إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

حول ندوة تجديد الفكر الديني
د. حيدر إبراهيم والموقف من الدين

خالد الحاج عبد المحمود


بسم الله الرحمن الرحيم

حول ندوة تجديد الفكر الديني
د. حيدر إبراهيم والموقف من الدين
(2-3)




المثاني:


يقول د. حيدر: (فهنا انا مثلاً لما ابدا انظر لي واحدة من التأويلات التي قام بها الاخوة الجمهوريون.. اللي هو مسألة القرآن مثانى، ومسألة على ضوء التأويل دا انه القرآن مثانى.. توصلوا لوجود رسالتين في الاسلام.. انا هنا دا بعتقد في خلل كبير جداً في مسألة الفكرة الجمهورية).. كما قلت لك، الخلل في تفكيرك وليس في الفكرة الجمهورية.. موضوع المثاني، موضوع في القرآن، ولم يبتدعه الجمهوريون.. يقول تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ).. "مثاني" يعني ذو معنيين معنيين.. وذلك لأنه خطاب من الرب في إطلاقه، إلى العبد في محدوديته.. فهنالك المستوى الذي يناسب العبد، والمستوى الذي عند الرب.. والدين كله عبارة عن سير مما تنزل إلى العبد، نحو الأصل الذي عند الرب.. وهذا السير سير سرمدي، لأن الرب مطلق.. الدين، كل الدين، هو رجوع إلى الله.. والرجوع ليس حركة في الزمان والمكان، وإنما هو تحول في الإنسان.. هو تحول من صفاتنا الناقصة، إلى صفات الله الكاملة.. الدين، كما قال المعصوم، تخلق بأخلاق الله: "تخلقوا بأخلاق الله إن ربي على سراط مستقيم".. ويقول القرآن: (كونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ).. فالدين، على ذلك، هو تطور الإنسان من نقصه، نحو كمال الرب!!
هنالك الكثير الذي يحتاج أن يقال عن المثاني، ولكن نحن لا نحتاج ان نذكره هنا، فمن أراد فليرجع إليه في مصادره من كتب الفكرة.. وقد سبق في هذه الكتابة أن تحدثنا عن موضوع الرسالتين.. إن حديث د. حيدر عن المثاني هو استخفاف بالناس، وبالفكر والمفكرين.
يقول د. حيدر، ضمن إصراره على رفض موضوع الرسالتين، ورفض الأسس التي قام عليها الموضوع، يقول: (ليه تكون في رسالتان؟ّ! يعني ما كان ممكن للاله سبحانه وتعالى انه من الأول يكون عارف مستوى فهم عقول الناس؟! وبالتالي تكون الرسالة الواحدة مخاطبة لعقول الناس في القرن السابع وفي القرن الواحد والعشرين).. لأن الله تعالى (عارف مستوى فهم العقول الناس)، لأنه تعالى هو الذي أوجد هذا الفهم، ووضعه بالصورة التي تقوم على التطور، جاء بالرسالتين في القرآن الذي ختم به النبوة!! فأمر الرسالتين واضح ومحدد في القرآن والسنة، وبذلك هو واقع أوجده الله، ومن أجل ذلك حديث د. حيدر الذي يقول فيه (ما ممكن للإله سبحانه وتعالى انه من الأول يكون عارف مستوى فهم عقول الناس)، هو اعتراض على الله.. فكلمة سبحانه مجرد كلمة، النص يناقضها.. فالله تعالى منزه عن النقص وعن الجهل.. ود. حيدر يحاكم الله بفهمه هو القاصر، ويظهر هذا القصور بصورة صارخة في قوله: (وبالتالي تكون الرسالة الواحدة هي مخاطبة لعقول الناس في القرن السابع وفي القرن الواحد والعشرين).. عملياً من المستحيل أن تكون هنالك رسالة أو تشريع يصلح للقرن السابع، وفي نفس الوقت يصلح للقرن الواحد والعشرين!! الاختلاف بين القرن السابع والقرن الواحد والعشرين كالاختلاف بين السفر بالناقة والسفر بالصاروخ.. ومشكلات إنسان القرن الواحد والعشرين تختلف بصورة جذرية عن مشكلات إنسان القرن السابع.. والخطاب في الدين، كما سبق أن ذكرنا، يكون في مستوى عقول الناس، ومستوى طاقتهم، وقد ذكرنا أن التطور في العقول، وفي الطاقات هو السر في تعدد الرسل.. ومنطق د. حيدر في نصه الذي نقلناه، إذا مددناه يمكن أن يكون: أليس الله بقادر وعارف بشئون الناس من عهد