إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

هؤلاء هم الأخوان المسلمون
الجزء الثالث والأخير

الفصل الثالث
مواقف الأخوان المسلمين من معارضة ثورة "مايو"


قامت ثورة 25 مايو 1969 فواجهها تنظيم الأخوان المسلمين، منذ يومها الأول، بالمعارضة والمقاومة، في تحالف تام مع الأحزاب الطائفية التي قطعت هذه الثورة امامها الطريق إلى السلطة.. فأخذ هذا التحالف الطائفي صورة (الجبهة الوطنية) التي دخلت في صدامات دموية ضد ثورة (مايو) طوال عهدها، قبل (المصالحة الوطنية)، مؤخرا..
وعن اشتراك الأخوان المسلمين في (الجبهة الوطنية) جاء في أقوال شاهد الاتهام الأول أمام محكمة أمن الدولة لمحاكمة المتهم الأول محمد نور سعد وآخرين، عقب الغزو الأجنبي على السودان، (الصحافة بتاريخ 31/7/1976) ما يلي:
(وكشف الشاهد ان الجهات التي كانت خلف الغزو هي حزب الأمة بجناحيه والأخوان المسلمون وعناصر من الوطني الاتحادي وعناصر أخرى وهي العناصر التي كونت ما يسمى بالجبهة الوطنية) ... كما جاء في الصحافة بتاريخ 29/8/76: (قدم الاتهام وثائق خطية وتسجيلات هامة وخطيرة لمحكمة أمن الدولة المكونة من قوى التحالف لمحاكمة الصادق المهدي وحسين الهندي وزمرتهما.. كانت الوثيقة الأولى عبارة عن ميثاق ما يسمى بالجبهة الوطنية والذي عثرت عليه قوات الأمن في مكان ما بالجريف داخل مجرى للمياه وكان هذا الميثاق عبارة عن البيان الذي كان المتآمرون ينوون اذاعته إذا نجحوا في تآمرهم) وجاء أيضا:
وكشف البيان المضبوط عن أن قادة الجبهة الوطنية كانوا يعدون لفترة انتقالية قدرها خمس سنوات وتكوين جمعية تأسيسية من 110 توزيعهم كالآتي:
25 للوطني الاتحادي
25 للأمة
25 ميثاق
25 للإقليم الجنوبي
10 للاتجاهات الأخرى

هذه هي الوثائق التي تكشف عن اشتراك الأخوان المسلمين في (الجبهة الوطنية).. ويبرر الأخوان المسلمون، اليوم، معارضتهم لثورة مايو، واشتراكهم في المواجهات الدموية ضدها، باتهام نشأة هذه الثورة بالاتجاه الشيوعي!! غير ان المتتبع للمقومات الفكرية، والممارسات العملية لتنظيم الأخوان المسلمين ليدرك، بغير جهد كبير، أن هذا التنظيم إنما يستهدف احراز السلطة، في كل موقف من مواقفه.. فصراعه مع ثورة (مايو) إنما هو صراع حول السلطة، أولا وأخيرا... ومن هذه المبررات ما ذهب إليه الدكتور الترابي في جريدة الأيام بتاريخ 23/12/77 عقب (المصالحة الوطنية) من قوله: (ولما استعسر على الشيوعية مغالبة القوى الوطنية على مسرح الليبرالية حاولوا تسلق ثورة مايو لسرقة ثمارها وتطويق العناصر الوطنية فيها ليضعوا على الشعب الطاغوت الأحمر، ولكن تدابيرهم انهارت في يوليو بالخسران المبين)!! ولكن الدكتور الترابي لم يفسر، قط، استمرار تنظيمهم في العمل على الاطاحة بنظام (مايو) بعد أن ضرب هذا النظام (الانقلاب الشيوعي) في يوليو 1971، حتى الغزو الاجنبي في يوليو 1976، طوال خمس سنوات!! إن التفسير الوحيد لذلك هو أن تنظيم الأخوان المسلمين، بدافع السعي الى السلطة، قد دخل في تحالف مع الطائفية لا يملك عنه فكاكا.. ولذلك فهو يعارض حين تعارض، ويصالح حين تصالح، وقد ارتبطت مصلحته مع مصلحتها ارتباطا مصيريا، بلغ حد زمالة السلاح!! فحاربوا، فانهزموا، فلما استيأسوا من الوصول الى السلطة عن طريق السلاح، لجأوا لأسلوب آخر، هو هذه المصالحة، واخذوا يلتمسون الاعذار عن تصرفاتهم الماضية، فجاءت هذه الاعذار الكاذبة السخيفة..

