إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

لا إله إلا الله

بسم الله الرحمن الرحيم
(وذا النون إذ ذهب مغاضباً، فظن أن لن نقدر عليه، فنادى في الظلمات: أن لا إله إلا أنت، سـبحانك، إني كنت من الظالمين)
صدق الله العظيم


مقدمة الطبعة الثانية


هذه مقدمة الطبعة الثانية من كتاب (لا إله إلا الله)، وهو كتاب قد صدر بلغة (الكلام)، في 25 مايو 1969.. وصادف من التوفيق ما استوجب إعادة طبعه الآن.. ثم إن هذا الكتاب، لمّا كان باللغة "الدارجية" فقد أصبح ذيوعه محدوداً بين السودانيين، من أجل ذلك فقد اتجهت النية إلى إخراج طبعته الثانية، بمقدمة طويلة، عن (لا إله إلا الله) باللغة الفصيحة، لعل ذلك يعطى الكتاب حظا من القدرة على الوصول إلى القراء العرب من غير السودانيين..

لا إله إلا الله:


أول ما تجب الإشارة إليه هو أن (لا إله إلا الله) ليست أعظم ما في القرآن، وإنما هي خير ما في القرآن، وذلك لقيمتها "التسليكية" وإنما أعظم ما في القرآن "الله".. ولكن الله ليس إليه من سبيل، إلا سبيل (لا إله إلا الله).. وهذا ما عنيناه بقولنا "لقيمتها التسليكية".. وقول الله تعالى: (قل الله، ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) أعظم من (لا إله إلا الله).. و"قل" هنا معناها "كن"..
فهو قد قال "كن الله" وليس لله، تبارك، وتعالى، صورة، فيكونها، ولا غاية، فيبلغها، وإنما حظ العبد من ذلك أن يكون مستمر التكوين، وذلك بتجديد حياة فكره، وحياة شعوره، تخلقا بأخلاق الله، تبارك، وتعالى.. ويحكيها، في هذا الباب، قوله: "كل يوم هو في شأن"، ثم هو لا يشغله شأن عن شأن.. ثم إن العبد يظل هذا شأنه سرمديا.. هو جديد في كل لحظة.. جديد في فكره، جديد في شعوره، جديد في حياته، يرتقي درجات الكمال، سمتاً فوق سمت.. وبهذا أمر الله، تبارك، وتعالى، حين قال: (كونوا ربّانيين، بما كنتم تعلمون الكتاب، وبما كنتم تدرسون) وأمر المعصوم، حين قال: (تخلقوا بأخلاق الله، إن ربي على سراط مستقيم).. وقوله، تبارك، وتعالى (قل الله، ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) إنما هو أمر واضح، عند العارفين، التخلق بأخلاق الله.. وليست بالقول، عند الله، كرامة، إن لم يصبح "فعلا".. فهو، تبارك، وتعالى، يقول: (يأيها الذين آمنوا!! لم تقولون مالا تفعلون؟ * كبُر، مقتا، عند الله، أن تقولوا مالا تفعلون).. ثم إنه مما لا يحتمل الشك عندنا أن "التوحيد" بلا إله إلا الله إنما هو صفة الموحِّد (بكسر الحاء)، وليس صفة الموحَّد، وذلك لمكان استغناء الموحَّد (الله) عن التوحيد.. فهو قد علم نفسه، وقد وحد نفسه، وقد شهد لها بذلك، فقال، تعالى من قائل: (شهد الله أنه لا إله إلا هو) فلم يبق إلا أن المحتاج للتوحيد هو العبد، وليس الرب..

الله:


