إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

عقيدة المسلمين اليوم!!

حسن الترابي:


انّ الدكتور حسن الترابي، زعيم جماعة الاخوان المسلمين، يزعم انّه يدعو الى علم جديد في العقيدة، على غير ما كان عليه معهود السلف .. فهو قد قال: (وكذلك ينبغي لعلم العقيدة اليوم ان يستغني عن الكلام القديم ويتوجه الى علم جديد غير معهود السلف)!! (مجلّة الدعوة) المصرية، عدد نوفمبر 1980 .. والترابي يزعم انّه داعية ثورة تجديد في الدين، فهو يقول مثلاً: (فانّ امرنا أعظم من انّ نعالجه بالحركة المحدودة، والاجراءات الجزئية بل يستدعي الامر نهضة كلّية شاملة عاجلة هي اشبه بالثورة في اقدارها الحركية ومداها. ينبغي علينا ان ننهض بوجداننا المتدين لنرى فيه عقيدة المؤمن المتوكل الفعّال المقدام ان نتخذ لذلك كل وسائل التربية متحرّرين من الروح السلبية التي تسري الينا بما نقرأ في غالب كتبنا المتداولة وما نسمع من وصايا الآباء ومواعظ الخطباء التي لا تذكرنا الا بدواعي الحذر والسلامة والتورّع) !! صفحة 70 من كتاب (الحركة الاسلامية والتحديث) .. ولكن ما هو هذا العلم الجديد في العقيدة، الذي يريد الترابي ان يتجاوز به ما كان عليه معهود السلف؟ وما هي هذه الثورة التجديدية التي تضيق (بدواعي الحذر والسلامة والتورّع)؟!
في الواقع انّ ما يدعوه الترابي ثورة تجديد، وعلماً جديداً في العقيدة هو امر لا يقوم على اي معايير أو ضوابط دينية وانّما هو مجرّد اعمال للفكر المجرد، في ادق دقائق الدين، في غير حذر ولا ورع، كما يقول الترابي نفسه .. وما يسميه الترابي علماً جديداً في العقيدة هو ليس بعلم على الاطلاق، وانّما هو التردي، والفساد في العقيدة، والجرأة على الحق، تجاوزت كل حد معقول .. وسيتضح ذلك بصورة جلية ممّا سنورده من آراء للترابي حول القرآن، وحول النبي الكريم .. وسنرى انّ الترابي في عقيدته قد هبط دون مستوى السلف بكثير، ممّا يدعونا الى مناشدته ان يتدارك امره قبل فوات الاوان!!

موقف الترابي من النبي الكريم


انّ فساد عقيدة الترابي في النبي الكريم يدلّل عليه بصورة جلية موقفه من حديث الذباب .. والحديث يقول: (عن ابي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فانّ في إحدى جناحيه داء، والاخرى شفاء)!!
وقد قال الترابي عن هذا الحديث: (انني ارى هذا رأي رسول الله (ص) في امر طبّي آخذ فيه رأي الكافر أكثر ممّا آخذ فيه رأي رسول الله ولا أجد حرجاً في ذلك البتّة ولا اسأل فيه عالم دين) انتهى .. فالترابي لا ينكر حديث الذباب، وانما يرى انّه حديث من الأحاديث النبوية الصحيحة، ولكنه لا يأخذ فيه بقول النبي، لأنه في امر يتعلّق بالطب، فلكأنه يريد ان يقول انّ مجال الطب ليس مجال تخصص النبي ولذلك هو يأخذ فيه برأي الطبيب الكافر أكثر ممّا يأخذ برأي النبي، ولا يجد في ذلك حرجاً البتّة .. والترابي اذ يقول ذلك انّما يكشف ما ينطوي عليه من عدم تقدير للنبي، وسوء ادب معه، ومن جهل بحقائق الدين، وبالمعرفة الدينية .. فهو بقوله هذا يتهم النبي بأنه يتحدث فيما لا يعلم، وهذا سوء ادب مع الجناب النبوي،، ليس له ما يبرّره سوى فساد العقيدة .. فانّ الرجل العادي العاقل، لا يتحدث فيما لا يعلم، فمن باب اولى الا يتحدث النبي فيما لا يعلم!! ثم انّ الترابي لا يرى في قضية حديث الذباب سوى ما يتصوره هو من علم الطب، وعلم الجراثيم .. ولو كان للترابي اقل قدر من الورع، ومن سلامة العقيدة، لرجّح ان يكون للحديث وجه من الحكمة، ومن المعرفة الدينية، لم يقف عليه هو، وينتظر ان يفتح عليه فيه .. هذا ما كانت تقتضيه سلامة العقيدة، ولكن الترابي تقحّم الامر، وجعل من عقله حكماً على علم النبي . !!
