إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search
سلسلة تبسيط الدعوة - الحلقة السابعة

امدرمان - مدينة المهدية
٢٧ أغسطس ١٩٧٧

الجزء الثاني

والحقيقة أنُّ القرآن ودقائقه وعلومه تجيء من الله، ونتعرض لها نحن بفضل الله ثم بفضل تجويد التوحيد .. ودا ما ظللنا نتحدث عنه .. والتوحيد رهين بمسائل منها المجهود الفردي في العبادة، ومنها الإطلاع على علوم العصر .. وأكبرها الفضل، فضل الله على العابد .. هناك يجيء الأمر في: «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحق، أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد!» .. هنا، كلما اطلعنا على آيات الآفاق أكثر ثم جودنا في العبادة أكثر، نحصِّل من التوحيد أكثر .. وبتحصيلنا في التوحيد أكثر نفهم عن القرآن أكثر، نفهم عن الله من القرآن أكثر .. ودا هو أُس الرجاء في المقدرة المرتقبة لحل مشاكلنا المعاصرة من القرآن .. نحن لا نعتقد أنّ هناك حاجة لوحي جديد إنما المصحف ضم بين دفتيه كل شيء .. وما علينا نحن إلا أن نسعى للفهم الجديد .. وذلك بالتعرض للفضل الإلهي ثم بتجويدنا للعبادة وبإطلاعنا على ثقافة عصرنا، كما قررنا ..

نحن قلنا أنُّ المدخل على القرآن للفهم الجديد يجيء من ناحية كون القرآن مثانى .. وقلنا أنُّ مفتاح القرآن هو حياة النبي، وأنُّ حياة النبي، أيضًا، تقع فيها مسألة المثاني .. والمثاني اللي هي المعنيين، معنيين .. المعنى القريب حجبنا عن المعنى البعيد، زي ما قلنا في مسألة «لمن شاء منكم أن يستقيم» .. قلنا أنُّ المعنى دا هو المعنى القريب لِنا، وعليه قامت الشريعة .. ونحن، في الحقيقة، محجوبون بِهُ هو نفسه عن المعنى البعيد، اللي هو «وما تشاؤن إلا أن يشاء الله رب العالمين» .. فالآية الأولانية آية شريعة، والآية التانية آية حقيقة .. ونحن عندما نبتدئ بالأولى، الآية التانية في حقنا كأنها منسوخة .. نحن مشغولون بالآية الأولانية، ومحجوبون بها وبأوهامنا القائمة في بالنا، السمّيناه أوهام العقول .. محجوبون عن الآية الثانية، فكأنها في حقنا منسوخة .. فإذا أجتزنا، بحسن التوفيق وحسن الفهم وحسن العمل في العبادة، إجتزنا مرحلة «لمن شاء منكم أن يستقيم»، يطالعنا المعنى في «وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين» .. فتبقى في حقنا الآية التانية هي القائمة .. والآية الأولى قائمة أيضًا لكنها في مرتبة الوسيلة من الغاية .. نحن عينا مفتوحة للمرحلية الفيها .. أصبحت عينا مفتوحة للمرحلية الفيها أكثر من ذي قبل، عندما كنا بنفتكر أنها هي قصارانا وهي غايتنا، زي ما بيكون الحال عند الناس هسع عندما يفتكروا أنُّ الشريعة هي قصارانا وهي غايتنا .. لكن عندما تتوغل في الشريعة وتعرف دقائق الحقائق الوراها، وأسرار الشريعة تعرف أنُّ الشريعة هي مجازك للحقيقة ..

مسألة الثنائية، مسالة المثاني، بتجيء من اعتبار أساسي هو أنُّ القرآن كلام من الرب إلى العبد .. دا الاعتبار الأساسي، بين القمة والقاعدة، القرآن من الله إلى العباد .. ويقول فيه: «حم .. والكتاب المبين .. إنا جعلناه قرآنا عربيًا لعلكم تعقلون .. وإنه في أُم الكتاب لدينا لعلي حكيم» .. هذه الآية تعطي البداية في الأرض، واللي هي القرآن العربي، وباللغة العربية بظاهر النص .. ودا ما يمشي لِهُ التفسير .. ثم تعطي الآية القمة عند الله، حيث لا عند .. حيث خارج الزمان والمكان عند الله في عليائه، في ذاته .. والقرآن، في هذا المستوى، هو ذات الله .. القرآن كلام الله .. هو الصفة القديمة القائمة بذاته .. وهي في التناهي ليست شيئًا مغايرًا للذات، وإنما هو الذات .. «وإنه فى أُم الكتاب لدينا لعلي حكيم» .. دا الأمر الكبير جدًا في السبب في المثاني .. لكن أقل من كدا وأقرب لِنا، السبب في المثاني أننا نحن عندنا إدراك شفعي وإدراك وتري .. الإدراك الشفعي تعطيه الحواس، والإدراك الوتري بعد غربلة العقول لمعطيات الحواس، والوصول إلى وحدة من التعدد الذي تعطيه الحواس يجيء الإدراك الوتري ..