هذا هو الاسم الذي به قامت الأسماء، والصفات والافعال.. وهو علمٌ على الذات، وليس معنى هذا أنه اسم لها، وإنما معناه أنه إشارة إليها.. ذلك بأن الذات الساذَج، الصرفة، في حقيقتها أكبر من أن تسمى، وأن توصف، وتقصِّر عن شأوها حتى الإشارة، وإن كان شأن الإشارة معها أعظم من شأن الاسم، وشأن الصفة.. ثم إن الله، تبارك وتعالى، تأذن أن يعرفه خلقه، فقيَّد ذاته، بمحض الفضل، فكان الاسم، وكانت الصفة.. ولولا أنه قيَّد ذاته في مرتبة الاسم بالاسم، وفى مرتبة الصفة بالصفة، وفى مرتبة الفعل بالحركة، لما عُرف.. ولقد جاء الاسم (الله) في مرتبة أول القيد.. ثم جاء يتلوه القيد في مرتبة الصفة، فكانت (الأحدية) من صفة (الأحد).. ثم جاء يتلوها القيد في مرتبة الفعل فكانت (الواحدية)، من صفة (الواحد).. والثالوث المشهور في ذلك ليس: (الله الأحد الواحد) وإنما هو (الله الرحمن الرحيم) وهذه، وتلك، معناها قريب من قريب.. والقيمة العرفانية في الثالوثين هي تقيد الذات الساذَج في مراتب، الاسم، والصفة، والفعل.. وتقيُّد الذات في هذه المراتب إنما هو تنزلات.. فقد تنزلت الذات، من صرافتها، إلى مرتبة الاسم، فسميت (الله)، والى مرتبة الصفة، فوصفت (بالرحمن)، وإلى مرتبة الفعل فوصفت (بالرحيم).. وفى مرتبة الفعل برزت المخلوقات من الذات.. ولقد برزت المخلوقات في ثلاثة عوالم، هي مراتب تنزلات الذات.. العالم الأول عالم الملكوت، وهو عالم الارواح.. والعالم الثاني عالم البرزخ، وهو عالم العقول.. والعالم الثالث هو عالم الملك، وهو عالم الأجساد.. ولقد خلق الله، تبارك، وتعالى، الخلق، في العوالم الثلاثة، بثلاثة ثواليث.. أعنى بثلاث تشكيلات أسمائية، كل تشكيلة مكونة من أسماء ثلاثة.. فأما في عالم الملكوت، فقد جرى الخلق بالثالوث الأعلى، وهو (الله الرحمن الرحيم).. وأما في عالم البرزخ، فقد جرى الخلق بالثالوث الأوسط، وهو (العالم المريد القادر).. وأما في عالم الملك، فقد تم الخلق بالثالوث الأدنى، وهو (الخالق البارئ المصور).. ومعنى الاسم (الخالق) الذي أحاط علماً بمخلوقاته.. ومعنى (البارئ) الذي أعطى الصورة الأولى.. ومعنى (المصور) الذي قلَّب مخلوقاته في الصور المتتالية، صعدا في سلم الترقي، ابتداء من الصور البدائية الأولى، وإلى ما لا نهاية من كمالات الأطوار في سلك التطور..
وهذه العوالم الثلاثة، في نفسها، تشكل ثالوثا، من أعلاه عالم الملكوت ـ عالم الملائكة ـ (عالم الأرواح النورانية) ومن اسفله عالم الملك ـ عالم الابالسة ـ (عالم الارواح الظلمانية) وبينهما، وعند نقطة التقائهما، عالم البرزخ ـ عالم العقول التي ركبت على الأجساد، وكُلِّفت بسياستها ـ وذلك هو عالم الإنسان.. ولقد ورد التفصيل عن هذه العوالم في مقدمة الطبعة الرابعة من كتابنا "رسالة الصلاة" فليراجع في موضعه، فإن فيه لبيانا فيه للمقتصد كفاية، وللمجتهد بداية..