انّ ما قاله النبي حق، فهو لا يقول الا الحق، وهذا ما يقتضيه مجرّد الايمان الصحيح .. بل انّ ما قاله النبي لهو من دقائق العلم بالله .. فهو بحديثه عن جناحي الذبابة وما فيهما من داء ودواء يشير الى ثنائية الخير والشر في الوجود وهذه الثنائية هي مظهر من مظاهر الوجود، السبب فيه اوهام عقولنا نحن، والا فانّ الوجود، في حقيقته، خير محض، لا شر فيه .. فنحن إذا استطعنا ان نتخلّص من اوهام العقول – اوهام الثنائية – ودخلنا حرم الوحدة، لا نرى الا الخير المحض وهذا هو مطلوب الدين الينا – وهو ما يريد النبي ان يعلّمنا اياه والى ذلك الاشارة بقوله تعالى: (ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلّكم تذكرون * ففرّوا الى الله انّي لكم منه نذير مبين) .. (ففروا الى الله) يعني فرّوا من الزوجية والضدية، الى من لا ضد له .. فرّوا من ثنائية الخير والشر، الداء والدواء‘ الى الله، حيث الخير المحض، وحيث الحصن الآمن، الذي لا يدخله معكم الشر، ولا المرض، ولا الموت .. فالشر ليس اصلاً في الوجود، وانّما هو امر مرحلي، له حكمته، وينتهي في مرحلة النسبية، فنحن إذا كنّا مع الله لا نرى الشر .. ووسيلتنا لأن نكون مع الله هي تجويد التوحيد، وهذا ما يريد النبي ان يعلّمنا اياه .. فالداء لا يكون من الجراثيم الا عند وهم العقول القواصر .. وكذلك الدواء لا يكون من الطب والعقاقير الا عند وهم العقول القواصر .. والا فان الداء، والدواء، من الله، لا من الاسباب الظاهرة، وفي ذلك يقول تعالى لسيدنا موسى في الحديث القدسي قال موسى: (يا ربّي ممّن الداء، وممّن الدواء؟؟ "قال يا موسى: "مني الداء، ومني الدواء!! قال: "يا ربي فما يفعل الاطباء؟! "قال: "يأكلون ارزاقهم، ويطّيّبون خواطر عبادي، حتى يأتيهم شفائي، أو قضائي!!") .. ولذلك فانّ التوجيه النبوي بغمس جناحي الذباب، هو تعبير عن الدعوة الى تجاوز وهم ثنائية الخير والشر، والداء والدواء، الى الوحدة حيث الخير المطلق، الذي ليس الى المرض، أو الشر، اليه من سبيل .. وعلى كل فانّ الترابي، حتى بالنسبة لأمر الطب الظاهر، لم يورد ما ينفي صحة ما قاله النبي، وهو لا يملك ان يورد ذلك، ولذلك فانّ الايمان بما قاله النبي اولى من الانكار..
والترابي برأيه هذا الذي اوردناه عن حديث الذباب، يعتقد ان النبي قد أخطأ، وتحدث فيما لا يعلم، ثم لم يصححه الوحي، وهذا طعن في عصمة النبي، وهو ايضاً طعن في القرآن، لأن العصمة ثابتة للنبي بنص القرآن، وفيه يقول تعالى: (والنجم إذا هوى * ما ضلّ صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * ان هو الا وحي يوحى) .. وقد ورد عن النبي انّه لا يخرج منه الا الحق، وانّه حتى حين يمزح لا يقول الا الحق .. فقد جاء في الحديث: (عن عبد الله بن عمر قال: كنت اكتب كل شئ اسمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله، ورسول الله بشر يتكلّم في الغضب. فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مّني الا الحق) .. وفي الحديث الذي يرويه ابوهريرة ان النبي قال: لا اقول الاّ حقاً ) قال بعض اصحابه: (فانّك تداعبنا يا رسول الله؟ قال: انّي لا اقول الاّ حقاً) .. فالترابي بموقفه هذا الذي اوردناه من حديث الذباب، يكذّب النبي فيما اقسم عليه!! وهذه حالقة لا تبقي من الدين شيئاً ..
