إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

ثورة رفاعة ١٩٤٦: التاريخ بين المثقفين المصريين والمثقفين السودانيين

خالد الحاج عبد المحمود


رفاعة - ديسمبر ٢٠٠٢

لقد تعرض د. خالد المبارك، لأحداث ثورة رفاعة 1946م في حديث له بجريدة الرأى العام بتاريخ 19/11/2002م، هبط فيه بدور المثقفين الى قاع، يصعب أن يجاريه فيه أحد .. فقد جاء حديثه، متحاملا مغرضا، يفتقر الى ابسط قيم الفكر الموضوعي الأمين.. فالموضوعية في ابسط صورها تقتضي ذكر الحقائق كماهي، ثم مناقشتها، لا تبديلها وعكسها، أو تحريفها.. ولكن لنرى، من اقوال خالد المبارك، ماذا فعل!! فقد جاء من أقواله من ذلك المقال: " لكن الأستاذ محمود محمد طه ارتكب عدة أخطاء تقديرية جسيمة. حدثت انتفاضة رفاعة- التي اشاد بها المتحدث- احتجاجاً على قرار الادارة الاستعمارية بمنع الخفاض الفرعوني. قيل للعامة: يريد الانجليز ان يتدخلوا في كل شئ حتى ..... بناتكم.. وفعلا ثار الناس حماية للشرف الرفيع، وكان على رأسهم الأستاذ محمود. كان موقفه متخلفاً ورجعباً، في مواجهة قرار تحديثي جرئ وسليم. انتفاضة رفاعة المزعومة ليست من مآثرنا في النضال ضد الاستعمار، بل هي من مخازينا، ويقع وزرها على الأستاذ محمود محمد طه. قيل لنا أنها مثل اضرابات الطعام في المدارس، واضرابات زيادة الأجور العمالية، مجرد ظاهرة اجتماعية، لمضمون سياسي هو رفض الاستعمار، وهذا دفاع واه، لأن الأستاذ محمود لم يراجع موقفه علنا أو يذكر مبرراته بعد نيل الاستقلال" !!
.. هذا حديث قاله سوداني، لا شك في سودانيته من حيث: الدم وشهادة الجنسية!! ثم هو رجل منسوب للثقافة!! بل وربما الفن ايضا!! " فانها لاتعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور "!!.. بدل "قيل لنا "، كان ينبغي أن تقول من الذي قال لك، وما نص قوله، وما هو المصدر الذي استقيت منه هذا القول، هذا ماتقتضيه الموضوعية والأمانة الفكرية، اللتين حدت عنهما حيادا تاما!! ما الذي يجعل ثورة شعبية، قامت ضد المستعمر، واجه فيها الشعب الرصاص، وتعرض للمحاكم والسجون، ما الذي يجعل هذه الثورة في نظر د. خالد المبارك "من الأخطاء التقديرية الجسيمة ".. وموقف قائدها موقف متخلف ورجعي.. وهي "ليست من مآثرنا في النضال ضد الاستعمار، بل من مخازينا"!! كل هذا السباب الفظ ، ما الذي يبرره في نظر قائله د.خالد المبارك؟! السبب في نظر قائل العبارات، وحسب عبارته هو، أن ثورة رفاعة قامت "احتجاجًا على قرار الادارة الاستعمارية بمنع الخفاض الفرعوني"!! وهو يقرر هذا الأمر تقريرا، دون أن يحاول ايراد اي دليل عليه!! فخالد المبارك يريد أن يقول أن الأستاذ محمود، وثوار رفاعة يؤيدون الخفاض الفرعوني ولذلك قاموا بثورتهم ضد الانجليز، لأنهم منعوا هذا الخفاض، في قرار "تحديثي جرئ و سليم" حسب عبارته!! لو كان د. خالد المبارك موضوعيا أو امينا لعرض الموقف كما هو، ثم ناقشه، ولكنه لم يكن كذلك .. فما هو موقف الأستاذ محمود والجمهوريين من الخفاض الفرعوني؟
ان الجمهوريين يرون منذ البداية، أن الخفاض عادة سيئة وضارة، وكان لخالد المبارك ان يرى ذلك بوضوح لو أراد، فقد جاء في منشور الخفاض مثلا: " لانريد بكتابنا هذا أن نقف موقف المدافع عن الخفاض الفرعوني ولا نريد أن نتعرض بالتحليل للظروف التي أوحت به لأهل السودان، ولكننا نريد نتعرض لمعاملات خاصة وأساليب خاصة، وسنن خاصة سنتها حكومة السودان، أو قل ابتدعتها ابتداعا- وأرادتنا أن ننزل على حكم ابتدعها ارغاما"..الخطوط تحت الكلمات من وضع الكاتب.
ويمضي المنشور ليكشف الغرض الحقيقي والمبيت من اصدار القانون، فيقول: "لا شك أن مجرد التفكير في الالتجاء الى القانون للقضاء على عادة مستاصلة في النفوس تاصل الخفاض الفرعوني دليل قاطع على أن حكومة السودان اما أن يكون رسخ في ذهنها أننا شعب تستطيع القوة وحدها أن تثنيه عن كل مبدأ، أو عقيدة أو أن تكون قد ارادت أن تقول للعالم الخارجي ان السودانيين قوم متعنتون وأن تعنتهم الذي الجأنا للقانون لأستئصال عادة الخفاض الفرعوني الهمجية، هو نفس التعنت الذي وقف في سبيلنا، وشل أيدينا عن استعمال الأراضي الواسعة الخصبة في الجنوب والاستفادة من مياه الدندر والرهد والأتبرا، والتوسع في التعليم.. هذا من ناحية الالتجاء للقانون.. وأما القانون في ذاته فهو قانون اريد به اذلال النفوس واهدار الكرامة والترويض على النقائص والمهانة.." اذن فالجمهوريين، وحسب منشورهم، لا يدافعون عن الخفاض الفرعوني، فهو عندهم- كما هو عند أي مثقف- عادة ذميمة، وضارة، بل وهمجية، كما ورد في عباراتهم.. و الأستاذ محمود، والجمهوريون ليسوا فقط ضد عادة الخفاض الفرعوني وانما هم ضد خفاض المرأة في أي صورة من صوره، كما سنبينه في موضعه.
القانون، أي قانون، ليس مجرد نص، وانما هو علاقة تكامل بين النص، والجهة التي اصدرته وغرضها من اصداره، والظروف التي صدر فيها، وآليات تطبيقه.. وأي قانون يصدر من المستعمر، وبحكم طبيعته الاستعمارية لابد ان يكون وراء غرض المستعمر، ومصالحه، لا مصالح الشعب المستعمر، هذا من حيث المبدأ.. وقد بين الجمهوريين بيانا وافيا، الغرض الاستعماري من سن قانون الخفاض الفرعوني ومما جاء في هذا الصدد في منشورهم وفي كتاب: "الخفاض الفرعوني" مانصه :

