقليد، وذلك بزيادة حضوره مع ربه في صلاته، وباطراد الزيادة.. وكلما زاد حظ صلاة المعراج من صلاة الصلة (الأصالة) كلما ترقي العابد إلى مرتبة الشريعة الفردية.. والفردية تبدأ بمجرد أن يضع العابد قدمه على طريق اتقان التقليد النبوي، فيثمر عمله في التقليد حالاً، وتصبح له بهذه الحال حقيقة (وحالي حقيقة).. حتى يدخل العابد مداخل العبودية ويكون له حظ من الشهود الذاتي، وعلم ذوق فردي.. بيد أن علمه إنما يكون في إطار العلم الجامع المستفيض الذي تنزلت به الحقيقة المحمدية في رسالتها إلى الإنسانية.. ولذلك فإن الأصالة، على إطلاقها إنما هي حظ صاحب هذه الحقيقة وحده، لأن علمه لا يسبقه ولا يلحق به علم.. والشهود الذاتي له قمة، وله قاعدة.. وقمته مباشرة الحقيقة المحمدية (وهي حقيقة إلهية) للذات الإلهية.. وقاعدته ذات بداية بسيطة، منفتحة نحو تلك القمة.. ومن تلك البدايات القدر من الحضور الذي يحققه العابد المجود في صلاته، وفي معاملته، وذلك بتفريغ البال من هم الدنيا، وأكبره هم الرزق، وبتقليل الحاجات التي توزع النفس.. ومن هذه البدايات شعور العابد المجود بجهله بإزاء الله المطلق المحيط (وهو حظ الفناء عن العلم) وشعوره بعيبه ونقصه بإزاء الكمالات التي تطالعه (من عرف نفسه فقد عرف ربه) أي من عرف نفسه بالنقص والعجز عرف ربه بالكمال والقدرة.. ثم ان أي قدر من هذه الحيرة العرفانية أمام الفعل الإلهي إنما هي قدر من الشهود الذاتي – بحصول التوقف الفكري..