إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

القرآن ومصطفى محمود والفهم العصرى

معرفة الله


مرة أخرى، يطالعني إغراقك في الحديث عن الصوفية: (وهو لايرى شيئا إلا رأى الله فيه، والله عنده ليس في حاجة إلى عبادتنا، وهو يفسر الآية القرآنية: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"، أن معناها ماخلقت الجن والإنس إلا ليعرفون، فلا يمكن أن تتم عبادة بدون معرفة، ولا يمكنك أن تعبد مالا تعرف.. أنها لا تكون عبادة وأنت لا تكون عابدا الله إلا إذا كنت عارفا بالله ولا يمكن أن تعرف الله إلا إذا عرفت نفسك أولا ثم تجاوزتها مهاجرا إلى خالقها. وتتضمن الآية جميع هذه المعارف فالله خلق الإنسان ليعرف نفسه ثم يعرف ربه فيتم بذلك للإنسان جلاء البصيرة الكامل والارتقاء الحقيقي عبر صراع الجسد والروح).. هذا ما قلته أنت في صفحتي 139 و140.. وأنا، إنما أبغض لك الإغراق في وصف التصوف بهذه الصورة، لأنك بذلك إنما تعزل التصوف عن الممارسة اليومية، ولا تدع للشباب سبيلا إليه، لأنك تشعرهم بأن الصوفي رجل (يمشي على الهواء)، ويبدأ من نقطة لا يتفق للناس العاديين أن يبتدئوا منها.. هذا في حين أن بداية الصوفي إنما هي بداية الرجل العادي، باختلاف واحد، بسيط، هو أن الصوفي شحذ همته، وشمّر عن ساعد الجد، فأظمأ نهاره، وأسهر ليله.. وأنظر قولك: (والله عنده ليس في حاجة إلى عبادتنا)!! أليس هذا هو واقع الأمر عند المسلم العادي؟؟ ألا يقول الله، في ظاهر نصه في القرآن: "يأيها الناس!! أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد.."
ألم يقل: "ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه.. إن الله لغني عن العالمين"؟؟
ألم يقل: "لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة.. ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد"؟؟
ألم يقل: "إن تكفروا: أنتم، ومن في الأرض جميعا، فإن الله لغني حميد"؟؟
بلى!! قد قال كل أولئك.. وفي الحديث يرد ما يشير إلى أن الله ليس في حاجة إلى العبادة.. فما الذي أوجب أن تورد أنت هذه الحقيقة منسوبة إلى الصوفية وكأنها أمر غريب على المسلم العادي.. وقولك: (فلا يمكن أن تتم عبادة بدون معرفة ولا يمكنك أن تعبد ما لا تعرف) قول مغرق في عزل الصوفي عن المسلم العادي.. فإن الصوفية يبدأون بالإيمان، ولا يبدأون بالمعرفة.. وعندهم تجب معرفة ما لا تصح العبادة إلا به من أمور الشريعة، ثم يعبدون، ويترقون إلى معرفة الله بهذا الأسلوب.. ودليلهم في ذلك قول الله: "واتقوا الله ويعلمكم الله".. وقول المعصوم: (من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم).. وكل ما هناك، أنهم يؤكدون أن من يعمل بالشريعة لا بد أن يصل إلى الحقيقة.. فهم، إذ يبدءون بداية بسيطة، يعلمون الشريعة، فيعملون، ويتطلعون، أثناء عملهم، إلى معرفة الحقيقة، إلى معرفة الله.. فالمعرفة عندهم ثمرة العبادة.. والعبادة لا تقوم إلا على الإيمان، والتصديق برسالة محمد.. أليس هذا نهج المسلم العادي؟؟