اشتراك الأخوان المسلمين في أحداث الجزيرة أبا:


اشترك الأخوان المسلمون مع الطائفية في أول مواجهاتها الدموية ضد ثورة مايو، وذلك في أحداث الجزيرة أبا، اشتراكا فعالا، بالتخطيط، وجلب السلاح، والتدريب، والقتال!! وقد مات أحد كبار زعمائهم، محمد صالح عمر، في تلك الأحداث. ونورد هنا بعض الوثائق حول اشتراك الأخوان المسلمين فيها، كما جاءت في كتاب (المتآمرون) الذي اصدرته شركة الايام للطباعة في يوليو 1970:
(ولعل اصدق تعبير عن هذا التحالف وهذا التنسيق ما ورد في الاعتراف القضائي للمتهم بابكر العوض عبد الله – أحد زعماء الأخوان المسلمين – بتاريخ 13/4/1970 من اتصال محمد صالح عمر به وبآخرين من اعضاء جبهة الميثاق الإسلامي بالسعودية لإقناعهم وتجهيزهم للتسلل للسودان عن طريق اثيوبيا إلى الجزيرة أبا حيث نقطة تجميع اعضاء جبهة الميثاق والأخوان على حد تعبير محمد صالح عمر... فيقول:
(بالقرب من حلة بشير السودانية وصلنا معسكر فيه اسلحة وهناك وجدنا الشريف حسين الهندي ومحمد الفضل (كان مدرس بجدة) واحباش والاسلحة التي كانت موجودة هناك بسيطة وهي حوالي 18-20 ستن، وسلاح تشيكي (F. A) تقريبا ثمانية تسعة وسلاح لضرب الآليات اسمه (R. B. G) منه ستة سبعة، وثمانية تسعة من البراوننق وخمسة برين...) ويمضي ليقول:
(وصلنا المعسكر أنا وعبد المطلب ومحمد صالح عمر ومهدي ابراهيم وهناك تدربنا على السلاح، وشرح لنا واحد اثيوبي طريقة استعمال السلاح... ومحمد صالح عمر كان بدرب الناس على السلاح في الجزيرة أبا، كان في واحد يجيه يقول ليه في جماعة جاهزين للتدريب ويطلع معاه.. كان بدرب معاه ايضا مهدي ابراهيم) وقد جاء اعتراف المتهم الهادي يس مطابقا لهذا الاعتراف.
ومن الوثائق الواردة في هذا الصدد خطاب مصور من محمد صالح عمر الى السيد الهادي يحسن ان نثبته هنا بنصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
سيادة السيد الامام الهادي المهدى
حفظه الله ورعاه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد
الموعد المتفق عليه من الجماعة لوصول العربة وبها مجموعة الأخوان الذاهبين ليهم هو يوم الخميس بعد غد في الساعة الثانية عشر ظهرا، ولذلك فلا بد من قيام العربة غدا حوالى العاشرة صباحا لتبيت في الطريق وتصل في الموعد المحدد ويقابل الاخ عثمان الأخوان الذاهبين من هنا وعدد خمسة من الأخوان لاستبدال الأخوان العائدين من هناك وهم ستة ونرجو ان يكون الشيخ بشرى قد حمل جمال بإذن الله. ولكن احتياطا من أن الشريف ربما لم يصل حتى الآن ولم تحمل الجمال فرأيي ان نشدد عليهم في احضار العدد الموجود من قذائف البازوكا وبقدر ما يستطيع الاثنين حمله لان الحاجة اليها شديدة ويمكن حمل عدد منها كما احضر الاخوة الآتون في الاسبوع الماضي مجموعة من اقسام الـ (R. B. G) ...
المخلص محمد صالح عمر

