إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
اشرنا في الحلقة السابقة إلى التشويه المنكر لشخصية الأستاذ محمود ولأفكاره، الذي ينشره صاحب (الصيحة)، وهو بصنيعه هذا يظن أنه سيدفع الشباب بعيدا عن الجمهوريين حتى لا يتقوّى حزبهم ويعود إلى الميدان السياسي ليهدد سلطة الأخوان المسلمين، فهو مهتم بالسلطة فقط وليس الدفاع عن الدين.. وكل تشويهه مبني على قراءة خاطئة وفهم مغلوط لكتاب (أدب السالك في طريق محمد ـ الأخوان الجمهوريون)، فقد خرج منه بعكس ما يعطيه الكتاب، وانتهى إلى اتهام الأستاذ محمود بأنه زعم أنه صاحب المقام المحمود، وأنه ادّعى النبوة والألوهية وقال أنه المسيح عيسى بن مريم.. ومعنى كلامه هذا أن الأستاذ محمود جمَّع المقامات التي وردت في الإسلام بالجملة وألصقها لصقا بنفسه ثم شاركه تلاميذه هذه الاعتقادات!! ولسذاجة الكاتب وقلة تفكيره، وقع في مفارقة عجيبة هي قوله عن الأستاذ أنه أدّعى الألوهية والنبوة في آن واحد، فإذا افترضنا جدلا أن أحدا زعم أنه (الله) فكيف ينزل إلى أسفل ويردف أنه (نبي)، وذلك لأن النبي يتلقى من الله بواسطة ملك الوحي جبريل، فما دام هو صار (الله) وانتهى فما الداعي للنبوة ابتداء!!؟؟
وقد استمعت إلى تسجيل منتشر في البصات السفرية هذه الأيام، بصوت السيد محمد سيد حاج قال فيه، إن الجمهوريين كانوا يلتفون في دائرة حول أستاذهم ويرددون: (أنت ابن مريم فينا لم يبق غير التجلي) ثم يكمل تشويهه بالضحك والسخرية!! فهذا كذب صراح، ولو كان لأيّ مستمع لهذا الواعظ أدنى معرفة بالجمهوريين لوصفه بأن كلامه وكتابة صاحب (الصيحة) أشبه (بكلام الطير في الباقير).. وهكذا نجد أرقى المعارف الروحية عند هؤلاء الجهلة تكون (كالدر تحت أقدام الخنازير!!)
أحب أن اؤكد أن الأستاذ محمود عادة لا يتحدث عن نفسه، في كتبه إلا في إجابات خاصة، فهو على الدوام يطرح أفكاره بعلمية ويناقش فيها الناس في المحاضرات العامة، وكل أفكاره إنما ترمي إلى التعريف بالنبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، حتى يقلده الناس في سنته عن معرفة بمقامه، وسنته هي عمله في خاصة نفسه.. وهذا النص من كتاب (أدب السالك) الذي تناوله بتوسع صاحب (الصيحة) هو كاف لدحض كذب هؤلاء المهووسين:
(والتأدب بأدب القرآن لا يتم إلا باتّباع نهج السنة، بتقليد النبي المعصوم.. فحياته، صلى الله عليه وسلم، هي مفتاح مغاليق القرآن، فإنه قد كانت أخلاقه القرآن، كما قالت السيدة عائشة، فهو قد جسد القرآن في سلوكه اليومى، بمعنى ما عاش معانيه، وقيمه.. فعمدة الأدب، إنما هو الأدب مع النبي، فلا سبيل إلى الأدب مع الله، إلا بالأدب مع نبيه، فمن لا يسلم للنبي، لا يسلم لله، ومن لم يطع النبي ويتأدب معه، لم يطع الله.. وكل عمل وفق منهاج السنة لا يقوم على الأدب مع النبي، هو عمل باطل، لا عبرة به، ولا قيمة له.. ولكل ذلك، نحن سنركز في كتابنا هذا على الأدب مع النبي.. وهذا ما يجعل الأدب، أدق الأمور، وأصعبها، فمعرفة النبي، معرفة تامة، أمر يقع البدء فيه، ولا يقع الفراغ منه بالنسبة للسالك، فالنبي قد قال: (ما عرفنى غير ربي).. ومعرفة النبي تقتضي المعرفة بمقاماته الثلاثة: مقام الرسالة، ومقام النبوة، ومقام الولاية.. وفي مقام الولاية يتم تجسيد القرآن في قمته، فهذه هي مرتبة الإنسان الكامل ـ مرتبة الذات المحمدية ـ وهي المقام المحمود، وهي هي أم الكتاب حيث حقيقة القرآن.. ولذلك نحن سنتحدث عنها، في معنى ما سنتحدث عن القرآن وأدبه، وفي معنى ما سنتحدث عن ولاية النبي، وتجسيدها في الاسم الأعظم (الله) الذى هو بذرة القرآن، وتجسيده، وأكبر مظاهر التأدب بأدبه..) انتهى..
