إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search
سلسلة تبسيط الدعوة - الحلقة السابعة

امدرمان - مدينة المهدية
٢٧ أغسطس ١٩٧٧

الجزء الثالث

ودا ذاته من أسباب الثنائية، كوننا بندرك بقوتين: قوة الإدراك الوتري، وقوة الإدراك الشفعي .. دا ذاته من أسباب المثاني .. كأنُّ في معنى قريب ندركه بقوة الإدراك الشفعي «الأكوان»، وفي معنى بعيد ندركه بقوة الإدراك الوتري «المكوِّن»، الكون والمكون .. ودي ذاتها مثاني .. لأنُّ الكون هو مظهر الذات في مستوى الفعل .. بالفعل برز الكون .. وعن قوة الإدراك الوتري وقوة الإدراك الشفعي يحدثنا القرآن: «إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد» .. «إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب»، وهنا يعني القلب السليم من الإنقسام بالمخاوف والمطامع .. أو إذا كان القلب السليم ما حُصِّل، قبله المعنى القريب لِنا هو الإدراك الشفعى: «أو ألقى السمع»، إستمع .. ويُشترط فيه أن يكون «وهو شهيد» .. العقل غير موزع بالأوهام والأباطيل والجهالات .. كأنه قال: إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو كان له عقل .. كأنُّ المعنى بالصورة دى ..

والحقيقة، أنُّ مسألة المثاني هي شائعة في القرآن بالصورة المابتحتاج للتدليلات الكثيرة المشينا فيها .. لكن علمنا من اتصالاتنا وما يجري بيننا مع المعارضين من مساجلات، أنُّ مسألة المثاني مستعصية عليهم .. عندنا مثلاً فاتحة الكتاب .. فاتحة الكتاب هي السبع المثاني، وهي القرآن العظيم .. وقال فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم .. الحمد لله رب العالمين .. الرحمن الرحيم .. ملك يوم الدين .. إياك نعبد وإياك نستعين .. اهدنا السراط المستقيم .. سراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين» .. هذه سبع آيات: بسم الله الرحمن الرحيم، آية؛ الحمد لله رب العالمين، آية؛ الرحمن الرحيم، آية؛ ملك يوم الدين، آية؛ إياك نعبد وإياك نستعين، آية؛ اهدنا السراط المستقيم، آية؛ سراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، آية، هذه الآية السابعة .. وكونها سبعة، دي لأنّ آياتها سبعة، السبعة المثاني .. وكونها مثاني لأنُّ كل آية عندها معنى قريب ومعنى بعيد .. كل آية من الآيات دي عندها معنى قريب ومعنى بعيد .. المعنى القريب في «بسم الله الرحمن الرحيم .. الحمد لله رب العالمين .. الرحمن الرحيم .. ملك يوم الدين .. إياك نعبد»، المعنى القريب في هذا هو العبادة، والمعنى البعيد العبودية .. المعنى القريب العبادة .. المعنى البعيد العبودية .. عندما تحول من «إياك نعبد»، قال: «وإياك نستعين .. اهدنا السراط المستقيم .. سراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين»، دي أيضًا فيها معنى قريب، ومعنى بعيد .. المعنى القريب العبادة، والمعنى البعيد العبودية .. لكن العبادة، في القول إلى أن يجيء في «إياك نعبد»، العبادة أبرز من العبودية .. و دا ما هو قريب مننا .. ودي العبادة فى المستوى الكثيف البِهُ بداية الحركة في الدخول في الملة بالتطبيق العملي ..

العبادة أبرز من العبودية .. العبادة أقرب لِنا من العبودية .. لأننا العبودية لم نستشعرها بعد .. بل الحقيقة، نحن محجوبون بالعبادة عن العبودية .. زي ما قلنا في آية: «لمن شاء منكم أن يستقيم»، قلنا دي آية شريعة .. يعنى آية عبادة .. «وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين»، قلنا دي آية حقيقة .. يعني آية عبودية .. آية عبادة وعبودية .. نحن في أول الأمر محجوبون بالعبادة عن العبودية .. نحن محجوبون بآية «لمن شاء منكم أن يستقيم» .. وما عندنا مشهد ولا ذوق في «وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين» .. فإذا جودنا العبادة، أصبحت واضحة عندنا أنُّ العبادة مرحلة ووسيلة .. العبادة مرحلة موصلة لغاية .. وسيلة العبودية العبادة، وسيلة الحقيقة الشريعة .. في الحقيقة الشريعة موجودة، وفي الشريعة الحقيقة موجودة .. لكن بروز الحقيقة في الحقيقة أكبر من بروز الشريعة فيها .. وبروز الشريعة في الشريعة أكبر من بروز الحقيقة فيها .. لكن الاتنين بتساوقن مع بعض .. هنا القول إلى أن يصل إلى «إياك نعبد»، دي العبادة .. والعبادة العبودية فيها .. لكن العبودية محجوبة عننا بالعبادة ..