وقولك: (وأنت لا تكون عابدا الله إلا إذا كنت عارفا بالله ولا يمكن أن تعرف الله إلا إذا عرفت نفسك أولا ثم تجاوزتها مهاجرا إلى خالقها)، قول يتسم، إلى جانب الإغراق، والمبالغة، في أمر الصوفي، بعدم دقة في حقيقة ما هو عليه الأمر.. ذلك بأن الله يقول: (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه).. والمعصوم يقول: (من عرف نفسه فقد عرف ربه).. يبدو لي أن الأمر قد لبس عليك.. فإن النفس التي تتجاوزها لتصل إلى الله هي النفس السفلى التي عبر عنها نبينا الكريم فقال: (إن أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك).. وهذه هي جماع الجهالات، والرعونات.. أما نفسك المشار إليها في الآية أعلاه، وفي الحديث، فإنك لا تتجاوزها وتسير بعدها إلى الله، وإنما أنت تعرف الله في معنى ما تعرفها هي، لأنها هي نفس الله.. قال تعالى، في ذلك: "يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها".. فإن النفس الواحدة التي خلقنا منها إنما هي نفسه، تبارك، وتعالى: "وخلق منها زوجها". هذه هي نفس الإنسان الكامل.. هي النفس العليا، لكل إنسان.. ومن هذه، في تنزل، جاءت النفس الدنيا.. إن قيمة كتابك هذا، عندي، هي أنه يملك قدرة، أكبر من كتابات جميع الفقهاء، على إثارة الإهتمام بالدين في صدور الشباب.. وليس إلى الدين من سبيل غير ممارسة النهج الصوفي، فإن جعلت أنت، كما هو واضح في كتابك هذا، هذا النهج معزولا عن البدايات البسيطة، من الأرض، فإنك تؤيس الشباب من الممارسة تأييسا، وتجعل قراءتك متعة ذهنية صرفة، لا تقدم النهج التعبدي النافع.. وهذا ما كرهته لك.. إنك لأنت، بالذات، في أشد الحاجة إلى ممارسة النهج الصوفي، (أقرا السنة النبوية)، ذلك لأن مواهبك الفذة التي تطالعني في هذا الكتاب تحتاج الى صقل، وإلى تهذيب، يرسخ فيها وحدة الفكر، ووحدة الشعور.. وليس إلى ذلك من سبيل غير ممارسة العبادة في تقليد المعصوم بإتقان.. والصوفية هم زملاء طريقك على هذا النهج.. وهم أساتيذك..
وعن الصوفية، مرة أخرى، تقول: (ويقولوا للفقهاء أخذتم علمكم ميتا عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت. تقولون حدثنا فلان عن فلان عن فلان وكلهم موتى.. والواهب الحق علام الغيوب أقرب إليكم من حبل الوريد وهو معكم أينما كنتم.. مايكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم. فكيف تتركونه وتأخذون العلم عن سواه؟..
ولهذا يقول المتصوفة عن علمهم بأنه علم لدني.. من لدن الله.. لا علم نقلي من الكتب. ويصفون أنفسهم بأنهم أهل الحضرة.. ويأخذون أنفسهم بالرياضات الروحية العنيفة والصيام والعبادة المتصلة إلى درجة إفناء الذات في الله وسيلتهم إلى الله أسماؤه الحسنى ومحبته القصوى التي تملأ كل ذرة من القلب فلا يعود لهم شاغل إلا ذكره ولا يرون شيئا إلا رأوا الله فيه.