آدم إلى القرن الواحد والعشرين، فيرسل لهم رسالة واحدة، تخاطب جميع مستويات الناس في هذه الحقبة الممتدة من آدم إلى القرن الواحد والعشرين؟! إنك يا صاحبي تنكر على الله تعالى أنه أنزل رسالتين، في حين أنه حسب زعمك كان يمكن أن يرسل رسالة واحدة!! وقولك هذا، هو نفس القول، مثلاً، لماذا يتكون الماء من ذرتي هيدروجين وذرة أكسجين، ألم يكن من الممكن لله أن يجعل الأمر عكس ذلك؟! بداهةً ما أوجده الله كواقع، ليس من حقنا، ولا في إمكاننا أن نفترض غيره.. هذه دعوى ربوبية تتعالى على الله نفسه!! ما أوجده الله لا نملك إلا أن نفهمه، ونسعى إلى معرفة الحكمة منه.. والحكمة من الرسالتين واضحة، وهي أن الزمن الحديث تغير بصورة تجعل بعض صور تشريع الرسالة الأولى لا تناسبه، وقد أوجد الله البديل في القرآن للتشريع الذي يناسب العصر الجديد.. وقد ضربنا لذلك مثلاً بآية الوصاية، والجهاد بالسيف، وآية الحرية.. فمن المستحيل أن تطبقا في وقت واحد.. ولذلك طبقت آية الوصاية في الوقت الذي يناسبها ويحتاجها، وتطبق آية الحرية في الوقت الذي يناسبها، ويحتاجها.. الدين يا د. حيدر يقوم على أمر أساسي هو (التوحيد)، ولا يمكن أن يقوم من دونه.. واعتراضك على الله الذي ورد في النص الذي أوردناه، هو بسبب غياب التوحيد عندك.. وكذلك الحال، بالنسبة لجميع اعتراضاتك على الدين.. هي جميعها ترجع إلى سبب أساسي واحد هو غياب التوحيد.

العقل:


بعد حديث د. حيدر الذي نقلناه أعلاه، والمفارق لبدائه العقول، الذي يسأل فيه بصورة استنكارية.. ألم يكن الله قادراً على إرسال رسالة واحدة تخاطب عقول الناس في القرن السابع والقرن الواحد والعشرين!! ذهب د. حيدر ليقول: (عشان كدا بسأل ما هو موقع العقل في تفكير أو في أطروحة الجمهوريين؟! يعني الى أي مدى اعتمد الجمهوريون في استخدام العقل كأداة للوصول للمعرفة الدينية؟! أنا بعتقد أن الجمهوريين استخدموا العقل بصورة واضحة جداً! عندهم كان نوعين: خبرة صوفية، زائد استخدام العقل أو الفكر)!!.. لأن د. حيدر لا علاقة له بالتوحيد جعل استخدام العقل والخبرة الصوفية شيئين مختلفين فقال: (خبرة صوفية زائد استخدام العقل).. وهما شيء واحد فالعقل في الدين يقوم على ما أسماه د. حيدر خبرة صوفية.. ومن الأفضل أن نتكلم بعض الشيء عن موضوع العقل.
العقل، في الإسلام، عقلان: العقل الكلي الشامل، والعقل الحديث –عقل البشر– وهو قبس من العقل الكلي الشامل.. وعقل البشر نفسه عقلان: عقل معاش، وعقل معاد.. وعقل المعاد هو نفس عقل المعاش، ولكن بعد أن تؤدبه وتهذبه، وتسدده التجربة في العمل في التقوى –هذه التجربة التي أسماها د.حيدر التجربة الصوفية– وهي أصلاً السنة النبوية، وما محاولة الصوفية إلا الأخذ بها مع بعض الإضافات.. والجمهوريون يدعون إلى إبعاد الإضافات، والأخذ بالسنة كما هي دون تغيير.. للتفكير العقلي آفات كثيرة.. منها مثلاً تضليل الحواس وتضليل العقول، وإتباع الهوى.. فنحن لا نرى الحقيقة كما هي منذ البداية، ولا يمكن أن نراها إلا بعد الوصول إلى العقل الحر المحايد، المتخلص من آفات العقول.. من هنا أتت ضرورة التجربة في السنة، التي تحقق هذا الغرض، تحقق العقل المحايد، الذي لا ينحرف مع الهوى، ويتخلص من تضليل الحواس له، يقول الأستاذ محمود: (والفكر مؤوف بآفات لا حصر لها، وسببها، جميعها الخوف.. والطمع طرف من الخوف.. والهوى صنو الطمع.. وإنما جاء الدين –الإسلام والقرآن– ليطب لآفات الفكر.. ولذلك فقد بدأت الشريعة بتقرير حقيقة كبرى، حواها قول المعصوم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به".. والفكر هو طريق العودة إلى الله، ولا طريق غيره.. (فليس بيننا