مستويات التقوى والفرقان
فللتقوى إذن مستويات، وللفرقان مستويات تقابلها، فإنه، كما قررنا، التقوى شجرة، والفرقان ثمرة.."وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائمُ"..
وأغلظ مستويات التقوى ما يكون للمؤمن العادي، وهو مستوى الحلال البيِّن، والحرام البيِّن،.. وبينهما يتأرجح "بندول" الفكر.. وأول منزلة تلي منزلة المؤمن العادي، منزلة الوَرِع.. والورع هو الحَذِر، الشديد الحَذَر، المتيقظ الوجدان، الشديد التيقظ.. فهو لا يعمل إلا إذا علم، وهو قليلاً ما يعلم، وذلك لزيادة شكه على علمه، ولذلك قيل عنه: إنه هو الذي يترك سبعين باباً من الحلال، خوف الحرام.. يترك ما لا بأس به، خوف ما به بأس.. وهذه مرحلة هامة جداً من مراحل التنبه الفكري، تلي التبلد الفكري، الذي يكون عليه المؤمن العادي.. ثم تكون المنزلة الثالثة، وهي تلي منزلة الورع، وهي منزلة صاحب اليمين.. وفيها، بفضل الله، ثم بفضل المجاهدة في المنزلتين السابقتين، يكون السالك قوي الفكر، قوي العزيمة.. لا تتلبس عليه وجوه الرأي، فهو يدرك بسرعة، ويميز بدقة، ويحمل نفسه على العمل بعزائم الأمور.. وهو إنما سمي صاحب اليمين لأن عمله ضد رغائب نفسه، في غالب أحواله، كأنه ضد صاحب الشمال.. ثم تلي هذه المنزلة، بفضل الله، ثم بفضل المجاهدة في المنازل السوابق، منزلة البَر.. والبر أكثر إدراكاً من صاحب اليمين، وأكثر تسامحاً فهو رفيق بنفسه، وبالناس، وذلك بفضل سعة علمه.. فإن صاحب اليمين، حين قبضته بقية الوَرَع الذي ورثه من منزلة الورَع، التي خرج عنها، ولمَّا يتخلص من عقابيلها، بسط العلم صاحب منزلة الأبرار.. فترى البَر سمحاً، متسامحاً، واسع الأفق، يرى الوجوه المختلفة لكل قضية فكرية، أو سلوكية، تعرض عليه، بطريقة فيها سعة، وفيها دقة.. ثم تلي منزلة البر منزلة المُقَرَّب.. والمقربون هم الذين يكونون عند ربهم، غالب أحوالهم، فهم علماء، قد وسَّع العلم عليهم ما ضيَّق الجهل على سواهم.. فأصبحوا، بفضل الله، ثم بفضل سعة علمهم، رحماء، طيبين، متسامحين، محبين للأشياء، والأحياء، في سلام مع ربهم، ومع أنفسهم، ومع الناس.. يدعون إلى الرضا بالله، والمصالحة مع الناس، وينشرون الحب، والسلام، والمسرة، بين الناس، كما ينشر الزهر العطر، وكما تنشر الشمس النور، والحرارة، والدفء.. هؤلاء هم ملح الأرض، عُرِفوا، أولم يُعرفوا.. وتقوى هؤلاء هي عمل، أو ترك للعمل، ابتغاء وجه الله.. وزمنهم فكر متصل.. فجميع أوقاتهم معمورة بالفكر، والعمل.. وفكرهم ليس تعمُّلاً، وإنما أصبح طبيعة، تنبع فيهم المعاني، والمعارف، كما ينبع الماء النمير من العين الثرة، وقد تطهرت من أوساخها، وأوضارها.. وعبادة المقربين الاستقامة.. والاستقامة أن تكون على السراط المستقيم، في الفكر، والقول، والعمل، فلا تميل يسرة، ولا يمنة.. ولا تتم الاستقامة إلا لمن تخلص من ذنبه، ما تقدم منه، وما تأخر.. وهيهات!! ولكن هذا موعود الله لأهل قرباه، وموعود الله لا بد آت، فوعده، تعالى، غير مكذوب.. ولقد قال في الآية التي صدرنا بها هذه المقدمة: "يأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً، ويكفر عنكم سيئاتكم، ويغفر لكم، والله ذو الفضل العظيم".. قوله تعالى: "ويكفر عنكم سيئاتكم" يعني يغفر لكم خطيئاتكم الموروثة من لدن آدم.. وتلك تتمثل في الكبت على العقل الباطن المتوارث عبر التاريخ البشري.. قوله تعالى: "ويغفر لكم" يشير إلى الخطيئة المكتسبة، في مقابلة الخطيئة الموروثة.. والخطيئة المكتسبة تتمثل في الكبت الواقع على العقل الباطن، المكتسب أثناء عمر أحدنا.. وإنما يكون التكفير، والمغفرة برفع هذا الكبت، الموروث، والمكتسب، وإنما يكون رفع الكبت "بالفرقان".. بنور العقل القوي الذي يتخلل السراديب المظلمة، حيث ترقد الرغائب المكبوته، على حواشي العقل الباطن خلال ملايين السنين.. وقد سمى، تبارك وتعالى، هذه السراديب المظلمة حول العقل الباطن بالرين، وإليها نسب غفلتنا، وجهلنا، وحجبنا عن الحقيقة، فقال، تبارك وتعالى: "كلا! بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون * كلا! إنهم، عن ربهم، يومئذ، لمحجوبون".. فبقدر ما يرفع هذا الرين ــ هذا الكبت ــ بقدر ما تكون قوة العقل، ودقة الفكر، ووحدة البنية البشرية.. وأصحاب هذه البنية الموحدة هم أصحاب العقول التي، بقوة فكرها، تفلق الشعرة، وتملك التمييز بين فلقتيها: أيهما أبيض، وأيهما أسود.. وبقدر قوة التمييز تكون سلامة السلوك، وسلامة القلب، وصفاء الذهن...
الاستقامة هي الوجود
الاستقامة هي الوجود الكامل، الذي لا يتوزعه الوهم بين ماضٍ انقضى، ومستقبل غائب، لمَّا يحن حينه بعد ــ فالاستقامة هي العيش في اللحظة الحاضرة..
والاستقامة أصعب الأمور على العارفين ولذلك فقد قال المعصوم: شيبتني هود، وأخواتها.. يشير إلى قول الله تعالى، من سورة هود: "فاستقم، كما أمرت، ومن تاب معك، ولا تطغوا.. إنه بما تعملون بصير.."
فأنت، إذا استطعت أن تعيش في اللحظة الحاضرة، مشتغلاً بتجويد الواجب المباشر، من غير أن تذهب نفسك، أسفاً على الماضي، ولا خوفاً من المستقبل، فإنك تكون قد وفقت إلى سر الحياة الأعظم، حيث تستمتع بكمال حياة الفكر، وكمال حياة الشعور، وحيث تنتصر على المرض، والشيخوخة، والموت.. ذلك موعود الله.. وإنما ينال موعود الله، بفضل الله ــ "والله ذو الفضل العظيم" ــ. ثم بفضل الفكر..
الفكر؟؟ أي فكر تعني؟؟ هل تعني أي فكر؟؟ لا!! ولا كرامة!! وإنما أعني الفكر المروض بأدب القرآن.. أدب حقه، وأدب حقيقته..