و قلنا أنُّ الإدراك الوتري ما هو علم وإنما هو نهاية العلم، ثمرة العلم .. هو حياة .. الحياة يوصِّل لِها العلم، لأنُّ حياتنا نحن مؤوفة بالخوف .. حياتنا نحن ناقصة بسبب الخوف، والخوف سببه الجهل .. فلو نحن علمنا لا نخاف .. لو علمنا الشيء البنخاف منه، يبقى عندنا عادي ومألوف وشيء لا يثير فينا، على أي حال من الأحوال، الخوف ..

يبقى بعد المعنى الكبير البِهُ ظهرت المثاني، أو الحكمة في ظهور المثاني، اللي هو كلام من الرب في عليائه للعبد في أرضه، يجيء سبب آخر برضو للمثاني، هو أمر الظاهر والباطن .. أمر الظاهر والباطن دا وارد بِهُ القرآن في آية المثاني نفسها: «الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد» .. الظاهر هنا جلودهم، والباطن قلوبهم، «ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء» ..

والمثاني بتعني معنيين، معنيين .. بدايتها في الأرض ونهايتها في الإطلاق .. لكن بين البداية والنهاية معاني لا حصر لها، ومراتب لا حصر لها .. وكل معنى قريب مننا المعنى الأبعد منه، بأقل حاجة، يجعله من المعنى البعيد .. مش معنى الكلام، المعنى البعيد والمعنى القريب معناه معنى في الأرض ومعنى في الإطلاق .. دا واقع .. لكن دونه طبقات لا تتناهى، ولا يبلغها الحصر لأنها هي سير من المحدود إلى المطلق .. فهي تتفاوت فى الدرجات دي .. مثلاً الآيتين القرإناهن للشريعة وللحقيقة، «لمن شاء منكم أن يستقيم» دي آية قريبة مننا .. قريبة لأنها بتماشي وهمنا .. نحن بنفتكر أننا عندنا إرادة بها نستقيم وبها نلتوي عن الإستقامة .. هدي قريبة بالمعنى دا، «لمن شاء منكم أن يستقيم» .. البعيدة: «وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين» .. دا المعنى البعيد، ودا المعنى القريب .. فكأنُّ في معنى الإرادة، في معنى في ظاهر النص يماشي وهمنا، ويقول لِنا إنتو عندكم مشيئة .. ونحن نفهمه بسهولة وبسرعة .. بعدين في معنى بعيد شوية يصادم وهمنا دا، ويقول لِنا إنتو ما عندكم مشيئة إلا مشيئة جعلها الله لكم، «وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين» .. ومثلاً «يا أيها الذين آمنو أتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون»، دا معنى بعيد مننا شوية .. تكليفه علينا شاق، «يا أيها الذين آمنو أتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون» .. يجيءنا معنى أقرب منه، وكأنه ناسخ لِهُ .. وحتى يُحكى أنُّ الأصحاب قالوا: أينا يستطيع أن يتقي الله حق تقاته! فنزل: «فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرًا لأنفسكم، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون» .. دا المعنى القريب مننا .. وهو، بطبيعة الحال، معنى بيناسب طاقتنا ..

وقد نعجز نحن عن أن ندرك المثاني في كل القرآن .. بل قد نعجز في حد قريب يعني .. ودا ما ببرهن على أنُّ القرآن ما هو مثاني .. ببرهن على أننا نحن ما بنحيط بالمثاني في القرآن كلها .. ودا، فى حد ذاته، أمر ما محتاج لبرهان، لأنه واضح .. لكن قد يظن بعض الناس أنُّ إذا ما استطعنا أن نجيب على المثاني فى كل آية، وفي كل سؤال يوجه لِنا عن الآيات، دا بيهدم القاعدة .. ودا طبعًا خطأ .. دا قد يبرهن على عجزنا نحن عن الفهم الواسع للقرآن، خلي عنك الإحاطة بالقرآن .. لكنه، قولاً واحد، ما بيهدم القاعدة، أنُّ القرآن مثاني .. والقاعدة دي، الحقيقة، ما محتاجة لبرهان .. هي، بطبيعة الحال، وارد بها النص في: «الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني» .. وسقنا الآية قبل الآن، ووارد بها النص .. وما يمكن أن يكون فهمها خطأ، أن تقول إنت أنُّ المثاني معنيين، معنيين .. بل، الحقيقة، أنُّ دا أُس الرجاء في أنُّ القرآن يحل مشاكل الناس كلها، لمن يكون معنى قريب ومعنى بعيد ..

