معاني القرآن صور تُؤدى بالكلمة
وأحب أن أنبه القارئ إلى ما سبق تقريره عن القرآن من أنه كلام الله بمعنى أنه صورة لفظية لإيجاد الله الوجود، وخلقه الخلق في الزمان والمكان، والآيتان السابقتان مثل بليغ في هذا، فإن الإشارة إلى ((الطين)) تعني الخلق في طور الجمادات، والسوائل، والغازات، تلك التي قلت إن الله سيرها تسييرا مباشرا، والإشارة بكلمة ((سويته)) تعني الخلق، في طوري النبات، والحيوان، بجميع صوره، وهـو ما قلنا إن الله سيره، بإرادة الحياة، تسييرا شبـه مباشر، والإشارة بقولـه ((ونفخت فيه من روحي)) تعني الخلق في مرتبة الإنسان، وهو ما قلنا أن الله سيره، بإرادة الحرية، تسييرا غير مباشر.. وهذه الآيات الثلاث أوضح في الدلالة على حقيقة القرآن، استمعوا إليها ((الذي أحسن كـل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين * ثم سواه، ونفخ فيه من روحه، وجعل لكم السمع، والأبصار، والأفئدة، قليلا ما تشكرون))..
وهذا الخلق، والإيجاد، استغرق آمادا سحيقة، في الزمان والمكان، وهو صورة من التطور الذي يتبع بعضه بعضا، في حلقات متصلات، والتسيير الذي أشرنا إلى أنـه شبه مباشر في مرتبة النبات، والحيوان، وغير مباشر في مرتبة الإنسان، إنما هو بالصراع بين الأحياء فيما بينها، وبين الأحياء والبيئة الطبيعية التي وُجدوا فيها.. وإرادة الحرية ماذا تريد؟؟ تريد الحرية.. والحرية المطلقة من كل قيد، ولكن الحرية لها ثمن، وهو أن يتحمل الحر نتائج عمله، وإلا أصبحت الحرية فوضى.. وأدنى مراتب الحرية المطلقة هي أن يفكر الرجل كما يريد، وأن يقول كما يفكر، وأن يعمل كما يقول، بشرط ألا تتدخل حريته في حريات الآخرين..
ولما كانت الحياة مسيَّرة بإرادة الحياة، قبل ظهور البشر على مسرحها، كان قانونها اللذة، بكل سبيل، ثم لما ظهر البشر، ودخلت إرادة الحرية لتعمل عملها في التسيير، ظهر المجتمع البشري وظهرت القيم، التي تجعل الفرد يضحي باللذة الحاضرة، في سبيل لـذة مرتقبة، أو يضحي باللذة الحسية، في سبيل لذة معنوية، وبمعنى آخر، دخل تشريع الحلال والحرام، أو، إن أردت الدقة، فقل العرف الذي يُحرم أمورا، ويُحلل أمورا أخرى، في سبيل غاية بعينها..