ولقد قلنا إن الاسم (الله) هو علم على الذات، وبه قامت الأسماء.. ولسنا نعنى الأسماء التسعة والتسعين وحدها، فأسماء الله لا حصر لها، ولا عدد، ولا يحصيها إلا الله، لأنه (لا يعرف الله إلا الله).. وبالأسماء معارج السالكين إلى الله.. وكل الخلائق سالك إلى الله، ومالهم من ذلك بد.. قال تعالى: (يأيها الإنسان، إنك كادح إلى ربك كدحا، فملاقيه).. أردت، أو لم ترد، فإنه ما من الله بد.. ولا تكون ملاقاة الله في المكان ولا في الزمان.. وإنما تكون بتقريب صفات العبد من صفات الرب.. وهذه هي قيمة الأسماء، والصفات، التي وصف الله، تبارك، وتعالى، بها نفسه وجعل لنا فيها مشاركة.. فلولا أنه وصف نفسه لما عرفناه، ولولا أنه، إذ وصف نفسه، جعل لنا في هذه الصفات، معه مشاركة لما عرفناه.. فله الحمد في الآخرة والأولى..
قال تعالى في ذلك: (يسأله من في السموات والأرض، كل يوم هو في شأن).. قوله (يسأله) يعنى يطلبه بالحاجة اليه.. قوله (من في السموات والأرض) يعنى العقلاء، وغير العقلاء، بما في ذلك مادة السموات، والأرض.. فأما العقلاء، فيسألونه، تعالى، بلسان المقال، وبلسان الحال، معاً.. وأما غير العقلاء فيسألونه بلسان الحال، وحده.. وإنما كان الأمر كذلك لأنه لا غنى لشيء عنه، إذ به قيومية كل مخلوق.. فلولا هذه القيومية لمَا وجد مخلوق، في المكان الأول، ولما تماسك له كيان، في المكان الثاني.. وفى هذا المعنى جاء قوله، تعالى، في موضع آخر: (تسبح له السموات السبع، والأرض، ومن فيهن.. وإن من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم.. إنه كان حليما غفورا)..
قوله تعالى: (كل يوم هو في شأن) يعنى، بهذا الشأن، إبداء ذاته لمخلوقاته في مستوى حاجتهم إليه، فإنه، تبارك، وتعالى، أودع الحاجة إليه في النفوس فكان السؤال، وتبعت السؤال الاستجابة.. فهذه، وتلك، هي الشأن.. وليس اليوم هو أربعاً وعشرين ساعة، كما هو المألوف، وإنما هو "زمنية" إبداء الذات للمخلوقات وهي "زمنية" تتناهى في الصغر حتى تخرج عن أن تكون زماناً.. قال تعالى في أمر حاجتنا إليه: (يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغنى الحميد) وفى الشعور بالحاجة إليه معرفة، وفى الغفلة عن هذا الشعور جهل.. ولقد ذمَّ الله ذلك منا، فقال، تبارك من قائل: (كلا!!إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى).. "يطغى" يعنى يجهل قدر نفسه فيتعدى حده، ويتورط في الهلكة.. والإنسان لا يمكنه أن يستغني عن الله، ولكن الغفلة توهمه، وتسوقه إلى أن يظن بنفسه الاستغناء، ومن أجل هذا جاءت العبارة عنه بقوله تعالى: (أن رآه استغنى).. وقد جعل الله حاجة عبيده الذين يحبهم حاضرة، دائماً، وماثلة بين أعينهم، ومن ذلك أنه لم يمد لهم في الغنى، وإنما جعل "درشتهم"، في كل يوم، من مخزنه هو، لا من مخازنهم هم.. ومن أجل ذلك أوصى نبيه، وحبيبه: (ويسألونك ماذا ينفقون؟ قل العفو!!).. وقد كانت هذه شريعته في خاصة نفسه، وقد فهم "العفو" على أنه ما زاد عن قوت اليوم، فهو، بذلك، لم يكن ينتظر قوت غده من مخزونه هو، وإنما كان ينتظره من خزائن ربه.. وكان يقول: (اللهم اجعل قوت آل محمد الكفاف).. وقد كان ذلك منه طلباً للحاجة، إلى الله، الدائمة، التي تحارب الغفلة عنه، فلا يتوهم الاستغناء بالمخزون عنده عن المخزون في خزائن ربه.. ولقد تحدثنا، في متن هذا الكتاب، عن التوحيد، وأمر التوحيد فليراجع في موضعه..

