إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

من تاريخ الحزب الجمهوري السوداني

د. محمد محمد الأمين عبد الرازق


على شرف مئوية الأستاذ محمود محمد طه

على شرف مئوية الأستاذ محمود محمد طه

من تاريخ الحزب الجمهوري السوداني (4)


محمد محمد الأمين عبد الرازق

دستور الحزب الجمهوري عام 1945


بسم الله الرحمن الرحيم
الإسم: الحزب الجمهوري
المبدأ: الجلاء التام
الغرض:
"أ" قيام حكومة سودانية جمهورية ديمقراطية حرة مع المحافظة علي السودان بكامل حدوده الجغرافية الآن.
"ب" الوحدة القومية.
"ج" ترقية الفرد والعناية بشأن العامل والفلاح
"د" محاربة الجهل
"هـ" الدعاية للسودان
"و" توطيد العلاقات مع البلاد العربية والمجاورة
العضوية:
1- لكل سوداني بلغ من العمر 18 سنة
2- لكل مواطن ولد بالسودان أو كانت إقامته فيه لا تقل عن عشر سنوات لم يبارح خلالها السودان.
مال الحزب:
يصرف في الإغراض التي أنشأ من أجلها الحزب.
مذكرة تفسيرية
لما كانت الغاية من قيام الحكومات هي أن تهييء للفرد أقصي ما يمكن أن يصل إليه من الرفاهية، رأت هذه الجماعة التي تكونت بإسم "الحزب الجمهوري" أن أنسب نظام يلائم نفسية هذا الشعب، ويتجاوب مع رغائبه، ويخدم أغراضه، ويحمي منافعه، هو قيام حكومة جمهورية ديمقراطية حرة.. وقد توخت جماعتنا أن تبين نوع الحكم الذي تسعي إليه لئلا يكون هناك ما من شأنه أن يترك الناس في ظلام من أمرهم، ولأن الحكم الجمهوري لا يجعل فضلا لمواطن علي آخر إلا بقدر صلاحيته وكفاءته للإطلاع بالأعباء المنوطة به، ولأنه من ناحية أخري لا يقيد الناس بضرب من ضروب الولاء والتقديس اللذين لا مصلحة للإنسانية فيهما.. وخلاصة القول أن هذا الحزب كما هو ظاهر، يري أن النظام الجمهوري هو أرقي ما وصل إليه إجتهاد العقل البشري في بحثه الطويل عن الحكم المثالي وعلي هذا الأساس وللأسباب المذكورة فضّله..
والسبل المؤدية الي هذا الهدف قد يختلف الناس في فهمها، أما رأي هذا الحزب هو أن مثل هذه الغاية لا تتم إلا بالتحرر من النفوذ الأجنبي في جميع مظاهره، ذلك لأننا نؤمن بأننا بلغنا درجة نستطيع بها أن ندير شئوننا بأنفسنا، وليس أدعي لتجويد الخبرة اللازمة بفن الحكم من أن نمارس هذا الفن نفسه ممارسة مشوبة علي الطريقة التي نرتضيها وعلي ضوء هذه الحقيقة تتكشف أمامنا حوائج تستدعي منا التفاتا خاصا:
1- العناية بالوحدة القومية ونرمي بذلك إلى خلق سودان يؤمن بذاتية متميزة، ومصير واحد، وذلك بإزالة الفوارق الوضعية من اجتماعية وربط أجزاء القطر شماله وجنوبه وشرقه وغربه حتي يصبح كتلة سياسية متحدة الأغراض متحدة المنافع متحدة الإحساس..
2- ترقية الفرد من ناحيته الإنتاجية والمعيشية حتي يتمكن من استغلال موارد بلاده الزراعية والصناعية، بإنشاء جمعيات تعاونية لهذا الغرض، وإنشاء نقابات توجه العمال التوجيه الصحيح..
3- تعليم الفرد حتي يصبح عضوا صالحا في المجموعة يدرك ما عليه من الواجبات وما له من الحقوق
4- الدعاية للسودان بشتي الوسائل حتي يتمكن من أن يسمع صوته خارج هذا النطاق الضيق..
5- نحن وإن كنا لا نريد أن نرتبط بشيء ما في الوقت الحاضر لكن لا يمكننا أن نتجاهل الأواصر التي تربطنا بدول الشرق العربي بشكل خاص والمنافع التي تربطنا بالأقطار المجاورة وسوف تتكيف علاقاتنا مع هؤلاء جميعا علي هذا الأساس..
الجمعة الموافق 20 ذو القعدة 1364 هـ
الموافق 26 أكتوبر 1945 م