ومعلوم انّه للنبي أحاديث كثيرة في مجال الطب، فقولة الترابي تعني انّ موقفه من جميع هذه الأحاديث ، هو موقفه من حديث الذباب، فهو يأخذ فيها برأي الكافر ولا يأخذ براي النبي .. وعلى الطب يمكن ان تقاس العلوم الحديثة الاخرى مثل الطبيعة، والفلك، والقانون .. الى الخ فموقف الترابي هذا من النبي، ليس موقفاً عرضياً، وانّما هو موقف مبدئي يحرص على توكيده في أقواله، ومنها قوله: (ولكن الرسول جاء ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، والرسول صلّى الله عليه وسلّم يؤكد ذلك المعنى: ذلك انّه ذات يوم من الايام امر الناس الا يلقّحوا النخل، وحسب الناس انّ ذلك امر من امور الدين فأطاعوا الرسول فخرج البلح شيصاً فعادوا الى الرسول يعرضون عليه الامر، فرد عليهم بقوله: أنتم اعلم بأمور دنياكم .. وإذا امرتكم بأمور دينكم فأطيعوني .. فالرسول هنا حدّد اختصاص العلم الشرعي انّه في الاصول الدينية الخلافية .. كيف تكون علاقتكم مع الله!! ذلك أصل ديني نرجع فيه الى الرسول، امّا كيف تكون الزراعة، وكيف نزرع ونخطط ونحرث ونحارب آفات الزرع فذلك علم من علوم الدنيا اي من علوم العقل الذي نرجع فيه الى التجارب البشرية العقلية سواء صدرت عن كافر أو عن مسلم بقدر ثقتنا في عقله وعلمه ..) انتهى. صفحة 8 و9 من كتاب (الفكر الاسلامي هل يتجدد؟) للدكتور الترابي .. اذن فالامر بالنسبة للترابي ليس مجرد موقف من حديث الذباب بالذات، وانما هو موقف مبدئي من النبي، ومن علمه واختصاصه .. فالترابي قد حدّد اختصاص النبي الذي ينبغي ان نرجع اليه فيه، بما اسماه العلم (الشرعي في الاصول الدينية الخلافية) .. وفسر ذلك بقوله: (كيف تكون علاقتكم مع الله!! ذلك أصل ديني نرجع فيه الى الرسول) .. امّا ما عدا ذلك ممّا اسماه الترابي (علوم الدنيا أي علوم العقل) فلا يرجع فيه الى النبي، وحتى لو كان للنبي رأي فيه فلا يؤخذ به!! هذا مع انّ من له ابسط المام بالاسلام يعلم انّ علاقتنا بالله ليس فيها فصل بين الامور الدنيوية والدينية، وانّما هي ينبغي انّ تكون في جميع اوقاتنا، وفي ذلك يقول تعالى لنبيه: (قل انّ صلاتي، ونسكي، ومحياي، ومماتي، لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وانا اول المسلمين) .. فجميع ما يردنا عن النبي هو من امور الدين التي تنظم علاقتنا بالله، لا فرق في ذلك بين ما اسماه الترابي علوم شرعية وعلوم دنيوية عقلية .. فعلم النبي ليس مقسّماً بين علم دين وعلم دنيا، وانّما هذه تخريجات من الترابي، لا حظ لها من الدين .. وحديث الترابي هذا الاخير الذي اوردناه يعني انّه يتهم النبي بأنه يتحدث فيما لا يعلم، في جميع ما ورد عنه من أحاديث ، في المجالات التي اسماها الترابي علوم دنيوية عقلية!! وهذا مستوى من سوء الادب مع النبي ما كنّا نتصور ان يصدر ممن ينتسب للاسلام .. ثم انّ التقسيمات التي وضعها الترابي من علوم شرعية، واخرى دنيوية عقلية، تفتح الباب على مصراعيه لاعمال الفكر المجرّد في قضايا الدين دون ضابط، وتبعد الدين عن تنظيم الحياة، وتجعله مجرّد طقوس تعبدية، وسيتضح كل ذلك بصورة أكبر عندما نتحدث عن موقف الترابي من القرآن، ونرى كيف انه يجرّد القرآن من ان يكون فيه دستور ينظم المستقبل .. وحديث الترابي هذا يدل على خطأ اساسي في التوحيد، وفي تصور الاسلام، ونهجه