الله والأسماء:


الذي يهمنا في هذا المقام أن الاسم (الله) هو متعلَّق أسماء الله، وأسماء الله لا يحصيها إلا الله، لفرط كثرتها.. وتلك كثرة مطلقة.. وهي، من الناحية العملية، وفى البداهة المعاشة، تمثِّل حاجة كل محتاج، وعلى حسب مستوى ذلك المحتاج، وفى كل لحظة من لحظات نومه، أو يقظته، في أنفاسه الصاعدة، والهابطة.. وقد لا نكون نحن شاعرين بهذه الحاجة إلا شعوراً ضعيفاً.. وحتى هذا الشعور الضعيف، إنما يكون منا في أحسن حالاتنا الفكرية ولكنه، بمحض فضله، يسلِّط علينا من المصائب ما يُعجز حيلتنا، ويشعرنا بالحاجة إليه بصورة ملحة، وملجئة، نلجأ إليه كل حين، ونلتصق به حيث أمكن، ونسأله، بلسان حالنا وبلسان مقالنا ــ نسأله بِكُلِّيَتِنا وعندها يستجيب لدعائنا، وتقع منا المعرفة به.. وما من صاحب حاجة، إلا ويدعو الله من حيث حاجته.. فالغريق، إذا قال يا الله! فكأنما قال: يا منقذ، لأن حاجته إنما هي إلى الإنقاذ، ويجيبه الله من حيث اسمه المنقذ.. والمريض، إذا قال: يا الله! فكأنما قال: يا شافي، لأن حاجته إنما هي إلى الشفاء، ويجيبه الله من حيث اسمه الشافي.. والجائع، إذا قال: يا الله! فكأنما قال يا مطعم، لأن حاجته إنما هي إلى الطعام، ويجيبه الله من حيث اسمه المطعم.. والمهزوم، إذا قال: يا الله! فكأنما قال: يا ناصر، لأن حاجته إنما هي للنصرة، ويجيبه الله من حيث اسمه الناصر.. وهكذا إلى مالا نهاية له، لأن حاجات الحي لا تتناهى واسم الله الذي يهمه هو ما يقضى حاجته المباشرة، ومن تلك الحاجة ينبع، وإليها يعود.. وبهذا المعنى يكون الاسم (الله) متعلَّق الأسماء كلها، وتكون الأسماء غير متناهية، على الإطلاق.. ذلك بأنها على قدر حاجات النفوس إلى الله، وتلك حاجات تقع على مراتب أربع: حاجات المعدات، وحاجات الأجساد، وحاجات العقول، وحاجات القلوب.. وكل مرتبة، من هذه المراتب الأربع، تتوجه بسؤالها إلى حضرة من الحضرات الإلهية.. فحاجات المعدات، وهي أول، وأبسط حاجات الأحياء، تتوجه بسؤالها إلى حضرة الفعل الإلهي، وذلك لأن حضرة الفعل الإلهي أدنى تنزلات الذات الإلهية من المخلوقات.. وحاجات الأجساد تتوجه بسؤالها إلى حضرة الصفة الإلهية.. وحاجات العقول تتوجه بسؤالها إلى حضرة الاسم الإلهي.. وحاجات القلوب تتوجه بسؤالها إلى حضرة الذات الإلهية.. وحضرة الذات الإلهية حضرة إطلاق.. وكذلك حاجات القلوب، فهي لا تحصى، ولا تتناهى، ومن أجل ذلك توجهت إلى الإطلاق، فهو يسعها وهي تسعه.. قال تعالى في ذلك: (ما وسعني أرضي، ولا سمائي، وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن)..

الله والإنسان الكامل:


لقد أشرنا آنفا إلى أن ذات الله أكبر من أن تسمى، وأن توصف، وأن تعرف.. ولولا أنها تقيَّدت لما عُرفت، وهي، إذ تقيّدت، إنما تقيَّدت بمدارك عقولنا نحن.. ومن ههنا قامت قرينة الشبه بيننا وبينه، فنحن نشبهه، ولولا هذا الشبه لما عرفناه.. قال المعصوم: (إن الله خلق آدم على صورته).. والمهم هنا ليس الصورة الحسية، وإنما المقصود أن الله حيٌ، وعالم، ومريد، وقادر، وسميع، وبصير، ومتكلم.. وكذلك خلق آدم حيا، وعالما، ومريدا، وقادرا، وسميعا، وبصيرا، ومتكلما.. فصفاتنا صفاته، غير أن صفاته في مطلق الكمال، وصفاتنا في طرف النقص.. وإنما شرعت الشرائع، وفرضت الفرائض، لتكون لنا منهاجا للسير اليه، والقرب منه، ولملاقاته.. وليس سيرنا إلى الله بقطع المسافات، وإنما هو بتقريب الصفات من الصفات.. هذا هو معنى قول المعصوم:(تخلقوا بأخلاق الله، إن ربي على سراط مستقيم)..
لقد كانت الذات في الإطلاق، ولم يكن لها من سبيل.. فلما أرادت أن تعرف تقيَّدت، وإنما كان أدنى منازل تقيُّدها من منزلة الإطلاق مرتبة الاسم (الله)، كما سلفت إلى ذلك الإشارة.. ومعنى تقيُّدها في مرتبة الاسم ظهور أول قابل لتجلي المطلق.. وهذا هو (الحقيقة المحمدية).. والحقيقة المحمدية هي مرتبة (الولاية الأحمدية).. وهذه فوق مرتبة (النبوة الأحمدية).. فالولاية (الأحمدية) مرتبة الذات الحديثة، في مقابلة الذات القديمة.. وهي مقام (الوسيلة) الذي يقوم بين الذات الساذَج، وبين جميع المخلوقات، وليس بينه وبين الذات أحد وهذا إنما هو الإنسان الكامل، وجميع أسماء الله الحسنى، وصفاته، في حقه هو، بالمكان الأول، وهي لا تكون في حق الذات الساذَج إلا بمقام الإشارة، وذلك بعد أن تنقطع العبارة، وتنبهم المعاني، وبعد أن يقع عجز العقول عن الإدراك..
ومقام (الولاية الأحمدية) هو المقام الذي منه استمدت جميع الرسالات، والولايات، أنوارها.. وهذا المقام لا يزال يقرب من الأرض، كلما تهيأت الأرض له، بفضل أنوار الرسالات، وأنوار الولايات، التي أشعل الله سُرجَها في قلوب الذين أوتوا العلم ليعدُّوا الأرض لتلتحق بأسباب السماء.. وسيستقر مقام الولاية الأحمدية في الأرض بمجيء المسيح، الذي هو موعود الله بملئها عدلا، كما ملئت ظلماً، وجوراً..