وبين الله مسافات نقطعها، وإنما بيننا وبينه حجب نرفعها.. والفكر هو طريق رفع الحجب.. وهذه الحجب الحائلة بيننا وبين الله تقع في مستويين: مستوى حجب الظلمات، ومستوى حجب الأنوار.. وإنما جاء الدين، بأوامره، ونواهيه، ليؤدب العقل بأدب الشريعة، حتى يستقيم، فلا يميل، يمنة، ولا يسرة.. ذلك بأن الجولان السريع بين اليمين واليسار هو آفة الفكر.. فقد كانت النفس صماء، ففتقها الخوف، ونتيجة لهذا الفتق نشأ العقل.. والفكر إنما هو وظيفة العقل.. الفكر هو جولان العقل بين الذاكرة والخيال.. أو قل بين النفس، والروح.. والروح إنما هي الطرف اللطيف من النفس.. وصحيح، أيضاً، التعبير بأن النفس إنما هي الطرف الكثيف من الروح.. آفة الفكر، كما قلنا، هي خفة جولانه بين طرفين: في إحداهما الإفراط وفي ثانيتهما التفريط.. والفكر السليم هو الفكر المستقيم في نقطة الجمع بين الإفراط والتفريط.. ونقطة الجمع بين الإفراط والتفريط هي المسماة بالاستقامة.. وهي هي السراط المستقيم الذي وردت الإشارة إليه في أم الكتاب).
إنما جاء القرآن من أجل الفكر الدقيق المحايد المستقيم يقول تعالى: "حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" فالقرآن نزل باللغة العربية من أجل أن نعقل –أن نفكر التفكير المستقيم.. ولا يكون هذا التفكير المستقيم إلا بعد التخلص من آفات الفكر.. وهذا هو عمل التجربة في السنة، في جانب العبادة والمعاملة.. عملها هو ترويض الفكر وتأديبه.. فالفكر المروض المؤدب هو الذي يقوم عليه عقل المعاد.. والدين لا يفهم إلا بعقل المعاد وحده.. يقول الأستاذ محمود عن قوله تعالى: "أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانً".. يقول: (والآية التي صدرنا بها هذه المقدمة إنما جاءت بسبيل من رياضة العقول.. حتى تقوى على دقة الفكر، وحريته.. ((يأيها الذين آمنوا)) يعني الذين استقبلوا الدين بالعقيدة، ولم يستيقنوه بالفكر، فيصبحوا "مسلمين".. ((إن تتقوا الله)) يعني إن تعملوا بالشريعة، وتأتمروا بالأمر، وتنتهوا عند النهي.. ((يجعل لكم فرقاناً))، يعني نوراً في عقولكم، به تفرقون بين الحق والباطل.. يعني يجعل لكم مقدرة في عقولكم، بفضل التقوى، بها تقوون على التفكير الدقيق، والتمييز السليم، بين ما يليق وما لا يليق.. بين الحلال والحرام "الحرام ما حاك في نفسك، وخشيت أن يطلع عليه الناس".. والتقوى "شجرة" والفرقان "ثمرة"، وبقدر ما تدق التقوى يدق الفرقان، ويقوى.. فالتقوى تبدأ في صورتها الغليظة، ثم تسير نحو الدقة.. وكذلك الفرقان، يبدأ من بداية بسيطة، وضعيفة، ثم يسير نحو الدقة، والقوة، تبعاً لسير التقوى..).. فالتقوى مستويات، والفرقان مستويات تقابلها.. وأغلظ مستويات التقوى هي ما يكون للمؤمن العادي.. ثم يتم التدرج في مراقي التقوى إلى منزلة الورع، ثم منزلة صاحب اليمين، ثم منزلة البر ثم منزلة المقرب، ثم منزلة الكامل.. وكل هذا ورد في كتاب "أسئلة وأجوبة" للأستاذ محمود محمد طه، وأعيد في كتاب: تعلموا كيف تصلون.. وفيه الكثير من التفاصيل، التي لا مجال لذكرها هنا.. المهم أن الفكر مستويات، يتسامى فيها السالك من بدايات بسيطة، إلى نهايات، لا نهاية لها!!.. الفكر تسامي في مراقي النفوس بصورة منهجية وعلمية، تقوم على التجربة العملية في التقوى هذه المراقي تبدأ من النفس اللوامة وتنتهي عند النفس الكاملة، حيث الاستقامة، وهو انتهاء له بداية ولكن ليست له نهاية!! وحتى نعطي صورة لما يؤدي إليه الفكر الذي يقوم على التقوى نورد هنا قول الأستاذ محمود عن المقربين، والذي جاء فيه: (والمقربون هم الذين يكونون عند ربهم، غالب أحوالهم، وهم علماء، قد وسع العلم عليهم ما ضيق