هؤلاء هم أهل السر والقرب والشهود. الأولياء الصالحون حقا. وهم ندرة شحيحة) هذا ما قلته أنت في صفحة 142.. أسمع قولك: (ويصفون أنفسهم بأنهم أهل الحضرة)!! وأسمع قولك: (هؤلاء هم أهل السر والقرب والشهود. الأولياء الصالحون)!! ألا تدخل مثل هذه الأقوال التصوف في متاهات من الغموض تحول بينه وبين الشباب، في الوقت الذي فيه يمكن، بشرح هذه المسائل، وبردها إلى أصولها في السنة المطهرة، أن يكون هذا الكتاب حافزا للتقليد النبوي، وداعيا إلى الارتفاق في ذلك التقليد، بتجاريب الصوفية؟؟ ما ينعيه الصوفية على الفقهاء هو تعطيل الفكر، اعتمادا على النقل، حتى لقد لج بهم النقل فانتهوا إلى القول بأن (الدين نقل، لا عقل).. وهذه العبارة لا تصح إلا في حد ضيق، هو أن شريعة الدين المأثورة عن المعصوم تؤخذ بالنقل، وتمارس في العمل.. فإذا ظهر لنا أن بعض أسرارها غير معقول لنا فإن علينا أن نلغي اعتبار عقولنا، ونلجأ إلى الإيمان بما جاء به النبي، ونعمل بما جاء به، ابتغاء أن يعلمنا الله، من أسرار تشريعه، ما يصلح حال عقولنا.. فمثلا، ليس من حقنا أن نقول لماذا فرض الله خمس صلوات، في اليوم، والليلة؟؟ وبالعدد الذي فرضه، وبالكيفية التي عينها، وفي الأوقات التي حددها؟؟ ثم نقرر أن هذا ليس معقول.. وإنما علينا أن ننقل ذلك عن النبي، وأن نعمل به، طاعة لأمره: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وذلك رجاء أن يعلمنا الله من عنده العلم اللدني.. وهذا موعوده حين قال: "واتقوا الله، ويعلمكم الله" يعني بـ"واتقوا الله" أعملوا بالشريعة كما بلغتكم عن المعصوم.. "ويعلمكم الله" يعني: يعلمكم الحقيقة، وهي الأسرار، ومنها أسرار الحكمة وراء شريعة العبادة.. قال الله على لسان النبي "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله..". وعند الصوفية أن الشريعة إنما شرعت لتوقظ الفكر، وتشحذه، وذلك أخذا من قول الله تعالى: "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم.. ولعلهم يتفكرون".. وقال المعصوم: (تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة).. فهل في نعي الصوفية على الفقهاء غرابة؟؟ أليس هو من طبيعة الأشياء في أمر الدين؟؟ ومسألة (العلم اللدني) تبدو غريبة على الأسماع، ولكن أليست هي عبارة "ويعلمكم الله"، من آية: "واتقوا الله، ويعلمكم الله"؟؟
(ويصفون أنفسهم بأنهم أهل الحضرة) فما هي هذه الحضرة؟؟ إنها، ببساطة، حضرة القلب مع الله في العبادة.. وهذه مطلوبة من كل مسلم، وكل مصل لا يحضر، في صلاته، ولو لحظة، فصلاته باطلة.. فإذا طالت حضرة قلب العابد، في عبادته، صار إلى حضرة الله.. ألم يقل المعصوم: (لي ساعة مع الله لا يسعني فيها ملك مقرب، ولا نبي مرسل)؟؟ وأي غرابة في هذه؟؟