هذا ما اورده كتاب (المتآمرون) عن اشتراك الأخوان المسلمين في أحداث الجزيرة أبا. وقد راح ضحية تلك الاحداث عدد كبير من المواطنين، من بينهم الانصار، والأخوان المسلمون...
وبرغم مشاركة الأخوان المسلمين الفعالة للطائفية في الصدامات الدموية في أحداث الجزيرة أبا يقول الدكتور الترابي، بعد (المصالحة الوطنية) في جريدة الايام بتاريخ 23/12/1977: (ومهما كان من سياسات اتخذتها مايو ازاء الطائفية فقد انكسرت اليوم شوكتها)!! فهو هنا، بعد (المصالحة الوطنية) إنما يبدو مؤيدا لكسر شوكة الطائفية، وهو في مجال تعديد محاسن ثورة مايو!! وقد عمل تنظيمه، طوال عهد مايو، في صف واحد مع الطائفية، في محاولات متلاحقة، لكسر شوكة مايو!!

اشتراك الأخوان المسلمين
في أحداث شعبان (اغسطس 1973):


وكان الأخوان المسلمون يمثلون رأس الرمح في أحداث شعبان التي قصدت بها (الجبهة الوطنية) افتعال حركة شعبية على غرار ثورة اكتوبر تطيح بنظام مايو!! فقد تولى الأخوان المسلمون إثارة اعمال الفوضى والشغب، والتظاهر والاضراب، عن طريق تحريك الطلاب، وبعض التنظيمات العمالية والفئوية... وذلك وفق مخطط يهدف إلى استقطاب جميع قطاعات الشعب إلى هذه الحركة!! فاستطاع الأخوان المسلمون تحريك طلاب جامعة الخرطوم، وبعض المعاهد، والمدارس للقيام بالمظاهرات، واشعال الحرائق، وتحطيم المنشآت، مما أدى إلى حالة من عدم الاستقرار، والاخلال بالأمن، في البلاد، استمرت أياما.. إلا أن مخطط الأخوان المسلمين قد واجه وعيا شعبيا متصاعدا استطاع أن يدرك ابعاد التآمر، وأن يرفض البديل الجاهز لثورة مايو، وهو الاحزاب الطائفية التي عرفها من قبل، تماما، في الحكومة أو في المعارضة!! فأحبط الشارع السوداني المؤامرة بموقف واضح يتراوح بين درجتي الاستنكار وعدم التجاوب..

