إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

المؤامرة من جديد؟؟

تصفية المحاكم الشرعية


المحاكم الشرعية، هكذا يسمونها.. ولقد سماها الإستعمار البريطاني عندما استرد السودان من حكومة المهدية في أوائل هذا القرن.. والإستعمار البريطاني إنما سماها بهذا الإسم ليخدعنا عن واقع أمرنا، وليوهمنا أن شريعتنا لا تزال محكمة فينا.. ذلك لأنه قد علم شدة حرص الشعب السوداني على الدين، وعلى الشريعة الإسلامية.. وقد جازت خدعة الإستعمار علينا، وهي لا تزال تجوز.. ولقد أعان الإستعمار على خديعة الشعب رجال جهلة أسماهم قضاة شرعيين.. وهم لم يعينوه على خديعة الشعب إلا بعد أن انخدعوا هم أنفسهم، وإلا بعد أن جهلوا حقيقة أمرهم.. ولقد استعان الإستعمار على تفضيلهم بالأسماء الكبيرة الفارغة من المحتوى.. فقد أسماهم قضاة شرعيين، وأسمى كبيرهم قاضي قضاة، ثم سمح لهم من المظهر بما يرضى غرورهم، وجاد لهم من المال بما يشبع نهمهم.. وكل ذلك يتفق مع خطة الإستعمار لأنه يمكن هذه الطغمة من تضليل الشعب عن جلية أمره، ويصرفه عن حقيقة دينه.. وفي العهد الوطني، الذي هو إمتداد لعهد الإستعمار، حيث يتهافت السياسيون على المغانم الشخصية، تاركين مصالح الشعب وراء ظهورهم، أخذ القضاة الشرعيون نصيبهم من الغنيمة، فخرجو بما أسموها المحكمة الشرعية العليا وبما اسموها محكمة الإستئناف الشرعية العليا.. وذهب كبيرهم ليزيد في تضليل الشعب عن دينه فقال في حديث أوردناه في البيان نمرة (4) إن القضاء الشرعي (أكبر هيئة قضائية في السودان).. وهذه القولة، في حد ذاتها، لتدل الشعب على مبلغ التضليل الذي يمارسه هذا النفر، وظل يمارسه طوال عهد الإستعمار.. إن هذه شنشنة نعرفها عن رجال الدين عندما يشعرون بالضعف، ويتجهون للمغالطة، ليوهموا الرعية بأنهم يمثلون السلطة في وقت يكونون فيه في حالة ضعف تام:
مما يبغضني في أرض أندلس ألقاب معتصم فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي إنتفاخاً صولة الأسد
إن هذه المحاكم هي، في حقيقة أمرها، محاكم ((ملَية)) تحكم أهل الملة المغلوبة بشريعة دينها في الأحوال الشخصية فقط، لأن قاهرها يحكمها بشريعته هو في جميع أمورها الحيوية..
قاضي القضاة.. قال!! اسمعوا إلى هذا الاسم الفضفاض!! وانظروا الى هذا اللبس الفضفاض!! وهو يعيش بالدين ويخضع لحكام بلد مسلم يحكمونة بغير دين.. ثم هو يبالغ في الإنسجام معهم، وفي التودد إليهم.. هل نطالب هذا الرجل بأن يقرأ قوله تعالى ((ومن لم يحكم با أنزل الله فاولئك هم الكافرون))؟؟ هيهات، هيهات!! فإن بينه وبين القرآن أمداً بعيداً ولكن هل فكر قاضي القضاة ورهطه من أين يقبضون المرتبات الضخمة التي يبنون بها شحمهم ولحمهم؟! إنها من مستنقع الوحل الذي كانوا فيه أعوان الإستعمار حين كان يكيد لدين هذا الشعب، وأخلاق هذا الشعب..
إن هذا الشعب سيعود لدينه الصافي، وخلقه القويم، وستكون الإحاطة بكم، وبمجامعكم، من أولى خطواته، لأنكم أنتم أكبر عقبة في سبيل عودته.. هذا ولنا إلى الحديث عودة.
أم درمان 25/11/1968
محمود محمد طه