وأما أخذهم أنفسهم (بالرياضات الروحية العنيفة، والصيام، والعبادة المتصلة إلى درجة إفناء الذات في الله)، فإنما هو تقليد النبي الكريم، وكل ما هناك أنهم أخذوا أنفسهم بتقليده منذ تحنثه في غار حراء، واعتبروا كل عمله، قبل البعث وبعد البعث، سنة، ونهجا مسددا.. وقد أسلفنا إلى ذلك القول، وإنما أنكر عليهم ذلك من أنكره لقلة بصره بحقائق الدين.. ألم يقل المعصوم في أمر تسديده: (كنت نبيا وآدم بين الماء والطين)؟؟ فهو إذن، من ثم، قد كان على سنة واضحة، ونهج مسدد، منذ غار حراء.. وما إفناء الذات في الله هذا الذي ذكرت، حين قلت: (إلى درجة إفناء الذات في الله)، إلا الأمر الذي اتفق للنبي، في بدء بعثه، حتى لقد ظهر عليه من الوله ما ظنه الناس جنونا، فبرأه الله مما قالوا: "ن والقلم وما يسطرون * ما أنت بنعمة ربك بمجنون".. والحديث الذي أشرت إليه آنفا، وهو: (لي ساعة مع الله، لا يسعني فيها ملك مقرب، ولا نبي مرسل)، هو حديث إفناء الذات البشرية في الذات الإلهية، في جمعية مستغرقة للحادث في القديم.. والسر، أيضا، ما هو إلا المعرفة الدقيقة بصفات الألوهية، مما لو ذكر للناس لا يزيد على أن يفتنهم، لأنهم ليست لهم فيه مشاركة.. وفي هذا إنما هم يتأسون بالمعصوم.. ألم يقل: (أوتيت ثلاثة علوم فعلما أمرت بتبليغه، وعلما خيرت في تبليغه، وعلما نهيت عن تبليغه).. فأي شئ يكون العلم الذي نهي عن تبليغه إن لم يكن السر؟؟
أما قولك: (هم ليسوا دراويش الأرصفة ولا شحاذي المساجد ولا المجاذيب ولا الثرثارين ولا المدعين ولا محترفي الشعوذات. إنما هم الأتقياء الأخفياء. يقول عنهم الله في حديثه القدسي: (أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري") هذا ما قلته أنت في صفحة 143.. وهو قول لا يدل على تعمق.. فإنه، على التحقيق، ما من صوفي كبير إلا وقد مر، على الأقل، بمرحلة من مراحل من تسميهم: (دراويش الأرصفة).. و(شحاذي المساجد).. و(المجاذيب).. و(الثرثارين).. و(المدعين).. و(محترفي الشعوذات).. وكل الذي يحصل هو أن بعض الصوفية، بتوفيق الله، ثم بحسن تأديبهم، يقطعون هذه المرحلة، ويبرزون إلى مقامات عزهم، بينما تظل الأغلبية الغالبة تتخبط فيها.. ثم ان من هؤلاء من هم على درجة من الولاية.. وأنت تقول، في حديثك الذي اقتبسناه آنفا،: أن الله يقول عنهم: (أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري)، فما ظنك بكلمة (قبابي) هذه؟؟ ألا تخشى أن تكون هي المظهر الزري الذي ساقك إلى أن تصفهم هذه الأوصاف المرذولة التي أوردت فتكون بذلك، قد تورطت في هلكة بالإساءة إلى ولي خفي من أولياء الله؟؟
أكرر!! إن أخشى ما أخشاه على كتابك هذا أن يكون كتاب متعة ذهنية، لا يسمو إلى حفز الشباب إلى عمل بالدين، مقلدا للنبي، ومرتفقا بأقوال الصوفية، ذلك لأنك قد عزلت الصوفية عن واقعهم، عزلا مؤسفا..
ونلاحظ، في هذا الفصل، فصل أسماء الله، أنك لم تتحدث عن أسماء الله إلا في أسطر، في صفحة 137.. وقد تورطت في خطأ كبير حين زعمت أن اسم (الله) إسم علم على الذات الإلهية.. والحق، أن (الله) إنما هو علم على الذات الحادثة، وهي الإنسان الكامل.. وما هو، في حق الذات القديم، إلا مجرد إشارة، لأن هذه الذات، قبل أن تتنزل من صرافتها، إنما هي فوق الاسم، وفوق الصفة، وفوق الإشارة أيضا.. وعندما تنزلت من صرافتها تقيدت، في أول مراتب القيد، فكانت: (الحقيقة المحمدية).. وهذه هي مرتبة الإنسان الكامل.. واسم (الله) اسم علم في حقها هي.. لقد تحدثنا في مقدمة الطبعة الثانية من كتابنا: (لا إله إلا الله) عن أسماء الله بما يكفي عن الإعادة هنا.. فليراجع في موضعه..