عندما جاء في «وإياك نستعين»، كأنما طالعه مشهد أنّ العبادة تحتاج إلى إعانة منه .. نحن في الأول عبادة مننا لِهُ .. نحن عابدين وهو معبود .. مننا لِهُ .. لكن في الآخر، عندما نمشي بالعبادة في مجالات المعرفة والإيقان، عندما يدخل شيء من النور كبير في قلوبنا نشعر بأنُّ شيء ما بيبدأ منه هو ما بيبدأ مننا نحن .. فى أول أمرنا، الأمر بادئ مننا نحن لِهُ .. عندما يجئنا المشهد المتكامل باستيقان الحقائق الكبرى .. وتطالعنا الحقائق الكبرى نشعر بأنُّ حتى عبادتنا منه هو لِهُ هو .. لولاه ما عبدناه .. فيبقى: «وإياك نستعين .. اهدنا السراط المستقيم .. سراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين»، دي شريعة، عبادة لكن العبودية فيها أبرز .. بمعنى أنُّ العبادة تضاءلت في صدرنا .. أول مرة نحن نكون راضين عن عملنا، وفرحين بعملنا .. عندما نشاهد أنُّ كله منه هو، في المشهد دا يبقى عملنا يتضاءل في نظرنا، ويكبر في نظرنا الفضل اللي جائينا منه هو .. وبِهُ نحن موفقين لأن نتوضأ، وأن نصلي، وأن نصوم، وأن نعمل العبادات حتى في مستوياتها البدائية ..

فالمعاني، المعنى القريب يمكنك أن تقول في الصورة بتاعة السبعة المثاني اللي هي فاتحة الكتاب .. المعنى القريب العبادة والمعنى البعيد العبودية .. في كل آية من الآيات في عبادة وفي عبودية .. العبادة في الأول أظهر من العبودية .. فمن ما جا فى «وإياك نستعين»، ومشى في الآية للآخر، بقت العبادة تضاءلت .. وهي برضها المعنى القريب لِنا، لكن العبودية بدا ظهورها أكبر .. وهو دا معنى بعيد .. بمعنى أنُّ ما بنصله بالوهلة الأولانية، وإنما نتوسل لِهُ بالوسائل الصحائح حتى نصله .. العبادة القريبة لِنا في الحركات الجسدية، وفي الأعمال المختلفة البنعملها في وسائل عبادتنا، وطرائق عبادتنا، هي البتثمر في صدورنا حال يكون بِهُ المشهد، مشهد العبودية، أكبر من مشهد العبادة .. ونرى الأمر كله مركوز على الفضل، وأنُّ شيء لا يبدأ منه هو لِنا لا يكون مننا لِهُ، و لا العبادة ..

قال عنها، عن الفاتحة: «ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم، لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين» .. هنا «ولقد آتيناك سبعاً من المثانى»، هي الفاتحة .. هي الحمد .. «والقرآن العظيم»، هي الحمد أيضًا .. الآية دى معناها: «ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم»، معناها فاتحة الكتاب، اللي هي سبعة آيات .. وفيها آية هي اللي جعلتها أُم الكتاب، وجعلتها فاتحة الكتاب، وجعلتها في كل صلاة تُكرر قراءتها .. وليست هناك صلاة صحيحة إلا بالحمد .. أيِّ صلاة ما تُقرأ فيها الحمد هي باطلة، إلا أن يكون في مانع طبيعي للمصلي من أن يستطيع أن يقرأ فاتحة الكتاب .. هذه الآية هي: «سراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين» .. والسر في الآية دي، أنها فيها الإستقامة وفيها التوحيد .. الإستقامة بين الطرفين، المغضوب عليهم من طرف والضالين من طرف .. ديل الاتنين برضو فيهن المثانى .. المغضوب عليهم دى المعنى القريب، والضالين المعنى البعيد ..