الجهل على سواهم.. فأصبحوا، بفضل الله، ثم بفضل سعة علمهم، رحماء، طيبين، متسامحين، محبين للأشياء، والأحياء، في سلام مع ربهم، ومع أنفسهم، ومع الناس.. يدعون إلى الرضا بالله، والمصالحة مع الناس، وينشرون الحب، كما تنشر الشمس النور والحرارة والدفء.. هؤلاء هم ملح الأرض، عرفوا، أو لم يعرفوا.. وتقوى هؤلاء هي عمل، أو ترك للعمل، ابتغاء وجه الله.. وزمنهم فكر متصل.. فجميع أوقاتهم معمورة بالفكر والعمل.. وفكرهم ليس تعملاً، وإنما أصبح طبيعة، تنبع فيهم المعاني، والمعارف، كما ينبع الماء النمير من العين الثرة، وقد تطهرت من أوساخها، وأوضارها.. وعبادة المقربين الاستقامة.. والاستقامة أن تكون على السراط المستقيم في الفكر، والقول، والعمل، فلا تميل يسرة ولا يمنة).
فالفكر المروض، المهذب، المؤدب بأدب القرآن، أدب حقيقته وشريعته، هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق إنسانية الإنسان، وتحقيق الحرية الفردية المطلقة، والترقي في مراقيها.. والإنسان هو غاية الوجود.. يقول الأستاذ محمود: (إن الإنسان هو ثمرة الكون، وصفوته، وهو فيه ملك في مملكته، مكانه منها مكان السياسة الحكيمة، والإدارة القديرة والعدل الموزون. وقد تأذن رب الكون أن يجعل الإنسان خليفته عليه، فهو يعده لهذه الخلافة بالتربية والتعليم والإرشاد الحكيم، وقد خيل الجهل للإنسان أنه مقصود بالعداوة، في غير رحمة ولا هوادة، فأصبح يحارب في غير محترب، ويعادي في غير موجب للعداوة، وهو لن يبلغ مبلغ الخلافة إلا إذا شب عن العداوات، وعلم أنه أكبر من أن يعادي، ولم يصبح في قلبه مكان إلا للمحبة).
هذا ما يقود إليه الفكر -تحقيق خلافة الإنسان لله، يقول تعالى: ((إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)).
فالإنسان، بسبب العقل الذي يخطيء ويصيب، أصبح أفضل من في الكون.. الملائكة مثلاً أصحاب عقول ولكن ضربت عليهم الطاعة بلا معصية.. فأما الإنسان فقد أعطي حق الخطأ، حق أن يخطئ ويتعلم من خطئه، وعلى ذلك انفتح له باب التطور إلى ما لا نهاية!! يقول المعصوم: "إن لم تخطئوا وتستغفروا، فسيأتي الله بقوم يخطئون ويستغفرون فيغفر لهم" ويقول تعالى: ((وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ))، النجدين يعني الطريقين: طريق الخطأ والصواب.. وهذا ما يميز الإنسان على جميع خلق الله، ويعطيه الفضيلة عليهم.. الملائكة كما ذكرنا ضربت عليهم الطاعة، فلا يعصون الله ما أمرهم، والأبالسة ضربت عليهم المعصية.. أما الإنسان فأعطي حق الخطأ والصواب.. وبهذا أعطي الحرية، فهي أعظم قيم الإنسان.. وإنما يترقى الإنسان في مراقيها بالعقل، المؤدب المروض، كما ذكرنا.. وهذه القيمة للعقل تجعله أثمن ما في الوجود، من بعد القلب!!
ومنهاج الجمهوريين هو "طريق محمد" صلى الله عليه وسلم.. وهو يقوم بصورة أساسية على إدخال الفكر في كل ما نعمل، وما ندع.. والمنهاج يبدأ من بدايات بسيطة، ويترقى إلى نهايات سامية، عن طريق التقوى والفرقان.. فالجمهوريون دعاة لبعث السنة، والسنة هي إدخال الفكر في العمل كما ذكرنا.. ونكرر الفكر هو وسيلة الرجعى إلى الله.. المقصود الفكر الذي يقوم على عقل المعاد وليس الفكر الذي يقوم على عقل المعاش.. فهذا الأخير هو سبب الضلال، ولا يمكن معرفة حقائق الدين عن طريقه.. يقول الأستاذ محمود: ("وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا" ومن الظالمين من يعتمد على العقل في فهم حقائق الدين كل الاعتماد).. المقصود العقل الذي لا يقوم على التقوى.. فحقائق الدين تؤخذ عن الله عن طريق التقوى، عن طريق العقل المروض الذي تكسبه التقوى والفرقان، الذي يميز به بين قيم الأشياء.