اشتراك الأخوان المسلمين
في الغزو الأجنبي في 2 يوليو 1976


اشترك الأخوان المسلمون في جميع اعمال العنف التي قامت بها (الجبهة الوطنية) للإطاحة بنظام مايو.. وعلى رأسها الغزو الأجنبي في يوم 2 يوليو 1976... الذي تم التدريب له، وتمويله، وتسليحه في بلد أجنبي – هو ليبيا – والذي استخدمت فيه أحدث الاسلحة في الفتك بمئات المواطنين، من عسكريين ومدنيين، وفى تحطيم العديد من المنشآت العامة والخاصة مما بلغت خسارته الملايين من الجنيهات.
وعن علاقة الأخوان المسلمين بهذا الغزو كتبت جريدة (الصحافة) في 31/7/1976 تقول: (كشفت اقوال المتهم الاول محمد نور سعد عن علاقة الأخوان المسلمين بعملية الغزو الأجنبي المندحرة اذ ان أحد قادة الأخوان المسلمين يدعى عبد العظيم عبد الله كان على اتصال بالمتهم الاول وقد استلم بواسطة احمد سعد 300 بندقية كلاشنكوف لتسليح جماعة الأخوان المسلمين الذين احتلوا دار الهاتف والمطار)
وجاء في جريدة(الصحافة) بتاريخ 30/8/1976 (واستمعت المحكمة "محكمة امن الدولة بأم درمان" لاعترافات المتهم يس الحاج عابدين موظف سابق بالإرصاد الجوي والتي القت الضوء على دور الأخوان المسلمين في المؤامرة واستعداداتهم التي سبقت التنفيذ، وقال في اعترافاته أن مجموعة من الأخوان المسلمين كانت تقيم قبل تنفيذ المؤامرة في منزل باللاماب بعد ان تم تدريبهم خارج البلاد وانه كان يشارك الى جانب عدد آخر من المتآمرين في اعاشة هذه المجموعة والتي قال انه علم بأنها جزء من الحركة العسكرية ضد النظام)
وأوردت (الصحافة) بتاريخ 31/8/1976 من اعترافات المتهم عبد الرسول النور "معلم منتدب بجامعة الخرطوم ورئيس رابطة طلاب الجبهة الوطنية بالجامعة" قوله إنه (زار القاهرة في طريق عودته من لندن وتوجه في يوم 22/12/1975 إلى طرابلس والتقى هناك للمرة الثانية بالصادق المهدي ومحمود صالح عثمان صالح، الذين شرحوا له موقف الانصار بليبيا وطالبوه بأن يترك امر تحريك الطلاب للإخوان)!!
وجاء في اعترافات قائد الغزو محمد نور سعد ما نشرته جريدة الصحافة بتاريخ 31/7/1976 بقولها: (قال العميل محمد نور سعد في اعترافاته التي تلاها شاهد الاتهام الاول في محكمة امن الدولة بالخرطوم بحري صباح أمس انه كان ينوى اذاعة بيان صباح الجمعة قام بكتابته الصادق المهدى باسم الجبهة الوطنية... وقال إن البيان قد اشتمل على اعلان بقيام مجلس رئاسي يتكون من: الصادق المهدى وحسن الترابي ورئيس الحزب الوطني الاتحادي وممثلين بالأقاليم، وأضاف أنه كان سيقوم بأعباء الحكم لحين وصول قيادات الجبهة الوطنية)..
وجاء في جريدة الصحافة بتاريخ 30/8/1976 ما يلي: (المتهم على محمود يؤكد أمام محكمة أمن الدولة بأم درمان حقيقة التورط الليبي في مؤامرة الغزو...) ومضت الجريدة لتقول:
(وتحدث المتهم عن اجتماعات كان يعقدها بمكتبه في الخرطوم مع بعض قادة حزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي وذلك بغرض تكوين لجنة شعبية يمثل فيها الحزبان المذكوران الى جانب الأخوان المسلمين وذلك لتتولى تنظيم المعارضة داخل السودان)... وقالت الجريدة بتاريخ 31/7/1976 عن شاهد الاتهام الاول في قضية محاكمة المتهم الاول محمد نور سعد وآخرين: (وبين الشاهد كيف كان الاتصال بين المتهم الاول محمد نور سعد وبين بعض قادة الأخوان المسلمين في الداخل)
هكذا تشير أحداث الغزو الأجنبي وآثاره، من وثائقها، الى طبيعة الأخوان المسلمين الاصيلة كتنظيم يسعى إلى السلطة بكل السبل، وعلى رأسها سبيل العنف.. وذلك من غير اعتبار لما يترتب على ذلك من سفك دماء الابرياء من المدنيين والعسكريين، وتخريب المنشآت العامة، والخاصة... مع أنه، في الإسلام (كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله، وعرضه، وأن يظن به ظن السوء) وقد تحدثنا في الباب الاول من هذا الكتاب عن حكمة الجهاد كتشريع مرحلي في الإسلام، وعن النهي عن قتال المسلمين حتى في مرحلة الجهاد الماضية..
وسنتناول موقف الأخوان المسلمين من المصالحة الوطنية على ضوء آثار الغزو الأجنبي، بمزيد من التعليق، عند حديثنا عن تناقضات المواقف السياسية التي يقفها الأخوان المسلمون، أمس واليوم، وذلك في الفصل الاخير من هذا الكتاب..