قضية الجنوب:


لقد كانت الوحدة القومية من أهم مبادئ الحزب الجمهورى المنصوص عليها في دستوره فقد نصت الفقرة (ب) من أغراض الحزب من الدستور على الوحدة القومية كما أن الفقرة (أ) نصت على (قيام حكومة سودانية ديمقراطية حرة مع المحافظة على السودان بكامل حدوده الجغرافية.)
و في المذكرة التفسرية الملحقة بالدستور جاء في الفقرة (1):
1. العناية بالوحدة القومية. ونرمي بدلك إلى خلق سودان يؤمن بذاتية متميزة ومصير واحد، وذلك بإزالة الفوارق الوضعية من اجتماعية وسياسية، بربط أجزاء القطر شماله وجنوبه، وشرقه وغربه حتي يصبح كتلة سياسية متحدة الأغراض، متحدة المنافع متحدة الإحساس..
هذا وقد اتجهت سياسة الاستعمار الانجليزي إلى فصل الجنوب عن الشمال، واتخذت عدة خطوات في هذا الاتجاه.. ولم تعط الحركة الوطنية هذا الأمر الخطير الاهتمام الكافي.. وقد جعل الحزب الجمهوري من قضية الجنوب القضية الأولي في التنديد بالاستعمار وكشف حيله وألاعيبه.. واستغل هذه القضية في إثارة حماس المواطنين عن طريق الخطابة والكتابة فأصدر العديد من المنشورات في هذا الصدد.. ففي جلسة 11/2/1946م. رأى الحزب الجمهوري أن يكتب إلى السكرتير الادارى ليستفسر عن مشروع الزاندي الذي كانت الحكومة تتكتم عليه آنذاك.. وقد كتب الخطاب وأرسل للسكرتير الادارى بتوقيع سكرتير الحزب أمين محمد صديق، ولما لم يتلق الحزب ردا من السكرتير الادارى نشر الخطاب إلى المواطنين وقد جاء فيه:
سعادة السكرتير الاداري
بعد التحية
الحزب الجمهوري الذي يسعي إلى تحقيق وحدة السودان أولاً، وقبل كل شئ يقف الآن أمام مسالة الجنوب.. ومسالة الجنوب هذه هي مصدر وطر لم ينقض لهذا الحزب كلما فكر في وحدة السودان، وذلك لأن السياسة الانجليزية في الجنوب، تلك التي قضت بقفله أمام سكان الشمال، لا يمكن أن تكون من دواعي حسن النية.. ومهما يكن من أمرها، فإنا لا نطيق عليها صبراً، وليس هذا ما كتبنا لنقوله، وإنما كتبنا لنستبين بعض المسائل وبواعث النشاط الذي تبديه هذه السياسة منذ العام فيما أسمته مشروع الزاندي.. وهذا المشروع الذي سيكلف الخزينة بضع ملايين من الجنيهات، هو فيما نزعم اتجاه جديد لنفس السياسة القديمة – اتجاه يتخذ قناعاً غير قناع الدين، ولكنه سيفضي إلى جعل الجنوب مزرعة بريطانية ومهجرا بريطانيا على غرار كينيا ويوغندا.. نحن نريد أن نعرف أين نقف من الجنوب؟ ولما كان من غير الميسور أن نعرف الحقيقة بمجهودنا الشخصي نظراً للتكتم الرصين الذي يحيط بمسائل الجنوب كبيرها وصغيرها، فقد آثرنا أن نسال الجهة الرسمية المسئولة.. نحن نريد أن نعرف:-
(1) البواعث وراء مشروع الزاندي
(2) كم مليوناً من الجنيهات يكلف وفي كم سنة نفرغ منه
(3) ماهي منشآته
(4) إلى متي تستمر الحكومة مقفلة الجنوب في وجه الشمال
(5) ماهو السر في قفل أماكن كتم والروصيرص
هذا ما كتبنا نستوضحه:
و تفضلوا يقبول فائق الاحترام
أمين محمد صديق / سكرتير الحزب الجمهوي 19/12/1946م


