إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

هؤلاء هم الأخوان المسلمون
الجزء الثالث والأخير

الفصل الثاني
الأخوان المسلمون والدستور الإسلامي المزيف


وعندما أحست الطائفية بأخطار الاتجاهات التقدمية، لدى الشعب السوداني، والتي اسفرت عنها ثورة اكتوبر 1964، اتجهت الى توطيد اقدامها في السلطة عن طريق فرض دستور طائفي، انتحلت له اسم (الدستور الإسلامي)، لتضلّل به الشعب عن المحتوى التقدمي للإسلام، ولتبسط باسمه نفوذها الطائفي، ولتصفي عن طريقه خصومها السياسيين، ولتفرض، من ورائه، جوا عاما من الإرهاب على افراد الشعب، حتى يبدو من يعارض ذلك الدستور منهم انه إنما يعارض الإسلام!! وكان لتنظيم الأخوان المسلمين دور اساسي في تلك الحملة الطائفية من أجل ذلك الدستور الإسلامي المزيف. وفي أول ليلة سياسية تقيمها جبهة الأحزاب، عقب ثورة أكتوبر، قال الدكتور الترابي:
إن الدستور الإسلامي هو نظام الحكم الوحيد الصالح وأن سنوات الحكم السابق كان لنا فيها دروس، وعظة، وأننا إذا أردنا الخير لمستقبل الأمة: -
1) لا بد لنا من الحرص على حكم الشورى.
2) الديمقراطية
3) توخي الطهارة والإخلاص في الحكام..

كما قال الترابي: (ان الأحزاب الماضية كانت تعد بالدستور الإسلامي، ولكن بعد الوصول إلى كراسي الحكم يتنكرون لوعودهم..) وقال: (إن المعركة القادمة هي معركة دستور قبل كل شيء، وأنه يجب على الأمة أن ترتبط بالدستور الإسلامي، وأن الأحزاب ينبغي أن ترتبط في ميثاق واحد أساسه الإسلام) – الرأي العام يوم 6/11/1964.. وهكذا كان مخطط الأخوان المسلمين: جعل (معركة دستور قبل كل شيء).. ويعني هنا الدستور الإسلامي المزيف الذي كان يراه الأخوان المسلمون، وذلك بجعل الأحزاب، (ترتبط في ميثاق واحد) حول ذلك الدستور!!
واتجه الأخوان المسلمون، في حملة الدستور الإسلامي المزيف، الى اسلوب الإثارة، والضغوط... وذلك بتحريك الهيئات، والمنظمات، وجمهور المساجد، وبإرسال الوفود، والبرقيات.. وذلك لإظهار مخططهم هذا على أنه مطلب شعبي تسنده اغلبية افراد الشعب.. فقد اوردت جريدة (الميثاق) بتاريخ 27/4/1967 تحت عنوان كبير: (انتصار هام للإرادة الشعبية في لجنة الدستور).. أوردت خبرا يقول: (سجل أمس العمل الشعبي من أجل الدستور الإسلامي انتصارا رائعا، اثمرت البرقيات، والرسائل، والوفود، والمطالبات، التي وصلت إلى لجنة الدستور، وإلى رؤساء الأحزاب، فقد تمكنت اللجنة القومية أمس من اجازة قرارات هامة حول طبيعة الدولة ومصادر التشريع)... وجاء في جريدة (الميثاق) بتاريخ 24/4/1967: (قبائل البجا تطالب بالدستور الإسلامي الكامل).. وجاء في نفس العدد: (شيخ الفاتح قريب الله يتصل بالأزهري حول الدستور الإسلامي).. ويبدو من ذلك اسلوب الأخوان المسلمين في تضخيم العمل الذي يتولونه، عن طريق الدعاية الواسعة له، والباسه لبوس المطلب الشعبي.. واشاعة جو عام من الإرهاب لمصلحته.. وسقط اقتراح (الدستور الإسلامي الكامل) المزعوم.. وعن ذلك يحدثنا الأستاذ محمود في كتابه (الدستور الإسلامي؟؟ نعم!! ولا!!) فيقول:
