إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

لا إله إلا الله

بسم الله الرحمن الرحيم
(شهد الله أنه لا إله إلا هو)
صدق الله العظيم


المقدمة:


أما بعد فهذا كتيب يصدر عن (لا إله إلا الله).. وهو عبارة عن متن محاضرة ألقيت بنادي المهدية الثقافي، بالحارة الأولى.. ولقد كانت تلك المحاضرة مسجلة على شريط فكتبت عن الشريط كما وردت، بلغة الكلام..
ومما شجع على طبع هذه المحاضرة في كتيب أمران: أولهما أننا نعيش اليوم في فجر بعث إسلامي صادق، ستكون من جرائه ثورة فكرية تعيد ثورة أكتوبر من جديد، على صعيد فكري.. وثانيهما أن المحاولة الآن على أشدها لوضع دستور السودان الدائم..

ثورة أكتوبر:


إن ثورة أكتوبر ثورة فريدة في التاريخ، وهي لم تجد تقويمها الصحيح إلى الآن، لأنها لا تزال قريبة عهد، فلم تدخل التاريخ بالقدر الكافي الذي يجعل تقويمها تقويما علميا ممكنا.. ولقد يكفي أن يقال الآن إنها ثورة فريدة في التاريخ المعاصر تمكن بها شعب أعزل من إسقاط نظام عسكري استأثر بالسلطة مدى ست سنوات.. ثم كانت ثورة بيضاء، لم تُرق فيها الدماء.. وكانت، إلى ذلك، ثورة بغير قائد، ولا مخطط، وبغير خطباء، ولا محمسين للجماهير وتم فيها إجماع الشعب السوداني، رجالا، ونساء، وأطفالا، بشكل منقطع النظير، فلكأنها ثورة كل فرد، من أفراد الشعب، تهمه بصورة مباشرة، وشخصية.. ولقد كانت قوة هذه الثورة في قوة الإجماع الذي قيَّضه الله لها.. ولقد كان من جراء قوة هذا الإجماع، ومن فجاءة ظهوره، أن انشلَّ تفكير العساكر فلم يلجأوا إلى استعمال السلاح، مما قد يفشل الثورة، أو يجعلها، إن نجحت، تنجح على أشلاء ضحايا كثيرين..
وعندنا إن أكبر قيمة لثورة أكتوبر أن الشعب السوداني استطاع بها أن يدلل على خطأ أساسي في التفكير الماركسي، مما ورد في عبارة من أهم عبارات كارل ماركس، في فلسفته، فيما عرف (بالمادية التاريخية).. وتلك العبارة هي قوله: (العنف، والقوة، هما الوسيلتان، الوحيدتان، لتحقيق أي تغيير أساسي في المجتمع) فما برهنت عليه ثورة أكتوبر هو أن القوة ضرورية للتغيير، ولكن العنف ليس ضروريا.. بل إن القوة المستحصدة، التامة، تلغي العنف تماما.. فصاحبها في غنى عن استخدام العنف، وخصمها مصروف عن استخدام العنف بما يظهر له من عدم جدواه، وحين تنفصل القوة عن العنف يفتح الباب للبشرية لتفهم معنى جديدا من معاني القوة، وتلك هي القوة التي تقوم على وحدة الفكر، ووحدة الشعور، بين الناس، بعد أن لبثت البشرية في طوال الحقب لا تعرف من القوة إلا ما يقوم على قوة الساعد، وقوة البأس.. ومفهوم القوة، بهذا المعنى الأخير، هو تراث البشرية من عهد الغابة.. عهد الأنياب الزرق، والمخالب الحمر.. وهذا المفهوم هو الذي ضلل كارل ماركس، فاعتقد أن مستقبل البشرية سيكون صورة لامتداد ماضيها، وغاب عنه أن العنف سيفارق القوة، بالضرورة، في مستقبل تطور الإنسان، حين يصبح الحق هو القوة..
ومهما يكن من الأمر، فإن شعب السودان، في ثورة أكتوبر، قد كان قوياً بوحدته العاطفية الرائعة، قوة أغنته هو عن استخدام العنف، وشلَّت يد خصومه عن استخدام العنف.. وتمّ بذلك إلغاء العنف من معادلة التغيير الماركسي.. إذ قد تم التغيير بالقوة بغير عنف.. وهذا، في حد ذاته، عمل عظيم وجليل..
وثورة أكتوبر ثورة لم تكتمل بعد.. وإنما هي تقع في مرحلتين.. نفذت منهما المرحلة الأولى، ولا تزال المرحلة الثانية تنتظر ميقاتها.. المرحلة الأولى من ثورة أكتوبر كانت مرحلة العاطفة المتسامية، التي جمعت الشعب على إرادة التغيير، وكراهية الفساد، ولكنها لم تكن تملك، مع إرادة التغيير، فكرة التغيير، حتى تستطيع أن تبني الصلاح، بعد إزالة الفساد.. من أجل ذلك انفرط عقد الوحدة بُعيد إزالة الفساد، وأمكن للأحزاب السلفية أن تفرق الشعب، وأن تضلل سعيه، حتى وأدت أهداف ثورة أكتوبر تحت ركام من الرماد، مع مضي الزمن.. وما كان للأحزاب السلفية أن تبلغ ما أرادت لولا أن الثوار قد بدا لهم أن مهمتهم قد أنجزت بمجرد زوال الحكم العسكري، وأن وحدة صفهم، قد استنفدت أغراضها..
والمرحلة الثانية من ثورة أكتوبر هي مرحلة الفكر المستحصد، العاصف، الذي يتسامى بإرادة التغيير إلى المستوى الذي يملك معه المعرفة بطريقة التغيير.. وهذه تعني هدم الفساد القائم، ثم بناء الصلاح مكان الفساد.. وهي ما نسميه بالثورة الفكرية.. فإن ثورة أكتوبر لم تمت، ولا تزال نارها تضطرم، ولكن غطى عليها ركام من الرماد.. فنحن نريد أن تتولى رياح الفكر العاصف بعثرة هذا الرماد.. حتى يتسعر ضرام أكتوبر من جديد، فتحرق نارها الفساد، ويهدي نورها خطوات الصلاح.. وليس عندنا من سبيل إلى هذه الثورة الفكرية العاصفة غير بعث الكلمة: " لا إله إلا الله" جديدة، دافئة، خلاقة في صدور النساء، والرجال، كما كانت أول العهد بها، في القرن السابع الميلادي..