وعندنا، في التفسير أنُّ، «المغضوب عليهم» اليهود، و«الضالين» النصارى .. الجائي، الوضع، في مسالة اليهود في أنهم أقرب إلى الجانب المادي .. وجائي في مسألة النصارى، أقرب إلى الجانب الروحاني .. يعني، اليهود أفرطوا في المادية، والنصارى أفرطوا في الروحانية .. يمكنك أن تقول في وضع واحد، تقول عنهن، اليهود فرطوا في الروحانية، و«الضالين» النصارى فرطوا في المادية .. فما كان الاعتدال بين الطرفين .. هنا دا، جاءت الأمة المسلمة: «وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا» .. جعلناكم أمة وسطًا بين اليهود والنصارى، بين المفرطين في الروحانية والمفرطين في المادية، «وكذلك جعلناكم أُمة وسطًا» .. هذه الأمة الوسط هي في خط الاستقامة .. ولذلك قال، «اهدنا السراط المستقيم» في الآية القبلها ..

بعدين جاء ليقول يوصف السراط المستقيم «سراط الذين أنعمت عليهم» اللي هم المسلمون .. لأنُّ هناك وارد في أمر المسلمين: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى» .. دي عبارة «أنعمت عليهم» .. «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا» .. فهنا، السراط المستقيم، «سراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين» .. هو خط الاستقامة، القلنا عنه في «استقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا» .. قلنا عنه أنُّ ورد في الحديث أنُّ النبي الكريم قال: «شيبتنى هود وأخواتها» .. فقال بعض العارفين أنُّ ما شيبه من هود هو «استقم كما أمرت» .. والإستقامة في خط النُص تكاد تكون في خط أحد من السيف وأدق من الشعرة .. ثم المستقيم الأعلى من المستقيم البيرى هذه الحدة والدقة، المستقيم الأكبر منه يرى أنُّ دا خط عريض ويفلق الشعرة، ويفلق فلقة الشعرة، حتى يسير إلى المطلق .. بين الطرفين ديل في المطلق .. فـ«استقم كما أمرت» تجيء في خط في غاية الدقة وفي غاية الصعوبة .. و كأنه قبض الريح .. وفى الحقيقة يجيء في مستوى «ويحذركم الله نفسه» .. وذلك من قوله: «لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير .. قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير .. يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد» .. هنا، إذا حذرك الله ما تعلم من حرامه وحلاله ومن حدوده وما في ظاهر الشرع، فإن الأمر يكون أو قد يكون يسيرًا .. ولكن إذا حذرك نفسه وأنت تجهلها، فإن أمرك في خطرِ عظيم .. وهو ما شيب النبي العظيم، حين قال: «شيبتنى هود وأخواتها» ..

قال: «قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله» .. هنا، «يعلمه الله» تعني يحاسبكم به الله .. هي كقوله تعالى: «لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير» .. فذلك لأن علم الله فعل .. فإذا قال: «يعلمه الله»، فقد قال، يحاسبكم به الله .. وهذا، في حد ذاته، أمر أدق من الشريعة .. إنه في الشريعة لا حساب على حديث النفس .. فقد قال المعصوم: «إن الله تجاوز لأُمتى عما حدثت به نفوسهم، ما لم يقولوا أو يعملوا» .. وحديث النفس يقع على مستويين: مستوى السر؛ ومستوى سر السر، وهو أخفى من السر .. وقد يخفى حتى على صاحبه .. قال تعالى: « وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى» .. هنا جاء بالجهر وجاء بالسر وبسر السر، فى قوله، «وأخفى» .. وحين قال: «ويحذركم الله نفسه»، فقد ذهب إلى أمر أخطر وأدق من قوله تعالى: « إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله» .. كأنه ذهب إلى سر السر .. ولولا أنه جاء بالفاصلة «والله رءوف بالعباد»، لكان الأمر شديد الوطأة على نفوس العارفين .. وحتى في الفاصلة الأولى، فإن الرفق بقلوب العارفين ظاهر .. وذلك حيث يقول: «ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير» .. الفاصلة «وإلى الله المصير» هذه بمثابة بشارة لمن يعلمون أن الله خير محض، خير خالص من كل الشرور .. من كان مصيره إلى الله، فإن مصيره إلى الخير الصرف ..

بهذا نختم شريطنا السابع .. وسنستأنف الحديث عن المثاني في شريطنا الثامن، إن شاء الله ..