ونحب أن نكون واضحين فان الدستور الإسلامي لم يسقط، لأنه لم يقدم، وإنما سقط دستور ناقص، جاهل، انتحل له اسم الدستور الإسلامي الكامل.. ومن حسن التوفيق أنه سقط، وقد سقط هذا الاقتراح وهو مقدم من اللجنة الفنية، ويمثل وجهة نظر جبهة الميثاق الإسلامي عن الدستور الإسلامي!! فماذا قالت جبهة الميثاق الإسلامي بعد سقوطه؟؟ قالت في العدد الخاص الذي أصدرته من جريدة الميثاق بتاريخ 31 ديسمبر عام 1967، تحت عنوان، (صورة المستقبل في السودان كما يرسمها الدستور الإسلامي) قالت: (لقد اكتملت اليوم قرارات اللجنة القومية للدستور وأجيزت مسودة الدستور الدائم ويمكن أن يقال عن الدستور الدائم أنه به درجة معقولة من الالتزام بالإسلام يظهر ذلك في المادة الأولى (أن يكون دستور السودان مستمدا من مبادئ الإسلام وروحه) فهم قد أسموه الدستور الإسلامي وقالوا (أنه به درجة معقولة من الالتزام بالإسلام).. هذا وكل من يعرف، يعرف أن الإسلام لا يتجزأ، وأنه إذا كان عندك دستور هو خمسة وتسعون في المائة إسلامي، وخمسة في المائة غير إسلامي فهو دستور غير إسلامي.. ومن يدري فلعل عند الله الخمسة في المائة التي فاتتك أهم من الخمسة والتسعين في المائة التي أحرزتها، وما أجد بين يدي الآن عبارة تدل على جهل جبهة الميثاق بالإسلام مثل هذه العبارة التي أوردناها آنفا
..
هكذا كان دور الأخوان المسلمين في تزييف الدستور الإسلامي!! وقد برز دورهم واضحا، كذلك، في تمريره بواسطة الجمعية التأسيسية، في عجلة مريبة... فقد قالت جريدة (الصحافة) بتاريخ 25/1/1968: (برز اتجاه سياسي يدعو إلى عرض الدستور للاستفتاء الشعبي بعد أن تجيزه الجمعية بالأغلبية العادية ثم تحل.. وسألت الصحافة الدكتور حسن الترابي، أمين جبهة الميثاق وعضو اللجنة الفنية للدستور عن طبيعة هذا الاتجاه فقال إن محاولات اجازة الدستور بثلثي اعضاء الجمعية ستستمر حتى يوم الإثنين المقبل أما إذا فشلت هذه المحاولات فمن الطبيعي أن يجاز الدستور بالأغلبية العادية دون التمسك بمبدأ الثلثين ثم يعرض على الشعب في استفتاء عام ليقول فيه كلمته، وبعد ذلك تحل الجمعية) هكذا اتجه الأخوان المسلمون الى محاولة تمرير ذلك الدستور بالأغلبية العادية وقد انتحلوا له اسم الدستور الإسلامي... وذلك بعد أن واجه معارضة شديدة من النواب المسيحيين في الجمعية التأسيسية.. فقد قالت جريدة الصحافة بتاريخ 25/1/1968: (فشلت أمس وللمرة الثالثة إجازة مسودة الدستور في مرحلة القراءة الثانية. أصر النواب المسيحيون على الانسحاب رغم كل المحاولات التي بذلت لإقناعهم) ... وقد قالت جريدة الصحافة بتاريخ 29/1/68 (النواب المسيحيون يطالبون بإدخال 25 تعديلا على الدستور. التعديلات تنادي بإلغاء النصوص الإسلامية وتطالب بعلمانية الدستور وانتخاب نائب رئيس الجمهورية من الجنوبيين) ... كما قالت جريدة الصحافة بتاريخ 30/1/68 (انسحب جميع نواب سانو من الجمعية، وكذلك بعض نواب كتلة الجنوب ما عدا الأب فيليب عباس غبوش ولويجي أدوك وثمانية من النواب الجنوبيين المنتمين للأحزاب الشمالية. أجرى