إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

مشكلة الشرق الأوسط

غرور الزعامة


إن السيد جمال يريدنا أن نعرف أنه قال لأمريكا ((لا)) عندما طلبت حق التفتيش، ولكنه لا يحدثنا ولا يريدنا أن نعرف لماذا طلبت أمريكا حق التفتيش؟ ولماذا طالبت أمريكا بتحديد الجيش المصري؟
لقد قال بعض الخبراء العسكريين، قبيل الهزيمة التي حلت بالجيوش العربية، وبُعيد اندلاع النار، إن الجيش المصري العامل يقدر بمائة وستين ألف جندي، وأن الجيش الإسرائيلي العامل يقدر بستين ألف جندي، ولكن الإسرائيليين في ظرف ثلاثة أو أربعة أيام يمكن أن يرفعوا الجيش إلى مليون جندي، وذلك لأنهم كانوا يمرنون، ويسرحون، كل شاب وشابة قادر على حمل السلاح على مدى العشرين سنة التي هي عمر دولة إسرائيل.. وكان يجري كل هذا الإعداد، في التمرين، والتسريح، والتسليح في صمت شديد، في الوقت الذي فيه تجرى تلك الجلبة و((المفاشرة)) والمباهاة الفارغة، كل عام مرة، أو مرتين، في مصر.. مما جعل العالم يعتقد أن الجيش المصري هو أقوى جيش في العصر الحاضر في الشرق الأوسط، وأن اليهود في دولة إسرائيل، يتعرضون لخطر حقيقي إذا ما نشبت الحرب بينهم وبين العرب، وهذا هو السبب الذي جعل أمريكا تطالب بحق التفتيش!!

الرضا عن النفس وتحقير شأن العدو


وزيادة على أن خطب جمال عبد الناصر قوَّت إسرائيل وأكسبتها عطف العالم، وجرّت على العرب الزراية، والخزي في كل المجالات، فإنها أيضاً غفلت العرب عن حقيقة أمرهم، وحقيقة أمر عدوهم وجعلتهم راضين عن أنفسهم كل الرضا.. ولماذا لا؟ أليسوا قد أمموا قناة السويس؟ أليسوا قد هزموا الاستعمار الغربي في عدوان عام 1956م؟ أليسوا قد أسقطوا حكومة ايدن في بريطانيا؟ أليسوا قد اكتسبوا صداقة الاتحاد السوفيتي العظيم والدول الاشتراكية التي تدور في فلك الاتحاد السوفيتي؟ فماذا عسى تكون إسرائيل بإزائهم؟ وكذلك تورط العرب في خطأ لا يتورط فيه عادة إلا الأغبياء، وذلك هو الرضا عن النفس والتقليل من شأن العدو.. فقد درج الإذاعيون، والكتاب، والشعراء والصحفيون على تسمية إسرائيل ((بدويلة العصابات الصهيونية)) أو كما يطيب لبعضهم أن يردد ((دولة كل فاجر وفاجرة)) وهم لا يعرفون لها أيِّ فضيلة ولا أيٍّ حق في البقاء، أو شبهة حق، في أرض فلسطين، حتى ولو كان هذا الحق باطلاً قائماً في أذهان الإسرائيليين مما يوجب التصحيح.. هم لا يعرفون لها غير أنها قامت لخدمة أغراض الاستعمار الغربي في الشرق الأوسط.. فلا حظ لها من وجودها، ومن جهود أبنائها غير ذلك.. وفاتهم أن أبسط الذكاء يقضي عليك، لكى تتمكن من عدوك، أن تعرف نفسيته، وطبيعة تفكيره، وحقيقة دوافعه، ومدى تصميمه على الاستقتال في سبيل الاستجابة لتلك الدوافع.. أليست صحائف التاريخ مليئة بهزائم الأغبياء الذين يعظمون من شأن أنفسهم، ويقللون من شأن عدوهم؟