ثم إنت، المعنى كلما تقدر تفهم من القرآن بصورة أوسع، المعنى البعيد يصبح معنى قريب بالنسبة لمعنى أبعد منه .. ثم المعنى الأبعد يصبح معنى قريب بالنسبة لمعنى أبعد منه .. والقاعدة أنُّ العلم بيتسامى من علمنا في الأرض ماشي نحو العلم المطلق، «ولايحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء» .. وربنا كل لحظة، كل يوم يشاء لِنا علم جديد نحن نتعلمه ..

وعبارته عن نفسه جل وعلا: «كل يوم هو فى شأن» .. يومه الأربعة وعشرين ساعة في الشريعة، بطبيعة الحال .. لكن، يومه دا يدق حتى يخرج عن الزمن .. يومه في الشريعة، عندنا في الأرض هنا، أربعة وعشرين ساعة، عليها قامت التكاليف وقامت الشريعة .. لكن يتسامى إلى أن يخرج من الزمن .. من الأربعة وعشرين ساعة، لغاية ما يبقى ثانية، لغاية ما تتجزأ الثانية إلى بليون جزء، إلى أن تخرج من الزمن .. يومه جزء، ممكن أن تقول، من بليون جزء من الثانية .. في كل لحظة هو يتجلى علينا بتجلي جديد، يعلمنا علم جديد، «كل يوم هو فى شأن» .. شأنه إبداء ذاته لخلقه ليعرفوه .. ودي في عبارة: «ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء» .. و«فوق كل ذى علم عليم»، يبتدئ من علمنا نحن في الأرض وتفاوتنا في العلوم إلى الملأ الأعلى، وإلى التفاوت اللي ينتهى إلى العلم المطلق عند الله .. «فوق كل ذى علم عليم»، إلى أن يمشى إلى العليم المحيط العلم، في الذات ..

فالمثاني هي، الحقيقة، معارج، مش يعني حاجة متناهية .. هي ما متناهية .. هي المعارج إلى الله .. ونحن ما عندنا معارج ليه إلا بالعلم .. وما عندنا رؤية لِهُ إلا بالعلم .. الرؤية علم .. الشهود فناء عن العلم، عندما تعجز إنت .. ما دام إنت شاعر بأنك عالم، إنت في مستوى عالم، برضو، لكنه علمك حاجبك .. فإذا فنيت عن علمك وبقيت مع جهلك، إذا علمت أنك جاهل، إنت تكون أعلم منك لو علمت أنك عالم .. وفي مستوى أنك عالم، إنت عالم .. عالم في مستوى الصفات، وفي مستوى الأسماء، مثلاً .. لكن إذا عجزت عن العلم، توقف عقلك لعجزه، تعلم الله .. تعرف الله أكتر، ويكون دي مرتبة شهود ..

والعلم نحن بنحصله بإحدى جارحتين أو بالجارحتين معًا، القلب والعقل .. والقلب هو قوة الإدراك الوتري، كما سبق أن قررنا .. والعقل هو قوة الإدراك الشفعي .. معنى هذا الكلام، أننا في مرتبة الضدية، في مرتبة الأسماء والصفات والأفعال حيث تقع الضدية، في مرتبة الحق حيث ضد الحق الباطل، ندرك بعقولنا .. وفي مرتبة الوترية، في مرتبة الحقيقة، في مرتبة الذات التي لا ضد لها، ندرك بقلوبنا .. والإدراك بالقلوب ليس علم بالمعنى اللي بِهُ تحصيل العلم المعروف، وإنما هو مرتبة فناء عن العلم .. مرتبة حيرة .. وفي مرتبة الحيرة يقع الشهود .. والشهود استغراق .. يُستغرق المشاهد من جميع أقطاره .. فهو يحيا .. أدّاه العلم إلى الحياة، حيث رفع منه حجب الأوهام، وحجب الأباطيل، وحجب المخاوف .. حرره من الخوف ..