التصويت على القراءة الثانية لمشروع الدستور ففاز بأغلبية 168 نائبا ووقف ضده النواب الشيوعيون الأربعة).. وهكذا استطاعت الأحزاب الطائفية، بأغلبيتها الميكانيكية، في الجمعية التأسيسية أن تجيز ذلك الدستور في مرحلة القراءة الثانية، مع معارضة الغالبية من النواب المسيحيين له، ومع انتهاكه للحقوق الأساسية للمواطنين حيث حجر حرية التعبير، وحق التكوين الحزبي على طائفة من المواطنين هم الشيوعيون دون سواهم – وذلك في مادتيه 33، 34 (مشروع الدستور المقدم من اللجنة القومية للدستور).. وتم حل الجمعية التأسيسية الأولى التي أعقبت ثورة اكتوبر، وجرت الانتخابات للجمعية التأسيسية الثانية والأخيرة.. وكانت نتائجها كما يلي: (جريدة الصحافة بتاريخ 8/5/1968): (الاتحادي الديمقراطي 101 دائرة، وحزب الأمة الصادق 36 وجزب الأمة الإمام 30 وسانو 15 منهم 2 جناح الفرد و10 جبهة الجنوب و9 مستقلين و6 أمة و3 ميثاق و3 بجة و1 قوى عاملة و1 شيوعي و1 حزب النيل) وقالت الجريدة: (تميزت نتائج الانتخابات بمفاجآت غير متوقعة اذ لم يحالف التوفيق عددا من قيادات الأحزاب في الانتخابات ومنهم السيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة والسيد أحمد المهدي نائب رئيس حزب الأمة والسيد عبدالله عبد الرحمن نقد الله سكرتير عام حزب الأمة) (ومن جبهة الميثاق أمينها العام الدكتور حسن الترابي والسادة محمد يوسف محمد ومحمد صالح عمر ويسن عمر الإمام وسليمان مصطفى) كما قالت الجريدة يوم 7/5/1968: (فاز السيد مضوي محمد احمد اتحادي ديمقراطي على الدكتور حسن الترابي فنال 7,616 صوتا مقابل 4,489)!! ونحن لا نذكر هنا سقوط الترابي بغرض الزراية به، وإنما لندلل على فشل تنظيم الأخوان المسلمين، (كما هو الأمر بالنسبة للحزب الشيوعي)، في استقطاب افراد الشعب السوداني إلى دعوتهم، حتى بعد أن كونوا ما اسموه (جبهة الميثاق الإسلامي) لتضم الاتجاهات الإسلامية المختلفة، وعلى الرغم من تبنيهم للدعوة إلى ما اسموه (الدستور الإسلامي الكامل)، وعملهم الدعائي الواسع لاسترضاء، واستمالة، العواطف الدينية لهذا الدستور، وقيادتهم لحملة حل الحزب الشيوعي التي حاولوا ان يظهروا فيها بمظهر الدفاع عن العقيدة!! ولذلك اتجه تنظيم الأخوان المسلمين الى التحالف مع الأحزاب الطائفية، والى التنسيق معها، في كافة مواقفه المصيرية.. فظل، قبل ثورة (مايو)، أحد أركان (مؤتمر القوى الجديدة)، وبعدها، أحد أركان (الجبهة الوطنية)!! ان سقوط الترابي في بقعة من أكبر البقاع الدينية، هي منطقة المسيد، وفي موطنه الأصلي، ليفوز عليه، وهو دكتور القانون، تاجر شبه أمي لأمر شديد الدلالة على أن تنظيم الأخوان المسلمين لم يستطع ان يبرز ككيان سياسي له وزنه الشعبي إلاّ في الأوساط الطلابية، حيث استغل نزعة التمرد، والرفض، التي تتميز بها مرحلة المراهقة في الظهور بمظهر المعارضة للسلطة، وافتعال الأعمال البطولية ضدها... ولذلك فإن كثيرا من أعضاء هذا التنظيم من الطلاب إنما ينسلخون منه، توا، بعد سني الدراسة، واشتغالهم بالعمل العام..
