إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الإسلام

نشأة المجتمع والقانون ونشأة الإسلام


والقصة، في إيجاز، هي أن الفرد البشري لما وجد نفسه أمام قوة طبيعية عنيفة، هائلة، لا قبل له بها، وضح له أنه لا بد له من الالتجاء إلى جملة حيل بها يستطيع أن يحافظ على حياته، فبنى البيوت فوق الأشجار، وعلى قمم الجبال، وفي الأماكن المحصنة الأخـرى.. واتخذ الآلة، من الخشب، والحجر، وادَّخر طعامه ثم اهتدى إلى أكبر اختراع في الوجود، وهو المجتمع.. ولكي يكون المجتمع ممكنا قام العرف، الذي هو القانون الأول، ولربما يكون أول عرف نشأ هو العرف الذي ينظم العلاقات الجنسية، فيحرم الأخت على الأخ، ويحرم البنت على الأب، ويحرم الأم على الابن، الخ الخ.. وأعان هذا العرف على تهدئة الغيرة الجنسية، التي كانت تفرق الأسـرة البشرية كلما بلغ الأبناء فيها مبلغ الرجال.. فقد أصبح، بعد هذا العرف، من الممكن أن يتعايش في منزل واحد، وفي منازل متجاورة، الأب، والابن البالغ، والصهـر، والابن المتزوج، وكل منهم آمن على زوجته من الآخرين.. ولربما يكون العرف الذي ينظم احترام الملكية الفردية قد نشأ مع هذا العرف، من الوهلة الأولى.. فإنه، في المجتمعات البدائية، لا فرق، كبير، بين ملكية الزوجة، وملكية الآلة، أو الكهف.. وإذا كان لا بد للمجتمعات الصغيرة أن تعيش في وئام، تصيد معا، وتحارب معا، وتقابل صروف الأيام متحدة، فإنه لا بد من هذين العرفين اللذين ينظمان السلوك في الجماعة ويصونان كيانها.. وليـس معنى هذا أن المجتمعات نشأت بصورة واحدة في كل مكان، ولكنه، مما لا شك فيـه، أن المجتمع البشري، حيث نشأ، فقد نشأ حول طائفة من العادات، والعرف، الذي ينظم علاقة الأفراد ببعضهم البعض، وبهذا العرف دخلت إرادة الحرية في صراع مع إرادة الحياة، ذلك بأن الفرد البشري قد رضي، طوعا أو كرها، أن يتنازل للمجتمع عن قسط من حريته ليستمتع بباقيها، بفضل حياته في مجتمع يحميه، ويعينـه.. وتنازله، عن هذا القسط من حريته، ينظمه العرف، وما تفرضه أوضاع مجتمعه، وأصبح عليه أن يسيطر على نفسه، وأن يمنعها مما يمنعها منه القانون، الذي سنه مجتمعه.. وكلما انتصر الفـرد، في هذا الصراع، على غرائزه البدائية، كلما قويت إرادته، وانتقلت لذاته، من اللذة الحسية العاجلة المحرمة، إلى اللذة الحسية التي ينظمها العرف، ويقرها، بعد استيفاء قواعده، أو قد تنتقل لذته من حسية عاجلة، إلى معنوية عاجلة، أو مؤجـلة كرضا المجتمع عنه، وثنائه عليه، أو كرضا الآلهة عنه، ومجازاتها إياه، في هذه الحياة، أو في الحياة المقبلة.. ولما كان الفـرد البشري الأول غليظ الطبع، قاسي القلب، حيـواني النزعة، فقد احتاج إلى عنف عنيف لترويضه، وكذلك كان العرف الاجتماعي شديدا، عنيفا، إلى الحدود التي تضحي بحياة الأفراد على مذابح معابد الجماعة، استجلابا لرضا الآلهة، أو دفعا لغضبها.. وهذا العنف العنيف اضطر الفرد البشري ليسيطر على نزعاته، وليكبت في صدره كثيرا من