ولقد تورطت، في نفس الصفحة، في خطأ آخر، وذلك حين قلت: (ولا غرابة في أن يكون للروح بصر شامل يدرك اللامحدود وأن ترى الله كما يراه الملائكة).. هذا ما زعمته أنت، وهو زعم قد أشرنا إلى باطله.. فإن الملائكة لا يرون الله ما يراه البشر.. ومعلوم أنه لدى المعراج تخلف جبريل عند سدرة المنتهى، وتقدم المعصوم إلى مقام: (ما زاغ البصر وما طغى) حيث تم الشهود الذاتي.. بين الذات البشرية، والذات الإلهية.. وإنما تخلف جبريل لأنه لا طاقة له بالشهود الذاتي.. ذلك لأنه لا ذات له – لانفس له – فالبشر – مطلق بشر – أكمل من مطلق ملك وذلك لكرامة النشأة البشرية المتمثلة في الخطأ والصواب، والتي إليها الإشارة بحديث المعصوم: (إن لم تخطئوا، وتستغفروا، فسيأتي الله بقوم يخطئون، ويستغفرون، فيغفر لهم).. وقد أسلفنا القول بأن كمال الملائكة كمال درجة، وكمال البشر كمال نشأة.. وفي التحليل الأخير، لا يصل الملائكة إلى كمالات البشر إلا بدخولهم في البنية البشرية.. وهناك حديث نبوي، كريم أوردناه، ونعيده، هو يقول: (إن الله احتجب عن البصائر كما احتجب عن الأبصار.. وأن الملأ الأعلى ليطلبونه كما تطلبونه).. ومن ههنا يتضح لك خطأ قولك: (وأن ترى الله كما يراه الملائكة)، من العبارة التي أسلفنا الإشارة إليها..
وهذا الخطأ جرك إلى خطأ آخر، من نفس الصفحة، وذلك حيث تقول: (والذات الإلهية سر مطلسم ليس لبشر أن يخوض فيه.. أما الصفات والأفعال فلنا أن نتأمل فيها).. هذا ما قلته أنت.. وما عليه العارفون هو أن الذات هي مقصد العباد، ولكنها لا يتوسل إليها بوسيلة الفكر.. وذلك لأن الذات لا ضد لها.. ولا يدرك الفكر إلا ما كان له ضد.. ومن أجل ذلك جاءت التوصية النبوية الكريمة: (تفكروا في مخلوقات الله، ولا تتفكروا في ذاته فتضلوا).. وليس معنى هذا أن الذات ليس لبشر أن يخوض فيها، وإنما معناه أنها لا تلتمس عن طريق الفكر.. فإنما هناك طريق القلب.. فما في سويداء القلب إلا الذات.. ولقد قال تعالى، في ذلك: (ما وسعني أرضي، ولا سمائي، وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن).. والعقول هي قوة الإدراك الشفعي.. فهي لا تقوى إلا على إدراك ما كان له ضد.. ولذلك فقد تقيد إدراكها بمراتب الاسم، والصفة، والفعل الإلهي.. وهذا معنى: (تفكروا في مخلوقات الله) لأن لأسماء الله، ولصفاته، ولأفعاله ضدا من أسماء، وصفات وأفعال المخلوقات.. وأما القلوب فهي قوة الإدراك الوتري، وهي بذلك قد أوتيت القدرة على شهود الذات الوترية – الذات التي لا ضد لها-.. والشهود معنى من الإدراك يتنزه عن الإحاطة.. ويقع بلا كيفية.. وهذا القدر، من الخوض في الذات الإلهية، وهو قدر يزيد كل لحظة عند العباد المجودين، هو مرمى جميع كبار العباد.. ولذلك فإن قولك: (والذات الإلهية سر مطلسم ليس لبشر أن يخوض فيه) قول غير سليم..