إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

القرآن ومصطفى محمود والفهم العصرى

الفصل السابع

رب واحد ودين واحد



أصل الدين هو الإرادة الإلهية التي قهرت الوجود، وسيرته، من البعد الى القرب، طوعا وكرها.. وفي ذلك قال تعالى: "أفغير دين الله يبغون، وله أسلم من في السموات، والأرض، طوعا، وكرها.. وإليه يرجعون؟؟" وهذا هو الدين العام، هو الإسلام العام.. وهناك الإسلام الخاص الذي أرسل الله به الرسل، وخاطب به البشر، وشرع فيه الشرائع، وأقام التكليف.. وإنما سمي هذا بالإسلام الخاص لأن الخطاب به يتوجه إلى ذوي العقول، في حين أن الخطاب بالإسلام العام يتوجه إلى جميع عناصر الوجود.. وفي هذا لا تقع المعصية.. ففي شريعته من عصى فقد أطاع في معنى ما قد عصى.. وأما الإسلام الخاص ففيه تقع المعصية، وتقع الطاعة.. والحكمة في شرع الإسلام الخاص هي إخراج الناس مما أراد الله، إلى ما يرضى.. فإن هناك دقيقة عرفانية تقرر أن الله أراد شيئا لم يرضه.. فهو أراد الكفر، مثلا، ولكنه لم يرضه.. قال تعالى، في ذلك: "إن تكفروا فإن الله غني عنكم، ولا يرضى لعباده الكفر.. وإن تشكروا يرضه لكم.. ولا تزر وازرة وزر أخرى.. ثم إلى ربكم مرجعكم، فينبئكم بما كنتم تعملون.. إنه عليم بذات الصدور".. فالكفر، والإيمان، والشر، والخير لا تدخل في الوجود إلا بإرادة.. ولكن الكفر غير مرضي، والشر غير مرضي، وإنما المرضي الإيمان، والخير..
فمثل الدين العام كمثل ماء المحيطات الملح، ومثل الدين الخاص كمثل ماء الأنهار العذب، وكما تستصفي الشمس ماء الأنهار العذب من ماء المحيطات الملح، فكذلك الرسل: هم، بواسطة العقول، يستصفون الدين الخاص من الإرادة العامة.. ويسوقون الناس إلى اتباع رضوان الله طوعا، بعد أن كانوا مسخرين بإرادته كرها..
ولم يبدأ الدين الخاص بالأديان الكتابية المعروفة عندنا – اليهودية، والنصرانية، والإسلام.. وإنما بدأ بالوثنيات البدائية التي صحبت النشأة البشرية الأولى، في الأزمان السحيقة.. فإنه قد مر وقت كانت فيه عبادة الصنم مرضية عند الله، وذلك بحكم الوقت.. ثم اطرد سلم الترقي نحو ديانات التوحيد، إلى أن توج الدين الخاص بدعوة التوحيد التي نزلت، أول منازلها الشاملة، الكاملة، برسالة موسى.. حيث قامت شريعة المعاش، وشريعة المعاد، حول (لا إله إلا الله) لأول مرة، بصورة موسعة، انتظمت شعبا كاملا.. ثم جاءت النصرانية، تطويرا لليهودية.. ثم جاء الإسلام تماما على الذي بدا باليهودية، والنصرانية، فكان جامعا لهما، ومطورا.. وقد جاء الإسلام نفسه على مرحلتين: مرحلة الإيمان، ومرحلة الإسلام.. فأما مرحلة الإيمان فهي مرحلة أقرب إلى بدائية اليهودية.. وأما مرحلة الإسلام فهي أقرب إلى روحانية النصرانية.. ومن ثم، فإن الإسلام جامع لخصائص اليهودية، والنصرانية، وممثل لهما، كليهما.. والسر في ذلك أنه قد جاء وسطا بين تفريط اليهودية، وإفراط النصرانية.. قال تعالى، في ذلك "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيدا".. فأمة الإسلام وسط، بين أمة اليهودية، وأمة النصرانية.. وكذلك الإسلام، فهو وسط بين اليهودية، والنصرانية.. وكذلك القرآن، فهو وسط بين التوراة، والإنجيل.. ومن ثم، فقد جمع في سياقه بين ما جاءت به التوراة، من شريعة القصاص – العين بالعين، والسن بالسن – وشريعة العفو التي جاء بها الإنجيل – (من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الآخر كذلك – على حد تعبير الإنجيل.. وقد كان سياق القرآن، في ذلك: "وجزاء سيئة، سيئة مثلها، فمن عفا، وأصلح، فأجره على الله.. إنه لا يحب الظالمين".. "وجزاء سيئة سيئة مثلها".. أقرب إلى خصائص التوراة – القصاص – و"فمن عفا، وأصلح فأجره على الله".. أقرب إلى خصائص الإنجيل – العفو– والقرآن في هذا أكمل من التوراة، وأكمل من الإنجيل، ذلك بأنه قد رسم الطريق، ووضع السلم لتحقيق ما دعا إلى تحقيقه الإنجيل من غير أن يرسم منهاجا تسليكيا لتحقيقه.. والمرحلتان اللتان اشتمل عليهما الإسلام، وهما: مرحلة