نحن لا نحتاج إلى التفصيل في أمر الفكر هنا، إنما قصدنا فقط إظهار المفارقة العظيمة، وعدم الموضوعية المبالغ فيه، عند د. حيدر، عندما قال: (أنا بعتقد أن الجمهوريين بستخدموا العقل بصورة واضحة جداً!! عندهم كان نوعين: خبرة صوفية، زائد استخدام العقل والفكر)، فهذا كله نقيض للفكرة الجمهورية فعمل الأستاذ محمود والجمهوريين لا يقوم على تجربة صوفية.. هم ليسوا أصحاب "طريقة"، وإنما هم أتباع "الطريق" الذي تصب فيه كل الطرق.. وعندهم، لم تعد الطرق الطرق ولا الملل الملل!! وهم لا يستخدمون العقل الخام، "عقل المعاش"، وإنما يستخدمون العقل المؤدب المروض المسدد، كما ذكرنا.. وهنالك اختلاف هائل بين العقلين.. عملهم لا يقوم على الفكر المجرد، فهو يسوق إلى الضلال، وإنما يقوم على العلم بالله ((وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)).. كل القضية هي خلق الصلة بالله، والأخذ عنه، ومنه.. يقول الأستاذ محمود: (لن يهدأ لي بال حتى أرى الإنسانية قاطبة وقد قام ما بينها وبين ربها على الصلاة، وما بينها، فيما بينها على الصلة)..
لتكتمل الصورة لا بد من الرجوع إلى كتاب "الرسالة الثانية من الإسلام"، لمعرفة قيمة العقل.. وكتاب "طريق محمد" صلى الله عليه وسلم مع كتاب "تعلموا كيف تصلون"، لمعرفة المنهاج الذي به تسديد العقل، والوصول إلى العقل المحايد، والاستقامة.. وكتاب "الفكر: بين الإسلام والحضارة الغربية" لمعرفة الاختلاف بين الفكر في الإسلام، والفكر في العلمانية والحضارة الغربية.
بنى د. حيدر على حديثه عن الخبرة الصوفية، ذلك الحديث المناقض للواقع، بنى عليه، ما جاء في قوله: (لذلك أنا بقول في خطر شديد جداً أن يتحول الفكر الجمهوري، إن لم يكن حصل فيه، ماش أنو يتحول لشكل من أشكال عبادة الفرد، دي نقطة خطيرة جداً، ممكن يقع فيها الأخ الجمهوري)!! كل وهم عنده خطير جداً، في وقت أنه لا وجود له في الواقع إلا في عقله!! وربما في نفسه.. الدين كله، لا مجال فيه لعبادة الفرد، لأنه يقوم على التوحيد، ونفي الشركاء في أي صورة من الصور، حتى الشرك الخفي، خلي عنك هذا الأمر الغليظ جداً: عبادة الفرد!! يقول تعالى: " قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" حياة كلها لله، وفي الله، لا مجال فيها لعبادة الطواغيت.. والمقصود بعبادة الطاغوت، عبادة كل ما هو خلاف الله.. والمنهج في العبادة والمعاملة، كله رياضة روحية للتخلص من الأغيار ومن الشرك، بما في ذلك شرك الهوى –هوى النفوس– يقول المعصوم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به".. الدين في الإسلام يقوم على العبودية لله، ومراعاة أدب العبودية، بالنسبة للنبي ولكل مرشد في الدين.