"1- الانجليز كأستعمار لم يكونوا يعملون على توعية، وترقية، الشعوب التي تحت حكمهم ولم يكن ذلك لمصلحتهم، بل كانوا يسعون الى تجميد وعي هذه الشعوب ليحكموا اطول فترة ممكنه .. ولذلك لايوجد سبب موضوعي للاعتقاد بان الانجليز لم يكونوا يريدون من قانون الخفاض سوي محاربة عادة ذميمة وليس لهم غرض استعماري وراء ذلك

2- العادات لاتحارب بالقانون .. وقد ثبت ذلك بالتجربة الطويلة، وفي عديد البلدان، وقد كان واضحاً للجمهوريين منذ البداية .. وهو لم يكن خافياً، علي الانجليز، ولكنهم كانوا يريدون شيئاً غير محاربة الخفاض .

3- لقد كان توقيت صدور القانون مؤشراً اساسياً للغرض الاستعماري الذي دفع اليه .. فلقد شهدت فترة صدور القانون، والعمل علي تنفيذه " 1945-1946 " نشاطاً سياسياً مكثفاً، وأشتد فيها الحماس والوطني، وعلا صوت السودانيين في المطالبة بالاستقلال، وكانت دولتا الحكم الثنائي تتهيئان لعقد مفاوضات صدقي- استانسجيت .. وفي هذا الوقت بالذات، سن الانجليز القانون، وتشددوا في تطبيقه، وكانوا يعلمون أن السودانيين سيقاومونه طالما انه تدخل في امر يتعرض للعرض والشرف .. وكان غرض الانجليز هو اظهار السودانيين بمظهر الهمجية، والتخلف، حتي يستطيع الانجليز ان يدعوا انهم لايستحقون الاستقلال، ولم يتهيئوا له بعد .. وكان هذا الغرض واضحاً للجمهوريين وكشفوه في اول منشور لهم

4- وقد كان من اغراض الانجليز من اصدار القانون اهدار كرامة المواطنين ، وترويض النفوس علي المهانة والذل .

5- أن عقوبة السجن بالنسبة للنساء تعتبر عند السودانيين أمراً شاذاً ومهيناً، ويفقد المرأة سمعتها .. وقد نص قانون الخفاض علي عقوبة السجن في حالة المخالفة، ولم يستثن في ذلك النساء، وطالما ان العادة مستأصلة في المجتمع فقد كان من المنتظر أن تتعرض حرائر النساء المحصنات للسجن بهذه الصورة المهينة والمشينة للسمعة .. وهذا ماتم بالفعل في حادث رفاعة واستوجب الوقوف ضده بحزم، ولم يتوان المواطنون في ذلك، وخاضوها ثورة عارمة ذهبت بهيبة الانجليز من الصدور، وزعزعت جبروتهم .. " صفحة (38) .. هذا أمر واضح جداً ومصادره متوفرة، وادني حد من الموضوعية كان يقتضي من د. خالد المبارك مناقشته، ولكنه لم يفعل، وهو لم يفعل لانه مغرض بادئ الغرض .