إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

هذا.. أو الطوفان

الذكرى المشئومة


وممّا يؤكد الحاجة الملّحة، والضرورة العاجلة لفلسفة الحكم الصالح، أن سبتمبر نفسه والذي حمل الينا بشائر الالتقاء حول مائدة الحوار هذه المرة فإن اليوم الثامن منه يحمل إلينا الذكرى الثانية لإعلان قوانين سبتمبر القمعية، تلك القوانين التي أجهضت حتى مكتسباتنا التقديمة التي حصلنا عليها في زمن الاستعمار وذهبت بحقوقنا التي كفلتها لنا القوانين الوضعية والدستور العلماني..
وكل ذلك لا يزال يجثم على صدورنا لأنه هوس نسب زورا وكذبا لفلسفة الحكم الإسلامي.. مع أن فلسفة الحكم الإسلامي الصحيحة تعطي وتكفل كرامة وحرية الإنسان وحقوقه الأساسية في قمة لا تجارى، ذلك لأن الإسلام في حقيقته ليس هو دعوة عقيدية، ليس هو دين المسلمين وانما هو دين الناس (دين الفطرة) (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) والناس من حيث هم ناس قد فطروا على الحرية وعلى الكمال وما سميّ الإسلام دين الفطرة الاّ لأنه فلسفة لا تجارى في كشف الغواشي التي طرأت على الفطرة..
أمّا قوانين سبتمبر فإنها أساسا لم تقم على علم وإنما قامت كمناورة سياسية لتثبّت عرش نميري المتهاوي فكانت مؤامرة على الشعب وعلى الدين ولذلك لم يتقدّم بها لمجلس الشعب وهو الجهة التشريعية وقد كان مستمرا في جلساته، ولم تحوّل للجهة المختصة بالنائب العام لصياغتها، وانما اتخذ نميري مخبأ في قصره اختار له ثالوثا لم يعرف برأي ولا اجتهاد في الدين ولا إسهام في الحياة العامة، ومن الناحية القانونية هم نكرات بالنسبة للقانونيين الضليعين الذين تذخر بهم البلاد، وقد اختارهم ليصل الى قصده، وقد كان، فطوعّوا الشريعة نفسها لإذلال الشعب وللتجريم والإدانة والإرهاب ولاغتيال المعارضين كما ظهر من الوثائق المتبادلة بين الإمام المزعوم والثالوث بشأن الجمهوريين. وقد قال عوض الجيد وهو يتحدث عن تتابع قوانين سبتمبر بتلك العجلة المريبة، قال عنها (واستمر الغيث وهلّلت الأملاك في السماء وأشرقت الأرض بنور ربها) (الصحافة 16/5/1984). وبالطبع هو لا يعرف عن السماء شيئا والاّ كان الصدق يقتضيه أن يحدثنا عن ضراعة أهل السودان من أحكام الحجاج! وعن سحابة الظلم التي لم يشهدها سوداننا الحديث.. والظلم ظلمات كما قال النبي الكريم..
وهكذا استطاع النميري بذلك (الثالوث) أن يقتلع الحدود الإسلامية من الهيكل الإسلامي المتكامل الذي لا تقوم الحدود بحقها الاّ مرتبطة به وهو هيكل العدالة الاجتماعية بمساوياتها الثلاث وتربية المجتمع تربية تجفّف منابع الجريمة في الصدور، وإقامة الرأي القائم على الإسماح والإصلاح لا التجسس والانتقام والأحقاد، بل هو مجتمع العفو فقد وجه النبي الكريم بتعافي الحدود ما لم تبلغ السلطان، وقال: (من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله)، وقال: (أدرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فان كان له مخرج فخلّوا سبيله فان الإمام لئن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة) وقال: (أدرأوا الحدود بالشبهات) وهكذا فان الحدود في الإسلام لا تقوم الاّ في مجتمع توّفرت فيه بالتربية وبالتوعية وبالعدالة الاجتماعية كل فرص الاستقامة وأغلقت كل أبواب الانحراف والزلل حتى أن من يقع تحت طائلتها بعد كل ذلك ويهتك ستره فانه من الشذوذ والغلظة بحيث يصبح علاجه في الحد كعملية جراحية لعلاج حالته الشاذة.