الأستاذ محمود لم يدع لنفسه.. لم يدع لإتباعه.. وإنما دعا إلى "طريق محمد" صلى الله عليه وسلم.. والتجربة في العمل في هذا الطريق، هي ما عاشه الأستاذ، وخبره، وخبر دقائقه.. فهو المرشد للجمهوريين إلى نهج العبودية لله، التي جسدها في مقام رفيع.. ومن أدب العبودية أن يخرج النبي، كما المرشد، نفسه من بين العبيد والله.. يقول الأستاذ محمود: ("قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ!! قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ، فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا، وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ".. من اهتدى فإنما يهتدي إلى نفسه "العليا" –"الكاملة"– ومن ضل فإنما يضل في متاهات نفسه "السفلى" – "الأمارة".. وطريق محمد إنما هو "السنة".. هو سنة "محمد" في أوليات السير، ثم هو سنة "الله" في أخرياته.. وهذه السنة إنما هي السراط المستقيم، الممدود، رأسياً بين النفس السفلى في القاعدة، والنفس العليا في القمة، والمتمثل أفقياً، في نقطة التقاء طرفي الإفراط والتفريط، أثناء تأرجح "النفس السفلى" – (اقرأ هنا "النفس اللوامة" بخاصة، والأمارة موجودة) بين هذين النقيضين.. نقطة التقاء هذين النقيضين، في هذه القاعدة، هي "الحق".. والحق يتطور يطلب الحقيقة.. وإلى هذه السنة النبوية الإشارة بقوله تعالى: ((قد جاءكم الحق من ربكم)).. وروح هذه الآية إنما هي في الفاصلة، وهي قوله تعالى: ((وما أنا عليكم بوكيل)).. وإنما كانت هذه الفاصلة روح الآية لعظيم مكانتها في التأديب –تأديب النبي، وتأديب أفراد الأمة– تأديب "المربي"، وتأديب "المتربي"، ذلك بأن بها يقع على "المتربي" تحمل مسؤولية عمله في مضمار سيره إلى تحقيق فرديته، ويقع على "المربي" إخراج نفسه من بين "العبيد" و"ربهم" حتى لا يكون قاطعاً لطريق الرب، وحتى تكتمل له هو عبوديته، فلا تكون له رائحة ربوبية على أحد من الخلق.. وفي هذا التأديب من لطف التأتي إلى رياضة النفوس البشرية ما يلحق بحد الإعجاز.. بل إنه لهو إعجاز القرآن الحقيقي.. في هذه الفاصلة إيجاز معجز لتفصيل ورد في آيتين شهيرتين، طالما تحدثنا عنهما في عديد المواضع من كتبنا، هما ((فَذَكِّرْ!! إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصيْطِرٍ)).. يحسن أن نذكر هنا أن الفاصلة إنما هي سنة "الله" في حين: "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ!! قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ" هي سنة "النبي".. وما يعقلها إلا العالمون).
دع عنك هذا الوعظ، وأوعظ نفسك، فهي في أشد الحاجة للوعظ.
يقول د. حيدر: (لذلك الفكر الجمهوري نفسه ما بيحتاج إلى تجديد في الدين، بيحتاج تجديد مستمر في الفكر الجمهوري نفسه!! لأن أغلب الأفكار الموجودة في الفكر الجمهوري الآن، هي أفكار الأستاذ محمود في الخمسينات والستينات، والسبعينات.... إلخ).. أولاً الفكر الجمهوري هو الدين ولا شيء غيره.. هو ليس فكر الأستاذ محمود وإنما هو العلم بالله الذي قاد إلى معرفة أصول القرآن وفروعه.. قاد إلى الدعوة إلى أصول القرآن – الرسالة الثانية.. فكما ذكرنا لك الدين –والرسالة الثانية هي الدين– لا يتطور، وإنما ينتهي إليه تطور كل متطور.. بهذا المعنى الفكرة الجمهورية لا تحتاج إلى تجديد، وإنما تحتاج إلى أن تعاش وتطبق.. مشكلتك أنك تفرق بين الفكرة والدين، وهذا لغياب التوحيد عندك.. الفكر والدين في الإسلام شيء واحد.. والتغيير في الخارج لا يتم بسبب مرور عقود في الزمن، وإنما يتم بسبب تغير الاستعداد الحضاري.. وهذا الاستعداد أخذ أربعة عشر قرناً، لتستعد الحياة في الأرض لتطبيق الأصول.. وهذا الاستعداد جرى بأمر الله.. وكل ما يحدث في الوجود لا يحدث إلا بأمر الله.. فما يحدث في الكون من أحداث، هو كلام الله الخلقي.. وما في المصحف من قرآن، هو كلام الله اللفظي.. وبالتخلق بأخلاق القرآن تتم معرفة الله، معرفة حكمته من كلامه الخلقي، حسب حكم الوقت.. آيات الأصول، يا د. حيدر، هي بدايات النهايات، ولن يتم تطور خارجها، وإنما كل تطور يتم في إطارها!! فهم من فهم، وجهل من جهل.