المفارقة بين القول والعمل


ومن أشنع ما يبدو من الزعامات العربية، وفى مقدمتهم الزعامة المصرية المفارقة الكبيرة بين القول والعمل، فالزعماء العرب لا يعنون ما يقولون، ولا يشعرون بضرورة مطابقة ما يقولون لما يعملون.. والشعوب العربية، لغلبة الجهل عليها، وقوة روح التبعية فيها، ولقلة المعلومات الوافية عندها، لا تستطيع محاسبة زعمائها، ثم إن الزعماء، في غالب البلاد العربية، حكام مستبدون لا يستمدون تأييدهم من الشعوب وإنما يفرضون أنفسهم أوصياء على الشعوب.. وحيث وجدت أوضاعاً ديمقراطية، كما هي عندنا في السودان، وجدتها قائمة على تبعية غير واعية تقوم على التكتيل الطائفي الديني، أو السياسي.. وكلاهما يفوِّت على الناس فرص الوعي والمراقبة، وفى جميع البلاد العربية تجد السلطة قد نظمت وسائل الإعلام، لا لتوصيل المعلومات الصحيحة للشعوب، وإنما لإلهاء الشعوب عن المعلومات الصحيحة، وصرفها عنها بالخطب الجوفاء، والأناشيد التافهة.. وأما الأخبار الصحيحة والتعليقات الواعية فلا تكاد تظفر بها.. والحوادث التي تجرى في البلاد العربية، مما ليس للحكومات فيه هوى، فلا مكان لها في الإذاعات.. حتى إنك تستطيع أن تسمع ما يجري في بلادك من إذاعات العالم الخارجي، بما فيها إذاعة اسـرائيـل، وقـد تسمعـها معتـدلة اعتـدالاً تطمئـن إليه نفسـك، وأنـت علـى كـل حال لا تملك إلَّا أن تسمعها..

الزعماء العرب هم سبب هزيمة العرب


والآن فإن خزي الهزيمة الذي جلل الشعوب العربية يبوء به الزعماء.. ونصيب السيد جمال عبد الناصر منه نصيب الأسد، ولكن السيد جمال مشغول بتبرير نفسه في نظر الشعوب ليخرج من هذه النكبة النكراء بزعامته وقد كتب لها عمر جديد.. وهيهات!! فإن التاريخ وراءه وستطلع الشعوب على الحقائق قريباً، ويومها قد يكون الحساب عسيرا..
إن أعمال جمال عبد الناصر الآن، وكتابات محمد حسنين هيكل جميعها، تستهدف تبرير زعامة جمال بإيجاد كباش الفداء الذين يحملون وزر الهزيمة، ثم يمضي جمال زعيماً كما كان.. فإن جاز هذا التضليل فإن العرب مقبلون على نكبة رابعة، ما من ذلك بد.. ولكن هذا التضليل لن يتم، ولن يجوز، لأن جمال عبد الناصر قد أنى له أن يذهب.. وهو ذاهب، ما في ذلك ريب، مهما شق هذا الأمر على الشيوعية الدولية، ومهما حاولت هذه الشيوعية أن تضلل الشعوب العربية عن حقيقة قصور زعامة جمال عبد الناصر.. جمال ذاهب لأن حكم الوقت الحاضر يتطلب ذلك.. فلا بد من الإسلام لحل مشكلة البشرية منذ اليوم، وذلك أمر سنوضحه في موضعه من هذا الكتاب، وجمال عبد الناصر، وهو داعي، ومفلسف القومية العربية، يقف اليوم كأكبر عقبة في سبيل عودة الإسلام إلى الأمة العربية.. ذلك بأن باطل القومية العربية يشبه الحق، ولا يسهل كشفه ولا الاحتراز منه وجمال بنى مجده، وبطولته، وشعبيته على باطل القومية العربية، ومن أجل ذلك أصبح ذهابه ضرورة تمليها مصلحة العرب خاصة، في المكان الأول ومصلحة البشرية عامة، في المكان الثاني.. فليذهب، وليبارك الله له وللعرب في ذهابه وفى عواقب ذهابه.. فقد كان حسن النية ولكن حسن النية وحده لا يكفي لإسعاد الشعوب.. ولا بد من سعة الثقافة، ودقة الفكر، وقوة الخلق..