في المعرفة .. ففي الاسلام الله هو المعلّم .. وهو معلّم جميع الخلائق، وجميع العلوم، يستوي في ذلك الكافر والمؤمن .. فلا علم الاّ علم الله، وهم (لا يحيطون بشئ من علمه الاّ بما شاء) .. وعن تعليم الله للناس يقول تعالى: (علّم بالقلم، علّم الانسان ما لم يعلم) .. فهو قد قال: (الانسان) ولم يقل، المسلم او المؤمن .. وفي الاسلام التقوى هي وسيلة العلم، سواء في ذلك علم الدنيا، او علم الآخرة .. وفي ذلك يقول تعالى: (واتقوا الله، ويعلّمكم الله، والله بكلّ شئٍ عليم) .. وعبارة (والله بكل شئ عليم) تعني انّ الله يعلّم عن طريق التقوى كلّ شئ .. وفي ذلك يقول المعصوم: (من عمل بما علم اورثه الله علم ما لم يعلم) والنبي هو أكبر من علّمه الله عنه، وهو قد قال في حديث المعراج (سألني ربّي يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الاعلى؟ فقلت انت ربي اعلم، فوضع يده على كتفي، فوجدت بردها بين ثديي، فأورثني علم الاولين، والآخرين) .. فاذا كان الله هو معلم جميع العلوم، والنبي قد قال ان الله اورثه علم الاولين والآخرين، فهل بقي بعد ذلك مجال لمسلم، سليم العقيدة، لينكر على النبي علماً في العلوم التي تحدث عنها؟! اللهم ان هذا حرمان، وجحود نبرأ اليك منه ..
ومعلوم انّ الله قد علّم سيدنا عيسى علماً أرقى ، وارفع من علم الطب، - علّمه ما يبرئ به الاكمه، والابرص، ويحي به الموتى باذن الله .. وبالطبع فانّ عيسى لم يتعلّم ذلك في مدرسة من مدارس الطب، وانّما تعلّمه في مدرسة النبوة .. فما الذي يمنع ان يعلّم الله صفيه، وخاتم انبيائه ما سبق ان علّمه لأحد الانبياء؟
لقد تورّط الترابي، فيما خاض فيه من امر النبي، في هلكة خطيرة، فانّ العقيدة في النبي هي مدخل على العقيدة في جميع مستوياتها، فاذا فسدت العقيدة في النبي فالعقيدة في جميع المستويات الاخرى فاسدة، والعمل حابط .. وفي ذلك يقول تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون، حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ،ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت، ويسلّموا تسليماً) .. ويقول: (يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا اصواتكم فوق صوت النبي، ولا تجهروا له بالقول، كجهر بعضكم لبعض، ان تحبط اعمالكم وأنتم لا تشعرون) .. فاذا كان سوء الادب مع النبي، بمجرّد رفع الصوت فوق صوته، او الجهر له بالقول، يحبط العمل، فكيف يكون الشأن بالنسبة للترابي، وقد رأينا البعد البعيد الذي وصل اليه في فساد العقيدة في النبي، وسوء الادب معه؟! انّ مجرد المقارنة بين النبي والكافر، في اي مجال من المجالات عمل ينفر منه الحس الديني السليم، وتأباه كل نفس لها حظ من التدين، ومن توقير النبي .. ولكن الترابي يصر على هذه المقارنة، بل ويذهب الى ابعد من ذلك فيفضل رأي الكافر على رأي النبي، في شطط، واصرار، يقومان على التعالم الاجوف .. فهو يقول عن موقفه هذا (ولا أجد في ذلك حرجاَ البتّة، ولا استشيرفيه عالم دين)!! ففي حين يقول القرآن: (فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت، ويسلوا تسليماً ..) يقول الترابي عن اخذه برأي الكافر أكثر من رأي النبي، في الامور الطبية: (ولا أجد في ذلك حرجاً البتّة) فكأنه تخيّر من العبارات ما يعارض به عبارة القرآن تماماً!!