المنشور السابع


ثم توالت منشورات الجمهوريين عن الجنوب، مما جاء في تلك المنشورات ما يلي:-
منشور (6) – مشكلة الجنوب
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا بيان الحزب الجمهوري للناس.. هو نذير من النذر الأولي ستليه أخر، ترمي بالشرر وتضطرم بالنار وتتنزى بالدم، فإن مسالة الجنوب لا يمكن الصبر عليها ولا الصبر عنها، وإن الانجليز ليبيتون له أمرا، ولئن لم نحتفظ نحن اليوم بالجنوب احتفاظ الرجال، لنبكينه غداً بكاء النساء..
أيها السودانيون: لماذا يقفل الجنوب في وجه الشمال وتفتح أبوابه لكل دخيل جشع نازح آفاق؟ أهي الشفقة بأهل الشمال أم الرأفـة بأهل الجنوب أم الكيد للاثنين معاً؟ وهل هناك جرم في الانتساب إلى الشمال؟ وما سكوتكم على مسالة الجنوب على هذا النحو المزري؟ ولماذا هذه المرونة التي لا تتفق وكرامة الرجال؟ ولماذا تطأطئون رؤوسكم إلى الأبد والله لا ينهاكم عن الذين أخرجوكم من دياركم.. لماذا؟ أحبا في السلامة؟ أم عزوفا عن الكرامة؟ أم زهداً في الأوطان؟ أم لأن للانجليز رب قوي، ولكم رب ضعيف؟
إن الحزب الجمهوري الذي يسعي لتحقيق وحدة البلاد أولاً وقبل كل شئ، يقف اليوم أمام صخرة الجنوب وقد عقد النية على إزالتها عن طريق الوحدة بالغاً ما بلغ أمرها، ونحن إذ ننوء بأعباء هذا الطريق الوعر ليس لنا من عتاد غير هذا الشعب، إليه نتجه وبه نهيب، وله ندعو بالهداية إلى صوت الحق من بين هذا النقيق الذي يزحم الأفق الآن فيفسد الرأي ويوهن العزم..
إن الحزب لعلى يقين من أمره وإيمان بربه وثقة بسودانه، وسيجهر بدعوته يوم يجهر بها ثم يتبين أين نحن مما ندعي؟؟
21/2/1946م
الحزب الجمهوري


المنشور الثامن


وفي المنشور رقم (3) عن الجنوب ورد ما فيه:
الجنوب – الجنوب – الجنوب
ما سكوتكم عن الجنوب أيها السودانيون ما سكوتكم؟؟
تعالوا فاتركوا هذا العبث السخيف - هذه المذكرات والوثائق، هذا التحالف والاتحاد – وواجهوا الحقائق المرة.. فالجنوب هو مشكلتنا الأولي والسكوت عنه مزر بكرامة السودانيين ابلغ الزراية..
أيها السودانيون: انتم دافعتم عن الحرية دفاع الإبطال، فهل نصيبكم منها أن تكونوا في أوطانكم مشردين غرباء؟؟
أيها السودانيون: انتم رويتم شجرة الحرية في منبتها الوعر بدماء أبنائكم ودموع نسائكم، فهل رضيتم فيها أن تعيشوا في أوطانكم مستعبدين أذلاء؟
أيها السودانيون: أين الذين منكم طاحوا في الدفاع عن الحريات في أقاصي الأرض، فبكت نساؤهم ويتم أطفالهم وخلت دورهم، وانفض سامرهم..
أيها السودانيون: أين الدماء السودانية الذكية التي روت صحراء الشمال وخضبت جبال الشرق وسالت في مجاهيل الأرض؟
ستحيق لعنة الله ولعنة اللاعنين – أيها السودانيون – على الذين منا يجعلون زهق تلك النفوس الأبية، وإراقة تلك الدماء الزكية سدى وفي غير طائل.. إن سكوتكم عن الجنوب أيها السودانيون، لييئس منكم الولي ويطمع فيكم العدو.. الجنوب أرضكم – أيها السودانيون – والجنوبيون أهلكم، فإن كنتم عن أرضكم وأهلكم لا تدافعون، فعن من تدافعون؟
أيها السودانيون: قدروا (إن الله يدافع عن الذين أمنوا، إن الله لا يحب كل خوان كفور * أذن الذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله)
25/2/1946م
الحزب الجمهوري