رغائبه التي لا يقره عليها العرف، ولا ترضاها الآلهة، وفي نفس الوقت الذي خدم فيه العرف الأول الفرد بأن قوى إرادته، وسيطرته على نفسه، خدم المجتمع بأن صان حقوقه، وجعل تماسكه، وتضامنه، ممكناً: ولقـد سار المجتمع من تلك البداية سيرا وئيدا وسار معه الأفـراد، وكلما ترقى المجتمع، كلما قلت التكاليف الباهظة التي يفرضها على حريات أفراده، بواسطة عرفه، وقوانينه، وأديانه، وسنرى ذلك، بعد قليل، عند الحديث عن مرحلتي اليهودية والإسلام.. ومنذ نشأة العرف الأول نشأ الإسلام، وذلك لأن الفرد البشري بدأ في هذا الطور يدرك أن إرادته ليست حرة، وإن كان هذا الإدراك يكاد يكون لا شعوريا.. ولست أريد أن أتابع مراحل الإسلام من هذه البدايات، ولكني سأقفز قفزة واحدة إلى مراحله الثلاث الأخيرة: اليهودية والمسيحية والإسلام، فأتحدث عنها في شيء يسيـر من الإطناب، ذلك لأن هذه العجالة لا تحتمل التطويل، ولكني، قبل أن أنصرف إلى هـذه المراحل، أناقشها، أحب أن أقرر هنا أن الإسلام، كدين، فكرة واحدة كبيرة، تشمل البداية والنهاية، وقد بدأ يوم بدأ الصراع بين إرادة الحياة، وإرادة الحرية، وهو ما أسميه بنشأة العرف، وهذه الفكرة لا تزال تواصل سيرها، وستبلغ نهايتها على هذا الكوكب يوم يحقق الأفراد البشريون السلام، كل مع نفسـه، وذلك بتسليم إرادتهم المحدثة، إلى الإرادة القديمة.. وسنعـود إلى هذه العبارة في نهاية هذه العجالة.. ولتقرير أن الإسلام، كدين في عمر البشرية، فكرة واحدة، كبيرة، تشمل البداية والنهاية، يمكن أن ننظر في الإسلام في عمر الفرد البشـري، فإنه من المقـرر أن حياة الفرد البشـري تحكي، بصـورة عاجـلة، حيـاة النـوع كله.. فالإسلام، في عمر الفرد البشري، يبدأ بالقول باللسان، والعمل بالجوارح ثم يترقى حتى يصبح إذعانا واعيا، وانقيادا راضيا، بإرادة الله وحسن تدبيره.. وأول مراتب ترقيه، بعد الإسلام، الإيمان، ثم الإحسان بمراتبه الثلاث ثم الإسلام من جديد.. وهـذه الآيات الكريمات تفيدنا في هـذا الباب ((قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا، ولكن قولوا أسلمنا، ولما يدخل الإيمان في قلوبكم)).. فالإسلام هنا هـو البداية التي هي مـرحلة دون مرحلة الإيمان.. ثم اسمـع هـذه الآيـة الكريمة: ((يأيها الذين آمنـوا اتقوا الله، حـق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)) والإسلام هنا هو نهاية المطاف، ولقد ندب إليه المؤمنون فلم يطيقوه.. فلما بدا عجزهم خفف الله عنهم فنزل ((فاتقوا الله ما استطعتم، واسمعـوا وأطيعـوا)) فاستبـدل لهم تقوى الله حق تقاته بما يطيقون، واستبدل لهم الإسلام، الذي هو تسليم الإرادة المحدثة إلى الإرادة القديمة: ((ومن يسلم وجهه إلى الله، وهو محسن، فقد استمسك بالعروة الوثقى)) استبدل لهم هذا الإسلام بالسمع للنبي، والطاعة، وهي مرتبة سامية، ولا ريب، ولكنها دون الإسلام الذي عناه الله بقوله ((ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين))..