انّ امر الترابي لأمر بعيد، كل البعد، عن الدين .. وهو من أكبر واوضح الصور التي تجسّد فساد العقيدة عند المسمين اليوم .. امّا موقف الترابي، الذي اوردناه من حديث النخيل، فهو شبيه بموقفه من حديث الذباب وهو نفس الموقف الذي يقفه الصادق المهدي من هذا الحديث، ولذلك فانّ ردّنا على الصادق فيما يتعلّق بحديث النخيل، والذي سنورده في موضعه من هذا الكتاب، هو يعتبر في نفس الوقت، ردّاً على الترابي ..

موقف الترابي من القرآن


انّ ممّا يكمّل صورة فسادالعقيدة عند الترابي موقفه من القرآن .. وهو موقف واضح فيه انّه يتجه الى تجاوز القرآن، بنفس الصورة التي اتجه فيها الى تجاوز النبي الكريم، وبصورة تجعل القرآن مجرّد كتاب تاريخ، ليس له حظ في تنظيم المستقبل .. ومن اقوال الترابي الدّالة على ذلك قوله: (ومن المعوقات هنالك من يقول بأن عندنا ما يكفينا في الكتاب والسنّة وهذا وهم شائع، اذ لابدّ ان ينهض علماء، فقهاء، فنحن بحاجة الى فقه جديد لهذا الواقع الجديد ..) صفحة 12 من كتاب (الفكر الاسلامي هل يتجدد؟) .. وهذا الرأي للترابي تؤكده قولة اخرى له جاء فيها قوله عن القرآن: (ولا غرو ان نزل القرآن، منسجماً على الحادثات في اسلوب متحرّك يحيط بالحدث ويبيّن عبرته ومغزى المواقف من حوله، ولم يجئ كتاباً ينظم المستقبل بدستور من الافكار المجردة) .. من بحث الترابي (خطاب الأمة الاسلامية الى أهل الملل الاخرى) .. وهذا حديث صريح بأنه ليس في القرآن والسنّة ما يكفي، وان القرآن، عند الترابي نزل منسجماً مع الحادثات، ولم يجئ كتاباً ينظم المستقبل بدستور من الافكار المجرّدة .. وهذا يعني ان القرآن كتاب مرحلي ليس له حظ من تنظيم المستقبل .. ولو كان الترابي مفكراً دينياً لعلم انّ القرآن ليس مجرّد دستور، وانما هو (الدستور) الذي لا دستور غيره .. لانه هو القانون الاساسي الذي يسيّر الله على هداه الحياة في جميع مراحل تطوّرها .. فالكلمة (لا إله الا الله) هي الدستور، وذلك لأنها هي قانون الارادة الالهية المتفّردة التي تسيّر الوجود .. والقرآن كلّه يقوم على لا إله الا الله، ويدور حولها .. والمحاولات الوضعية، في الدستور هي حتى اليوم مجرّد محاولات قاصرة، وهي لن تستطيع ان تقيم حكم الدستور على الارض، لأنها لا تعرف القانون الاساسي – القانون الطبيعي – الذي يسير الوجود .. ولأنها تجهل طبيعة النفس البشرية .. ولن يتم قيام الحكم الدستوري، على الارض ، إلاّ عندما يطبّق القرآن في مستوى اصوله، او قل الاّ عندما يطبّق الدستور الاسلامي دستور القرآن .. ولكن الترابي ليس مفكراً اسلامياً، بأي حال من الاحوال، وهو ليس مفكراً مدنياً ايضاً .. فنحن حتى الآن ، رغم دعاوي التجديد، والتحديث، والتطوير، لم نر أي محتوى محدد لما يدعو اليه انّما هي مجرّد عبارات انشائية فضفاضة، ليس فيها محتوى موضوعي .. فالترابي ما هو الا رجل متقحّم على الدين، وعلى الفكر، لا يحفظ للقرآن، ولا للنبي، بعض ما ينبغي لهما من حرمة، ومن توقير .. ونحن انّما قصدنا هنا ان نورده كنموزج ندلل به على البعد البعيد الذي وصل اليه فساد العقيدة عند المسلمين ..