هذه مجرد نماذج للعديد من المنشورات التي أصدرها الجمهوريون عن الجنوب بغرض كشف سياسة الاستعمار الانجليزي نحو الجنوب وتوضيح أبعاد تلك السياسة، ومراميها، والنتائج الخطيرة التي يمكن أن تترتب عليها.. وقد صدقت الأحداث فيما بعد كلما ذهب إليه الجمهوريون في منشوراتهم عن الجنوب..
أما في مجال استغلال قضية الجنوب في الخطابة السياسة ضد الانجليز فسنكتفي بإيراد هذا النموذج نقلا عن جريدة الري العام 6/6/1946م فقد جاء فيه:-
القي الأستاذ أمين محمد صديق سكرتير الحزب الجمهوري خطاباً عاماً أمس الأول عن الجنوب في الخرطوم بحري أمام السينما الوطنية، وأعاد القاءه في نفس الليلة في مكان آخر في الخرطوم بحري، وقد استدعاه البوليس هذا الصباح وحقق معه، فاعترف بكل ما حصل وزاد بأن هذا جزء من خطط كبيرة ينفذها الحزب الجمهوري..


الحكم الفدرالى وحل مشكلة الجنوب


لقد كان الحزب الجمهوري هو الحزب الشمالي الوحيد الذي ينادي بالنظام الفدرالى، لا للجنوب فقط، وإنما كنظام حكم لكل السودان.. وقد نادي الجمهوريون بالنظام الفدرالى قبل مطالبة الجنوبيين به.. فقد ظهرت مطالبة الجنوبيين في اللجنة القومية لوضع الدستور الدائم التي كونت في عام 1956م في حين أن دعوة الجمهوريين جاءت منذ عام 1955م.. وقد تضمنها كتاب الاستاذ محمود ((أسس دستور السودان لقيام جمهورية فدرالية ديمقراطية اشتراكية)) ذلك الكتاب الذي صدرت طبعته الأولي في ديسمبر 1955م..
في ختام هذا الحلقة، لابد من كلمة عن الأستاذ أمين محمد صديق سكرتير الحزب الجمهورى.. هذا الرجل الذي تذيل إسمه العديد من المنشورات الصادرة في أوقات الشدة، قد كان مثلاً في الصدق والتجرد والمواجهة.. ويصف الأستاذ محمود شجاعته بأنها (تصل لحدود إسطورية) وقال عنه (كان يذكرني بالشجاعة)..
إن الحركة الجمهورية مرت بمرحلتين: الأولى هى مرحلة ملأ فراغ الحماس وهى التي نحن بصددها.. أما الثانية فهى مرحلة ملأ فراغ الفكر، وهى التي ظهرت فيها تفاصيل الرسالة الثانية من الإسلام الغريبة عام 1951م، لدى خروج الأستاذ محمود من اعتكافه الذي استمر لثلاث سنوات تلت فترة العامين التي قضاها في السجن الثانى.. وقد نامت حركة الحزب خلال غياب رئيسه عن الساحة لمدة الخمسة سنوات ما عدا بعض الاجتماعات المتفرقة التي لم تحدث إنجازاً كبيراً.. يهمنا هنا أن نذكر أن أمين محمد صديق قد ساير المرحلتين دون توقف هو والعضو محمد فضل الصديق.. وقد كان الأستاذ محمود يصفهم بعبارة (مما عقدوا ما نقضوا) أي لم تثبطهم غرابة الأفكار عن الاستمرار في العضوبة والالتزام بها والدعوة إليها.. ولذلك فقد جمع الأستاذ محمود مجموعة من الكتب الأساسية التي صدرت لاحقاً، في مجلد وأهداها إلى أمين قبيل وفاته بأيام، بالعبارات التالية:
أخي أمين!!
أنت من هذا الذي أضعه بين يديك الآن، كنت، ولا تزال، ولن تنفك.. لقد أفنيت عمرك في تحقيقه، ثم في إحقاقه.. فلئن أهديه إليك اليوم في القراطيس فلا عجب، فقد كنته في الدم، واللحم، صدق مواجهة، وصراحة قصد ووترية فكر..
حفظك الله، وحفظ عليك، وأمتعك بعافية البدن، وعافية العقل وعافية القلب..
أخوك محمود.. أم درمان.. 15/12/1979
25/ محرم 1401هـ