الأستاذ محمود ليس مفكراً بالمعنى الذي به الفيلسوف مفكراً، وإنما هو عارف بالله.. الفكر عند الفيلسوف يقوم على العقل وحده، وهذا يضلل عن الدين، كما سبق أن ذكرنا لك.. أما الفكر عند العارف فيقوم على التحقيق في التوحيد.. الذي يهذب العقل ويروضه ويكسب الفرقان الذي به يتم التمييز بين قيم الأشياء.. وكل هذا قد ذكرناه.. فالفكرة الجمهورية ليست معلومات يتلقاها الجمهوريون عن الأستاذ ليرددوها، وإنما هي معارف يعتمد الإلمام بها نتيجة العمل بمنهاج التقوى –"طريق محمد" صلى الله عليه وسلم– الذي به تربية العقول والنفوس.. وهو الذي يكسب العامل الميزان الذي يزن به كل فكر يتعرض له، جديداً كان أم قديم.. ثم إنك لم تذكر لنا مثالاً واحداً لما جد في العقود الثلاث التي ذكرتها.
الأستاذ محمود، من أواخر ستينات القرن الماضي، أحال الحديث في الدعوة لتلاميذه من الأخوان والأخوات.. ومنذ ذلك التاريخ، وإلى اليوم، هم حملوا الدعوة في كل المنابر المتاحة، ولم تواجههم أي مستجدات لم يجدوا لها الإجابة من دعوتهم.. واضح جداً أنك لا تفرق بين المفكر العارف بالله والمفكر الفيلسوف.. وهذا خلل أساسي عندك، يحول دون فهمك للدين.. التجديد المستمر الذي يحتاجه إنسان الدين، هو التجديد الداخلي في فكره وفي سلوكه، مستهدفاً الاستقامة.
ومما يؤكد ما قلته أعلاه من تفكير د. حيدر قوله: (النص بجي بصورة قاطعة والواقع متغير.. فهاهنا تبدأ، يبدأ هذا التناقض الداخلي).. العبرة بمعنى النص وليس بالنص.. ومعنى النص لا يجيء بصورة قاطعة، كما تزعم أنت، وإنما هو عكس ما تزعم، النص الواحد قابل لإعطاء المعاني التي لا حد لها.. اللغة إشارات إلى المعاني.. ومعاني القرآن لا تؤخذ من اللغة وحدها، وإنما تؤخذ من التعاون بين اللغة والتوحيد.. وفي هذا التعاون التوحيد هو الأمر الحاسم.. فكل ما وحد السالك، فهم من النص من المعاني الجديدة الدقيقة، ما لم يكن يفهمه.. العلم من الله وليس من النص.. النص والعمل يعينان على خلق الصلة بالله، لتلقي العلم عنه.. ((وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)).. ويقول المعصوم، في هذا المعنى: "إنما أنا قاسم، والله يعطي، ومن يرد به الله خيراً يفقهه في الدين".. إذا لم تفهم هذه النقطة لا مجال لك لأن تفهم الدين.. وغياب هذه النقطة عندك، هو السبب الأساسي في أنك تنقد الدين، وتنقد الفكرة الجمهورية، من خارجهما!! في جميع ما قلته مما تعرضنا له ومما سنتعرض له عن الدين وعن الفكرة أنت خارج الموضوع.. أنت تنقد الفكرة من خارجها!!
جاء في الحديث الشريف الذي يرويه علي بن أبي طالب، عن القرآن: "فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم".. "هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه".. فالقرآن لأنه كلام الله، والله تعالى متكلم دائماً، وليس مثل خلقه يتكلم ويصمت، فإن هنالك دائماً الجديد الذي يناسب الوقت، والذي يتجاوز الوقت.