هكذا سقط الزعيمان الكبيران (لمؤتمر القوى الجديدة) الصادق والترابي في أول امتحان لشعبيتهما.. فبقي حزباهما في المعارضة، بينما قامت الحكومة على ائتلاف بين حزبي الاتحادي الديمقراطي، والأمة، جناح الإمام الهادي، واستمرت الأحزاب الطائفية، في الحكومة والمعارضة، في محاولاتها، عن طريق الجمعية التأسيسية الثانية، إجازة مسودة الدستور الطائفي الذي حلّت الجمعية التأسيسية قبل اجازته. وعن ذلك جاء في الصحافة بتاريخ 8/5/69 (أصدر الحزبان المؤتلفان البيان التالي حول مفاوضاتهم التي تمت مساء أمس الأول بالقصر الجمهوري: -
اتفق الحزبان على أسس الدستور الرئيسية على أن تقدم مسودة الدستور للجمعية في شهر يوليو 1969 بحيث تتمكن الجمعية من اجازته في وقت اقصاه آخر ديسمبر فاذا حان ذلك الوقت ولم تتمكن الجمعية من اجازته في مرحلة القراءة الثانية تعرض المواد الرئيسية التي لم تجز على استفتاء شعبي تكون نتيجته ملزمة وهي:
(إسلامية الدستور أو علمانيته، رئاسية الجمهورية أو برلمانيها، اقليمية الحكم أو مركزيته، وأن يشمل الاستفتاء اية مواد أخرى يتفق على اهميتها حينذاك. والتزم الحزبان على أن يتفاوضا مع الأحزاب والهيئات الأخرى لجمع كلمتها حول هذا المشروع.. والتزما أن يشملا في الاتفاق النقاط اللازمة لضمان حقوق الأقليات والحريات العامة، والحريات الدينية والله ولي التوفيق.
..
وقامت ثورة 25 مايو 1969، فوضعت حدا لمحاولات الأحزاب الطائفية، بالتواطؤ مع الأخوان المسلمين، اجازة ذلك الدستور الذي انتحلت له اسم الإسلام.

رأي الجمهوريين والمثقفين في الدستور الإسلامي المزيف:


وكان الأخوان الجمهوريون قد أعلنوا رأيهم فيه، وقادوا التوعية الشعبية الواسعة بخطله، وأبدوا أشد صور المعارضة له، فقالوا في كتابهم (الدستور الإسلامي؟ نعم!! ولا!!) الصادر في يناير 1968:
ولدى هذا المجتمع الجمهوري فان مشروع الدستور الذي تناقشه الجمعية الآن ليس فقط دستورا مزيفا، بل انه، على التحقيق، أكبر وثيقة تضليل رسمية، "أو تحاول أن تكون رسمية" مني بها هذا الشعب السوداني، منذ أن عرف الاستقلال، أو قل، منذ أن جلا عنه الحاكم الأجنبي، إن أردت الدقة في التعبير.. إذا اصبح هذا المشروع دستورا فان الحزب الجمهوري أول من يعلن عدم احترامه إياه..
.. وجاء في مقدمة (لا إله الا الله)، الذي صدرت طبعته الأولى يوم 25 مايو 1969:
ليس لهذه البلاد دستور غير الدستور الإسلامي ولكن يجب أن نكون واضحين فان الدستور الإسلامي الذي يدعو إليه الدعاة الحاضرون - جبهة الميثاق، والطائفية، وأنصار السنة، والفقهاء – ليس إسلاميا، وإنما هو جهالة تتستر بقداسة الإسلام، وضرره على البلاد محقق، ولكنهم مهزومون بعون الله، وبتوفيقه، ولن يبلغوا بهذه الجهالة طائلا
..!!
وقد عارض مشروع الدستور الطائفي هذا (اللجان التنفيذية لنقابات واتحادات المثقفين والمهنيين) في مذكرتهم التي جاء فيها (جريدة الصحافة يوم 30/1/68):
إن كثيرا من المبادئ الأساسية التي يتضمنها مشروع الدستور هي محل اعتراض كبير من مجموعات الشعب السوداني المختلفة، ولكي يكون الدستور أدنى الى تحقيق رغبات شعبنا وتطلعاته في استقرار الحكم على أساس ديمقراطي سليم يصون مكتسباته ويحدد معالم مسيرته بعد ثورة الحادي والعشرين من اكتوبر الخالدة لا بد من طرح القضايا الكبرى التي يعالجها الدستور على الشعب ليقول كلمته فيها..
وقد وقع على تلك المذكرة: مجلس نقابة المحامين، اللجنة التنفيذية لاتحاد الموظفين والمهنيين، اللجنة التنفيذية لاتحاد المعلمين، اللجنة التنفيذية لاتحاد العمال، مجلس نقابة المهندسين، اللجنة التنفيذية للجمعية الطبية، اللجنة التنفيذية لنقابة الأطباء البيطريين، لجنة اتحاد الإداريين، لجنة اتحاد طلاب جامعة القاهرة فرع الخرطوم، اتحاد الشباب السوداني..