الإله:


قولك (الله) ليس كقولك (الإله).. فالله واحد لكن (الإله) ليس واحدا، وإنما الآلهة كثر، وهذا ما جعل بعض العلماء يقولون في معنى (لا إله إلا الله): (لا معبود بحق إلا الله) وهذا القول يحوي في عبارته معنى أن هناك آلهة كثيرة تعبد من دون الله، ومع الله، ولكن عبادتها باطلة، وليس هناك معبود بحق غير (الله).. ولدى الدقة في النظر إلى القيمة (السلوكية) في الكلمة: (لا إله إلا الله) فإن هذا المعنى المألوف، المتداول بين علماء الدين، لا قيمة له..
فما هو المعنى الذي يكفل تمام القيمة (السلوكية)، إذن؟؟ اسمعوا!! (الإله) هو تنزل (الله) إلى مرتبة (الفعل) وهي المرتبة (الثالثة) من الثالوث الأسمائي.. ولقد سلفت الإشارة إلى ذلك في هذه المقدمة.. فاذا كان الثالوث الأسمائي المعتبر هو (الله، الرحمن، الرحيم) فإن (الإله) في مرتبة (الرحيم).. وإذا كان الثالوث الأسمائي هو (العالم، المريد، القادر) فإن (الإله) في مرتبة (القادر).. وإذا كان الثالوث الأسمائي هو (الخالق، البارئ، المصوّر) فإن (الإله) في مرتبة (المصوّر).. هذا في الوقت الذي لا يكون فيه (الله) إلا في المرتبة (الأولى) من أي من ثلاث التشكيلات اعتبرت.. ومرتبة (الفعل) هذه تقع على مستويين: مستوى الأفعال الكبيرة التي لا يستطيع أي مخلوق ادِّعاء أي مشاركة فيها، كخلق السموات والأرض، مثلا.. ومستوى الأفعال الصغيرة التي يخيل للمخلوق أن له فيها مشاركة، بل قد يُخيَّل إليه أنه مستقلٌّ بها، مثل كسب الرزق من التجارة، والزراعة، مثلا.. فأما الأفعال الكبيرة، والحالة كما ذكرنا، فإن الله غير مُنازَع فيها، وكل العقلاء يسلِّمون له بها.. وهذا المستوى من مستويات (الفعل) هو أيضا مرتبة (الله).. وهناك مستوى الأفعال الصغيرة، وهذه الله مُنازَعٌ فيها، وأكثر العقلاء لا يسلِّمون له بها، وهذا المستوى من مستويات (الفعل) هو مرتبة (الإله).. أو قل: مرتبة (الله) متنزلاً إلى مرتبة (الفعل) كما أسلفنا القول، قبل قليل.. فكأن (الله) غير مُنازَع، لكن (الإله) مُنازَع.. ومن ههنا جاء تعدد الإلهة.. وإلى هذه اللطيفة، من لطائف العلم، أشار، تبارك، وتعالى، حين قال: (وكأيِّن من دابة لا تحمل رزقها، الله يرزقها وإياكم، وهو السميع العليم * ولئن سألتهم من خلق السموات، والأرض، وسخر الشمس، والقمر، ليقولن: الله، فأنى يؤفكون؟؟ * الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده، ويقدر له، إن الله بكل شيء عليم).. هذه ثلاث آيات، بدأها بالرزق، وختمها بالرزق، ودسَّ بينهما آية تتحدث عن خلق السموات، والأرض.. فكأنه قال: إذا سئلتم عمَّن خلق السموات، والأرض، فإنكم تجيبون: (الله).. وليس معنى هذا أنكم موحدون وإنما معناه أنكم تشعرون باستحالة نسبة هذا الفعل الكبير إلى أي مخلوق من أنفسكم، أو ممن تعلمون.. ولكن إذا سئلتم: من يرزقكم؟؟ تجيبون، بلسان الحال، وربما بلسان المقال أيضا: (كدُّنا، واجتهادنا!!) وذلك لأنه يقوم في وهمكم، لطول الإلفة في الأخذ بالأسباب، أن هذه الأفعال الصغيرة لا يفعلها الله، وإنما يفعلها المخلوق مثلكم، وذلك لصغر شأنها، في نظركم، إذا ما قورنت بخلق السموات، والأرض.. وهذا هو عين الشرك.. فمن أراد التوحيد فعليه أن يعلم أن فاعل الأشياء الكبيرة هو عينه فاعل الأشياء الصغيرة: (الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده، ويقدر له، إن الله بكل شيء عليم).. هذا هو التوحيد.. ومن أجل هذا فإن (لا إله إلا الله) ليس معناها: (لا معبود بحق إلا الله) وإنما معناها: (فاعل الأشياء الصغيرة هو بعينه فاعل الأشياء الكبيرة) قال تعالى في ذلك: (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه، فتشابه الخلق عليهم؟؟ قل الله خالق كل شيء، وهو الواحد القهار!!) وهذه درجة من أعظم درجات التوحيد ـ درجة (وحدة الفاعل) ـوهي روح التوحيد، وجوهره، وأصله.. وهي معنى (لا إله إلا الله)..
وما دمنا بصدد الأفعال الصغيرة، والأفعال الكبيرة، فإن إيراد الآية التي حكت قصة إبراهيم الخليل مع النمرود له فائدة عظمى.. قال تعالى في قصتهما (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه، أن آتاه الله الملك، إذ قال إبراهيم: ربي الذي يحيي، ويميت.. قال: أنا أحيي، وأميت.. قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب.. فبهت الذي كفر.. والله لا يهدي القوم الظالمين) ذلك بأن هذه الآية شديدة الدلالة على ما ذهبنا إليه من دعوى المشاركة في الأفعال الصغيرة، مع انقطاع هذه الدعوى عند الأفعال الكبيرة.. والآيات التي تسوق الحجج في هذا الصدد لتقرر أن الفاعل واحد كثيرة، وهي أصل القرآن، ذلك بأن القرآن إنما هو موظف لتجويد (لا إله إلا الله) وهو بذلك كتاب (تسليك) من متاهات البعد، إلى سرادقات القدس.. ومن أمثال تلك الآيات قوله تعالى: (أم خلقوا من غير شيء؟؟ أم هم الخالقون؟؟* أم خلقوا السموات والأرض؟؟ بل لا يوقنون* أم عندهم خزائن ربك؟؟ أم هم المسيطرون؟؟) يعنى (المسيطرون) على الأرزاق.. ثم يمضي السياق من سورة (الطور) إلى أن يقول: (أم لهم إله غير الله؟؟ سبحان الله عما يشركون!!) وهذه شديدة الدلالة على أن وهم نسبة الأفعال الصغيرة لغير الله وهم شائع، وهو وهم شديد الضرر بالعقول، وبالأخلاق.. والموحد يوقن أن (إلهه) هو (الله).. وذلك لا يتم إلا بتجويد (وحدة الفاعل)..
خلاصة القول: إن الناس لم ينكروا (الله)وإنما أنكروا (الإله).. والموحِّدون، المجوِّدون للكلمة: (لا إله إلا الله) لا يزال لهم (إله) غير (الله) ولن ينفك، ذلك بأن تجويد (لا إله إلا الله) هو مضمار السلوك السرمدي، ولا يستطيع أن يحققها، حق تحقيقها، غير الله، وذلك في مقام شهادته لنفسه بها: (شهد الله أنه لا إله إلا هو)..