دعونا إذن، نتعرف على نموذج لفكرة الأستاذ محمود حول تطوير التشريع الإسلامي من (الشريعة) إلى (السنة).. لقد قدم الإسلام "السنة" وهي عمل النبي في خاصة نفسه نموذجا لقمة السلوك الفردي، في أمر المال.. قال تعالى: "ويسألونك ماذا ينفقون؟ قل العفو " وقد فسر النبي الكريم "العفو" قولا وعملا، بأنه ما زاد على الحاجة الحاضرة، فكان لا يدّخر المال وكان يقول: إن خالق غد يأتي برزق غد كل غد.. هذا هو معنى "العفو" عنده وفق تحقيقه للتوحيد، فهو يعتمد على المخزون عند الله عن يقين، وليس على مخزونه هو.. وأصلا العفو هو ما يمكن أن تجود به النفس من المال من غير عنت ومشقة.. ولما كانت الأمة دون هذا المستوى التوحيدي ببعيد، فقد شرعت لها الزكاة ذات المقادير المعروفة في الشريعة السلفية وفق الآية: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم"، وطبقت في المدينة بينما ظل النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم على السنة.. أكثر من ذلك لم يكن يأكل الصدقة، وقال: "إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد" رواه مسلم، وكان يجد التمرة على الأرض فيقول: (لولا أني أخشى أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها)..
إذن السنة هي (الأصل) في الدين، أما الشريعة فهي (فرع) اقتضاه حكم الوقت، وقد تنزلت من السنة لتناسب طاقة الناس وحاجتهم، ولذلك فهي ليست الكلمة الأخيرة في الإسلام فيما يختص بتنظيم الاقتصاد، فهي رأسمالية ملطفة ألزمت الأغنياء بإخراج مقدار محدد من المال لمقابلة احتياجات قطاعات محددة بنص القرآن وتعرف بمصارف الزكاة.. لكن رغم هذا التخفيف فقد شق على الناس إخراج الزكاة لعزة المال وتجذر الشح في النفوس، حتى إن بعضهم امتنع عن إخراجها بعد وفاة النبي الكريم، وكان امتناعهم هو السبب في حروب الردة المعروفة..
وبما أن السنة هي الأساس في التوحيد، المؤسس على أصول القرآن، فإن تنظيم الاقتصاد اليوم لا يمكن أن يؤسس على إخراج الزكاة كما كان الحال في الشريعة السلفية، فقد أحدث الزمن تغيرات جعلت مشاكله لا تشبه مشاكل القرن السابع، فظهرت إمكانيات الانتاج الكبيرة وتعقدت حاجة المجتمع إلى تأمين حياة الناس من جميع الوجوه بالمؤسسات الحديثة.. إذن يجب علينا تطوير نظامنا الاقتصادي بالانتقال من الشريعة إلى السنة، وذلك إنما يكون بتأسيس نظام اشتراكي يكفل الحياة الكريمة لكل مواطن يترسم خطى النبي الكريم، ويحقق المباديء والقيم الرفيعة التي كان يسعى إليها بسنته الفردية، فيعف جميع الناس عن أكل الزكاة والصدقات، بأن تحدد لهم حقوق وليس صدقات.. وبذلك تنتفي الفوارق الطبقية التي تقف حائلا دون التزاوج بين الناس على اختلاف مستوياتهم.. فالإسلام كما بشر النبي الكريم لن يعود بتطبيق (الشريعة) وإنما يعود ببعث (السنة): "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء!! قالوا: من الغرباء يا رسول الله!؟ قال: الذين يحيون سنتي بعد اندثارها"..