يقول د. حيدر معبراً عن فهمه هذا المغلوط جداً، والبعيد جداً عن الموضوعية، يقول: (أنا بعتقد أنه الطريقة الجا بيها الدين هي طريقة قاطعة ومطلقة!! الإصلاح الديني يشتغل على النسبي، والدين بيشتغل على المطلق)!! واضح جداً أن الدكتور يجهل أساسيات الفكرة الجمهورية.. والمجال هنا لا يتسع، ولكن لا بد من الحديث عن المطلق والنسبي.. المطلق في الدين هو الذات الإلهية، ولا مطلق غيرها.. ولا يوجد أي مطلق في التفكير العلماني، وهذا جوهر أزمته.. في الإسلام كل ما عدا الذات الإلهية هو محدود ونسبي.. ويأخذ نسبيته من المطلق.. وجود المطلق، يجعل المعرفة في الدين، معرفة سرمدية لا انتهاء لها.. والسير إلى الله سير سرمدي.. الكون الحادث كله، وفي جميع جزئياته متحرك، حركة لا تقف، ولا ترجع ولا تكرر نفسها.. ولهذه الحركة، الحسية والمعنوية، غاية واحدة، هي ذات الله (المطلق).. وأصل الحركة هو التجلي الإلهي.. فالله تعالى ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))، وشأنه هو إبداء ذاته لخلقه ليعرفوه.. ويوم التجلي هو أدق ما يمكن أن نتصوره عن الزمن فيه تنقسم الثانية إلى ملايين الأجزاء.. هو نقطة التقاء المطلق بالمحدود.. وعلى السالك المجود، أن يكون مع الله تعالى في كل تجلياته.. وهذه التجليات هي كلام الله الخلقي، كما سبق أن ذكرنا.. وفي كل تجلي من تجلياته حكمة، على السالك أن يعلمها ويعمل بمقتضاها.. وبذلك يكون السالك نفسه متجدداً في فكره وقيمه، بصورة متصاعدة تسير من المحدود إلى المطلق والحركة في الكون، في جميع مستوياتها ذات غاية واحدة – هي تطلب المطلق، وتسعى إليه.. وبالطبع السير هنا ليس في الزمان والمكان، وإنما هو في الفكر والقيم، وإليه الإشارة بقول المعصوم: "تخلقوا بأخلاق الله إن ربي على سراط مستقيم".. والحركة كلها في إطار النسبي، هي حركة من الفروع إلى أصول الوجود.. فالذات الإلهية هي الأصل الأصيل، والخلق المحدود هو فرع، هو تنزل، والفرع يطلب في مسيرته الأصل.. الأصل مثلاً هو الحياة الكاملة المطلقة الكمال.. وحياة الخلق مستمدة من هذه الحياة حسب استعداد الفرد، وهي سائرة من محدوديتها إلى الحياة المطلقة.. وكذلك الحال بالنسبة للحرية، وللعلم.. الأصل هو الخير المطلق، والشر فرع، جاء لخدمة الأصل.. والفرع فاني، والأصل باقي.. الأصل النعيم، والفرع الشقاء.. وهكذا!!
يقول تعالى: ((وَلَا تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ ۘلَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، لَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)).. (كل شيء هالك) يعني فاني، متغير.. (إلا وجهه)، الوجه البعيد هو ذات الله، وهي باقية بقاء مطلقاً.. والوجه القريب هو وجه الأشياء مما يلي الله.. فهو باقي بقاء نسبي.
وفي قوله تعالى: ((وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَٰطِلُ، إِنَّ ٱلْبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا)).. الحق والباطل كلاهما من الله، وهما فرع.. الحقيقة هي الأصل.. الباطل هو الوجه البعيد عن الحقيقة، والحق هو الوجه القريب من الحقيقة.. والحركة والتطور هما تحول من الباطل إلى الحق، ومن الحق إلى الحقيقة.. والباطل قد كان في يوم من الأيام حقاً، حسب حكم الوقت.. ويجيء الحق الذي هو أكبر منه، وأقرب إلى الحقيقة، وأكثر مناسبة للوقت فيجعله باطلاً.. وهذا الحق نفسه، عندما يجيء ما هو أكبر منه يصبح باطلاً.. وهكذا دواليك في السرمد.. والذي يحدد الحق من الباطل في الزمن المعين هو (حكم الوقت) وهو يعني حكمة الله في ما يظهره في الوقت المعين.. والمعرفة هي أن تعرف هذه الحكمة وتعمل وفقها.. والجهل هو غياب حكم الوقت.. وهذا يظهر أكثر ما يظهر في عبارة الدكتور التي يقول فيها أليس من الممكن أن ينزل الله رسالة واحدة تصلح للقرن السابع والقرن الواحد والعشرين؟! هذا خطأ شنيع في الفهم الديني، وفي التفكير المدني.. هذه لمحة عن النسبي والمطلق في الفكرة الجمهورية.. واضح منها أن الدين على العكس عن ما يقوله عنه د. حيدر في عبارته: (أنا بعتقد أنه الطريقة الجا بيها الدين هي طريقة قاطعة ومطلقة!! الإصلاح الديني يشتغل علي النسبي، والدين يشتغل علي المطلق).. العمل في الفكر وفي الحياة دائماً نسبي، ومن المستحيل أن يكون خلاف ذلك.. لكن في الدين العمل والفكر، غايتهما المطلق.. مرة أخرى المطلق واحد هو الذات الإلهية.. وهو الثابت الوجودي الوحيد.. وليس في العلمانية ثابت وجودي، ولذلك النسبي فيها لا تكون لحركته غاية، ولا بوصلة توجه الحركة.. إن الدكتور يستعمل كلمة (مطلق) استعمال عشوائي، ولا علاقة له بالفكرة ولا بالدين عموماً.


خالد الحاج عبدالمحمود
13 / 12 / 2012م