لا إله إلا الله:


قلنا إن (لا إله إلا الله) تعني لا فاعل، لكبير الأشياء، ولا لصغيرها، غير الله.. تعنى أن الذي خلق السموات، والأرض، هو، نفسه، الذي يرزق عباده في السموات، والأرض، ويرزقهم بغير أسباب، إذا جوَّدوا التخلق بلا إله إلا الله.. قال تعالى في ذلك: (وأمر أهلك بالصلاة، واصطبر عليها، لا نسألك رزقا، نحن نرزقك، والعاقبة للتقوى).. ففي المقامات الصغيرة سبب الرزق الزراعة، أو التجارة، أو الصناعة.. لكن في مقامات القرب الكبيرة فإن سبب الرزق هو معرفة الله، وعبر عنها بالتقوى.. و(لا إله إلا الله) هي كلمة التقوى التي أشار اليها في قوله تعالى: (اذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحِمية، حِمية الجاهلية، فأنزل الله سكينته على رسوله، وعلى المؤمنين، وألزمهم كلمة التقوى، وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما)..
و(لا إله إلا الله) هي الكلم الطيب، الذي يصعد إلى الله، ولا يحجبه حجاب.. وهي المقصودة من قوله تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه) وأصلح العمل الصالح هو الإنسان الكامل.. ومن أجل ذلك فإن (لا إله إلا الله) هي كلمة (الله).. والإنسان الكامل هو كلمة (الله)..
وكلمة: (لا إله إلا الله) هي الشجرة الطيبة، الواردة في القرآن، وذلك حيث يقول: (ألم تر كيف ضرب الله مثلا، كلمة طيبة كشجرة طيبة، أصلها ثابت، وفرعها في السماء * تؤتى أكلها، كل حين، بإذن ربها؟؟ ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون)..
ومعنى قوله (أصلها ثابت) أن جميع ذرات عناصر الأرض تنادي بها، بصوت يسمعه أرباب القلوب، وهذا النداء هو معنى تسبيحها في قوله تبارك وتعالى: (تسبح له السموات السبع، والأرض، ومن فيهن.. وإن من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم.. إنه كان حليما غفورا) وهذا التسبيح هو توحيد العناصر بلسان حالها، لافتقارها إلى الله، إذ به تعالى قيوميتها، بدون أدنى لبس، وبدون أدنى ريب..
ومن معنى قوله: (أصلها ثابت) أنها قيلت في الأرض، منذ بدء الرسالات، السماويات، إلى الأرض.. ولقد قال المعصوم عن ذلك: (خير ما جئت به أنا، والنبيون من قبلي "لا إله إلا الله") وكان قوله هذا أخذاً من قوله تعالى: (ولله ما في السموات، وما في الأرض، ولقد وصَّينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، وإياكم، أن اتقوا الله، وإن تكفروا فإن لله ما في السموات، وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا).. والذي وصَّى به إنما هو: (أن اتقوا الله) وهذه معناها قولوا: (لا إله إلا الله) وافعلوا بمقتضاها في حالكم.. ومن معنى قوله: (أصلها ثابت)، شهادة (محمد رسول الله) مقرونة مع شهادة (لا إله إلا الله) في شهادة الملة.. فإنه (بمحمد) حصل التثبيت في الأرض..
وأما معنى قوله: (وفرعها في السماء) فهو أنه لانهاية لها، فتبلغ.. وقد علم أرباب القلوب أن سير العوالم كلها إلى الله إنما هو بكلمة (لا إله إلا الله).. به يسير إلى الله أهل النار، في النار.. وبها يسير أهل الجنة، في الجنة، ونهايتها عند الله، في إطلاقه، والسير في معارجها، إذن، إنما هو سير سرمدي.. ويكفي في هذا قوله، تبارك، وتعالى، عنها: (شهد الله أنه لا إله إلا هو، والملائكة، وأولو العلم، قائما بالقسط، لا إله إلا هو، العزيز الحكيم).. وبين شهادتنا له بالتوحيد في الأرض، وهو قولنا (لا إله إلا الله)، وبين شهادته لنفسه بالتوحيد من فوق سبع سموات، وهو قوله تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو) يقع سير الموحِّدين، وسلوك السالكين.. والثمرة عنده هو، دائما، وإنما تلتمس بالإخلاص.. وهذا معنى قوله تعالى: (وفرعها في السماء، تؤتى أكلها، كل حين، بأذن ربها..