هذا هو معنى تطوير الشريعة إلى السنة، في الاقتصاد، وقد مرت على السودان محاولات في تنظيم الاقتصاد على منهج النظام الرأسمالي المعروف في الغرب لأن السودان كان مستعمرة بريطانية، لكنها حققت الكثير من الحقوق الأساسية للمواطن، فقد كفلت التعليم بالمجان لجميع المواطنين، وكفلت العلاج المجاني أيضا، وألزم الدستور الدولة بأن تعمل على تيسير فرص الكسب للناس بإقامة المشروعات الاقتصادية الكبيرة كمشروع الجزيرة وسائر مشروعات الإعاشة المعروفة منذ بدايات القرن العشرين، وكذلك مشروعات الخدمات كالسكة حديد..
وبعد خروج المستعمر، سارت البلاد في نفس الاتجاه، ردحا من الزمن وكان التعليم إلى ما قبل الانقاذ مجانيا في جميع المراحل، وللطلاب حق التعليم وحق الإعاشة والسكن في الداخليات، ولم يكن هناك أي احساس لدى المواطنين أو الطلاب بأنهم من متلقي الزكاة وليس لهم أي علاقة بالصدقات، فهي حقوق شرعية وفق الدستور ولذلك تتم مراقبة تنفيذها من إدارات المؤسسات التعليمية، والطلاب يراقبون تلك الإدارات عن طريق اتحاداتهم المشروعة..
إن التطور الاجتماعي غير مقيد بحركة الأديان السماوية، فهناك مراحل يعمل فيها العقل البشري بما يعطيه الصراع الاجتماعي، وتسمى في الإسلام "الفترة" أما مرحلة ظهور رسالة وحي من الله فتسمى مرحلة "بعثة".. وفي مرحلة "الفترة" تنبت أعراف من التجربة على الأرض كالتي نفذها الانجليز في السودان، وعندما يبعث نبي مكلف وتبدأ مرحلة "بعثة" فإنه يعمل على تنقية تلك الأعراف فيثبت الصالح منها ويجتث الباطل بقدر النور الذي حققه بنبوته.. وعندما بعث النبي وجد أعراف منها إكرام الضيف ومنها وأد البنات، فثبت الأول واجتث الثاني من جذوره..
الشاهد في الأمر أننا، تحت تجربة الحركة الإسلامية السلفية في السلطة قد شهدنا تدهورا مريعا، في أمر الحقوق عامة والاقتصادية بخاصة، فقد عجزت عن الإيفاء بحق التعليم المجاني، وأثقلت كاهل أولياء الأمور بالرسوم السنوية حتى إن الكثير من المزارعين والعمال أوقفوا دراسة بناتههم وأبنائهم بسبب التكلفة التي تفوق طاقتهم، وكذلك رفعت الدولة يدها عن الإعاشة الكريمة للفقراء بتوفير فرص العمل وأحالتهم إلى ديوان الزكاة، باعتبار أننا إنما نطبق (الشريعة)، ومن ثم أدرج الطلاب غير المستطيعين تحمل تكلفة التعليم، في قائمة مستحقي الصدقات!!