دستور السودان الدائم


ليس لهذه البلاد دستور غير الدستور الإسلامي.. ولكن يجب أن نكون واضحين، فإن الدستور الإسلامي الذي يدعو إليه الدعاة الحاضرون - جبهة الميثاق، والطائفية، وأنصار السنة، والفقهاء – ليس إسلاميا، وإنما هو جهالة تتستر بقداسة الإسلام.. وضرره على البلاد محقق، ولكنهم مهزومون، بعون الله وبتوفيقه.. ولن يبلغوا بهذه الجهالة طائلا.. وهم يلتمسون الدستور الإسلامي في الشريعة الإسلامية، وما في الشريعة الإسلامية دستور، وإنما الدستور في القرآن.. فإنّ كل من أوتي بصرا بحقائق الدين، وحقائق الدستور، يعلم أن الشريعة الإسلامية لا تحوي حقوقا أساسية يقوم عليها الدستور، فهي لم تكن في عهد ديمقراطي، وإنما كانت في عهد القصور الذي استلزم وصاية من الرشيد – المعصوم – على الأمة المؤمنة، القاصرة عن شأو الحكم الديمقراطي.. وهذا العهد هو عهد الشورى.. ودعاة الدستور الإسلامي هؤلاء يقولون إن حكم الإسلام حكم الشورى، وهم يريدون الديمقراطية، وليست الشورى حكما ديمقراطيا، وإنما هو حكم الوصي الرشيد على القصر.. فهو مأمور بمشاورتهم، ولكنه يملك حق المخالفة حين يرى رأيا غير رأيهم.. وذلك أمر بديهي، فإن رأي القاصر لا يمكن، عقلا، أن يكون ملزما للرشيد..
ليس في الشريعة الإسلامية، في أمر السياسة، غير الوصاية وليس فيها، في المال، اشتراكية، وليس فيها مساواة، بين الرجال والنساء، وعلى هذه الثلاث: - الديمقراطية، والاشتراكية، والمساواة بين الرجال والنساء – تقوم الحقوق الأساسية التي هي روح الدستور.. فالدستور موجود في القرآن، ولكنه غير موجود في الشريعة الإسلامية.. والقرآن يحتاج لفهم جديد يبعث أصوله التي كانت فيما مضى منسوخة بفروعه.. ومن أجل هذا الفهم الجديد لا بد من بعث (لا إله إلا الله) جديدة، خلاقة، في صدور النساء والرجال، كعهدنا بها في القرن السابع الميلادي..
إن الثورة الفكرية ببعث (لا إله إلا الله) من جديد في الصدور لا معدى عنها، وذلك موعود المعصوم حين قال: (بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء!! قالوا من الغرباء يا رسول الله؟ قال الذين يحيون سنتي بعد اندثارها) وسنته هي حاله، وحاله الحقيقة، والحقيقة هي (لا إله إلا الله) معاشة دما ولحما.. حاله هي التوحيد، على أن يكون التوحيد هو صفة الموحِّد، لا مجرد قوله.. خلاصة القول لا يصح لأحد أن يتحدث عن الدستور الإسلامي إلا إذا تخلق بكلمة: (لا إله إلا الله)..