أربع صيغ للتوحيد:


وهناك أربع صيغ وردت في القرآن، وهي: (لا إله إلا الله) وذلك من قوله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله، واستغفر لذنبك، وللمؤمنين، والمؤمنات، والله يعلم متقلبكم، ومثواكم..).. ثم (لا إله إلا أنت) وذلك من قوله تعالى، عن لسان يونس بن متى: (وذا النون، إذ ذهب مغاضبا، فظن أن لن نقدر عليه، فنادى في الظلمات: أن لا إله إلا أنت، سبحانك، إني كنت من الظالمين).. ثم: (لا إله إلا أنا).. وذلك من قوله تعالى: (إنني انا الله، لا إله إلا أنا.. فاعبدني، وأقم الصلاة لذكري).. ثم: (لا إله إلا هو) وذلك أخذاً من قوله تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو، والملائكة، وأولو العلم، قائما بالقسط، لا إله إلا هو العزيز الحكيم)..
فأما (لا إله إلا الله) فإنها الصيغة الاساسية، والشائعة.. وهي أعم، وأشمل، وفيها سعة لمن يقولها بلسانه، وهو غافل، ولمن يقولها بلسانه، وهو حاضر.. وذاكرها مأجور، وان كان غافلا حين ذكرها، ما دام مؤمنا بها.. ويرجى له أن يحضر في ذكرها ببركتها..
وأما (لا إله إلا انت) فهي صيغة خاصة، ومجرد لفظها يشعر قائلها بأنه أمام مخاطبٍ حاضر.. وهذا يوجب عليه ذكرها بحضور، وإقبال.. ولقد قيلت في حالة خلوة ليس فيها سعة للغفلة.. وهي، إذا قيلت في حالة ضيق تشبه حالة صاحبها حين قالها، أو قيلت في حالة معرفة بالله توجب الحضور معه، وتحارب الغفلة عنه، فإنها اسم الله (الأعظم).. وتحقيق العبودية بها أقرب من تحقيقها بأيٍ من الصيغ الأربع، التي وردت الإشارة إليها..
وأما (لا إله إلا أنا) فهي صيغة أشد خصوصية من جميع الصيغ، وهي قد وردت عن لسان الحق، ومن يذكرها يجب أن يستشعر العظمة الساحقة، الماحقة، التي عنها صدرت، لأنه إنما يسمعها عن لسان الحق، ولتوِّها.. فإن كان، عند ذكرها، أو سماعها، غافلا، فليعلم أنه من المطرودين عن الحضرة القدسية..
وأما (لا إله إلا هو) فهي أرحب الصيغ، وأوسعها، لأنها مفتوحة على الإطلاق.. وهي، من ثمّ، أكثر ورودا في القرآن من جميع الصيغ.. وقد وردت فيها الهاء نائبة عن الاسم (الله).. وهذه الهاء هو الحرف الأخير من الحروف الأربعة التي تكوِّن الاسم العظيم (الله).. فإنه وارد أنك إذا حذفت من هذا الاسم الحرف الاول بقي (لله)، وإذا حذفت الحرف الثاني بقي (له)، وإذا حذفت الحرف الثالث بقي (هو).. وإنما جاء الواو في (هو) من إشباع (حركة) الضمة التي كانت في الأصل حركة الهاء في الاسم ذي أربع الأحرف (الله).. وإنما اُشبعت حركة الضمة لتصير واواً ليكون النطق بالهاء، وحدها، ممكنا، وميسورا.. ومن الخطأ الشائع ظن الناس أن (هو) إنما هو ضمير الغائب، المذكر، المفرد.. وهذا الخطأ يحرم من البركات، الزائدات، التي تترتب على الذكر عن معرفة بحقيقة الأمر، وهو أن (هو) إنما هو الحرف الرابع من الحروف الأربعة المكونة للاسم العظيم (الله)، وهي، لكونها حرفاً، فإن معناها في غيرها، وقد أصبحت، لذلك، أدخل في باب الإشارة منها في باب العبارة.. والإشارة أبلغ، في الدلالة على الإطلاق، من العبارة.. وهذا هو السر في أن القرآن تناهى إلى الإشارة، بعد أن ضاقت عنه العبارة، فجاءت أحرف الهجاء في أوائل تسع وعشرين سورة من سوره.. وهي إنما جاءت لتقول إن حقيقة القرآن فوق العبارة، وهي أيضا فوق الإشارة.. لأن الإشارة إنما معناها في غيرها..

خاتمة:


أما بعد فهذا حديث يطول، وليس له ههنا مجال، أكثر مما جرى، واتَّفق، لأن هذه مقدمة لكتاب قديم.. وستكون لنا، إلى الكتابة عن (لا إله إلا الله)، عودة، عما قريب، إن شاء الله.. والله ولى التوفيق، ورائد السداد، وعليه التكلان..