وفي غضون ذلك، تحولت البلاد نحو تحرير الاقتصاد على النظام الرأسمالي، ونتيجة لسياسة التحرير، تراكم المال عند الفئة المستولية على السلطة من قيادات حركة الأخوان المسلمين وعضويتها، فانقسم المجتمع السوداني إلى طبقتين، وتحت ضغوط الفقر والحاجة حدثت هجرة مكثفة، إلى جميع أنحاء العالم من أجل لقمة العيش ومقابلة الاحتياجات الأساسية التي تتصاعد مع التحرير يوميا.. وبسبب اتساع دائرة الفقر في الداخل، زهد معظم هؤلاء المهاجرين ليس في العودة وحسب، وإنما حتى في مجرد قضاء الإجازة، تفاديا للحرج الذي حتما سيؤرق مضاجعهم عندما يعجزون عن تلبية احتياجات أسرهم الممتدة الأساسية كالتعليم والعلاج.. ثم انقسم المؤتمر الوطني بسبب الصراع على السلطة إلى قسمين، وطني وشعبي، فاشتعلت الفتن في أطراف البلاد المختلفة، وبرزت العنصرية في النفوس واستغلت في التشفي والانتقام.. واستمرت الحروب حتى وجدنا أنفسنا أمام السؤال الكبير: " هل يكون السودان أم لا يكون!! "
أسوأ من ذلك، فإن تراكم المال في أيدي قادة المؤتمر الوطني وعضويته، مع ضغوط الحاجة والفقر قد أفرز ممارسات فاسدة ودخيلة لم يتعرض لها الشعب السوداني في تاريخه قط، كالزواج "العرفي" و"زواج المسيار" وهي حيل رخيصة تستغل آلية أقدس علاقة بين الرجل والمرأة، وهي الزواج، كوسيلة للمتعة الجنسية العابرة!!
إن الاتجاه إلى إقحام الشريعة السلفية في واقعنا المعاصر، قد أثبتت التجربة أنها محاولة بعيدة من أن تحقق قيم الإسلام، وذلك لأنها، أعني (الشريعة)، لم تفصل أصلا لمجتمعنا المعاصر فالعيب ليس فيها هي وإنما في العقول التي تعمل على إقحامها في واقعنا المعاصر.. وبالنظر إلى التقدم في الحقوق الاقتصادية التي قلنا إنها تحققت في فترات الحكم الوطني على الرأسمالية الغربية، نجد أننا هبطنا إلى ما دونها بكثير بسبب عدم التربية الناتج عن سوء الفهم الديني، حتى صار بعضنا يتحسر على خروج الإنجليز.. وأكثر، تحولت قطاعات المثقفين نحو العلمانية كبديل للدين الذي يرونه أمامهم، وبالرغم من أنهم يعلمون انه هوس ديني ليس إلا، فقد انتهج معظمهم مبدأ فصل الدين عن الدولة والدستور العلماني شعارا للتغيير.. ولكن هذا الاتجاه سيعطي الهوس الديني عمرا إضافيا، فمناهضة تشويه الدين لن تنجح إلا بالفهم المستنير النابع من الدين نفسه وليس من العلمانية بأي حال من الأحوال..
لقد قال السيد صاحب (الصيحة) إن الشباب اتجهوا للفكر الضلالي بسبب الفراغ الروحي، فيا ترى من الذي أفرغ الدين من محتواه حتى زهد فيه الشاب فيه وصاروا علمانيين!!؟؟
ختاما أكرر: إن الإصلاح في السودان مرهون باقتلاع دعوة الأخوان المسلمين والسلفيين عموما من جذورها، في النفوس، وإبعادها عن السودان، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بالفكر الإسلامي المستنير، الواعي بحاجة العصر، وبضرورة تطوير التشريع الإسلامي من فروع القرآن "الشريعة" إلى أصوله "السنة" على منهج المستوى العلمي من الإسلام.. فالمستوى العقائدي من الإسلام، الذي طبق في القرن السابع الميلادي لا يصلح، في وقتنا الحاضر، لا لإصلاح المجتمع ولا لتربية الفرد، فقد جف ضرعه تماما، ولم يبق أمام المسلمين إلا السنة فإن نكصوا عنها، فلا تنتظر غير الفتن!!