الإيمان، ومرحلة الإسلام، اشتمل عليهما القرآن، في آيات فروعه، وفي آيات أصوله.. فأما آيات فروعه فهي الآيات المدنية.. وأما آيات أصوله فهي الآيات المكية.. وقد قامت على آيات الفروع شريعة الرسالة الأولى، وهي التي فصلها المعصوم تفصيلا.. واعتبرت آيات الأصول منسوخة في القرن السابع، وأرجئ العمل بها إلى يوم يتهيأ لها فيه المجتمع البشري.. وستبعث، يومئذ، شريعة الرسالة الثانية، ببعث هذه الآيات، التي كانت منسوخة.. وقد فصلنا كل أولئك تفصيلا، في كتابنا: (الرسالة الثانية من الإسلام)، فليراجع في موضعه.. ولكنا، لا نزايل مقامنا هذا، قبل أن نقرر أن تطور الإنسان الروحي في مضمار آيات الفروع، وآيات الأصول – بين الإيمان، والإسلام – تطور سرمدي، لا نهاية له.. لا في الدنيا، ولا في الآخرة.. ويكفي أن نقرر هنا أن الأرض، إلى اليوم، لم تشهد الكمالات البشرية الموعودة، وإنما هي ترتقبها.. ولذلك فإن قولك: (وقد علم الله أنه لن يحدث تطور روحي بعد ذلك.. وأن الإنسان لن يتطور إلا في أدواته فيصنع العربات والقطارات والطائرات والصواريخ والعلوم الوضعية والمعارف العقلية دون أن يتقدم خطوة واحدة في روحه فختم الرسالات بمحمد..).. إن هذا القول الذي قررته أنت في صفحة 149 هو قول منكر أشد النكر.. ثم، من الذي قال أن الرسالات ختمت بمحمد؟؟ لقد تورطت أنت فيما يتورط فيه العوام من الفقهاء.. فإن الله قد ختم النبوة بمحمد، ولم يختم الرسالة.. ثم كيف جاز لك أن تزعم أن الإنسان سيتطور في (المعارف العقلية) دون أن يتقدم (خطوة واحدة في روحه)؟؟ إن الكلمات ليست واضحة المدلولات في ذهنك، وإنما هذه من الدلالات على ضعف أثر التوحيد في فكرك.. ثم ما هو برهانك على الذي ذهبت إليه من تقريرك وقف النمو الروحي للإنسان على الأرض؟؟ إنك تقرر: (لأن لا شيء جد في روح الإنسان على كثرة ما جد في عقله ومعارفه وحياته المدنية).. هذا ما تقرره أنت في صفحة 149.. ولكن، ما ظنك بمن يخبرك أن مرحلة الإنسان الحاضرة إنما هي احتشاد لظهور الطفرة الروحية المقبلة، التي بها يدخل الإنسان، من حيث هو إنسان، دين الإسلام، الذي قال الله عنه: "إن الدين عند الله الإسلام"، والذي قال عنه: "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه.. وهو في الآخرة من الخاسرين"، والذي قال عنه: "اليوم، أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا.."؟؟ إن غد الإنسان المعاصر هو الغد المأمول، الذي ستملأ الأرض فيه عدلا، كما ملئت جورا.. ولا يكون ذلك إلا بفضل الله، ثم بفضل تطور الإنسان الروحي الى درجة لم يسبق لها مثيل في سوالف الحقب..
إن مرحلة الإسلام التي وردت، في الآيات السالفات، الإشارة إليها، لم يحققها غير طلائع البشرية، وهم الأنبياء، والرسل.. ومن ثمن فإن قولك: (أنه يقول عن المسيح أنه مسلم والحواريون مسلمون.. وموسى مسلم والسحرة الذين آمنوا له قد أسلموا وفرعون وهو يتوب لحظة الموت أسلم ويوسف مسلم وإبراهيم مسلم وإسماعيل مسلم ونوح مسلم..
الكل أسلم..
بمعنى أسلم الأمر لله إذ أدرك أنه لا موجود بحق سواه ولا مقدر للأقدار ومالك للملك سواه..).. قولك هذا، من صفحة 151، يفقد الدقة.. فلم يكن الحواريون مسلمين.. ولم يكن السحرة، ولا فرعون، مسلمين، بالمعنى الذي به المسيح مسلم، ويوسف، وإبراهيم، وإسماعيل، ونوح، مسلمون.. إن الإسلام بداية، ونهاية.. بدايته دون الإيمان.. ونهايته فوق الإيمان.. فقد كان موسى مسلما، وكانت أمته اليهود.. وقد كان المسيح مسلما، وكانت أمته النصارى.. وكان محمد مسلما، وكانت أمته المؤمنين، أو الذين آمنوا، في مقابلة الذين هادوا.. وهذا ما جاء في سياق الآية: "إن الذين آمنوا، والذين هادوا، والنصارى، والصابئين، من آمن بالله، واليوم الآخر، وعمل صالحا، فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم، ولا هم يحزنون".. فإذا جاء اليوم المقبل، الذي يتأذن الله فيه بتطبيق الإسلام، فلن يقبل الله من أحد هذه الأمم – لا من الذين آمنوا، ولا من الذين هادوا، ولا من النصارى، ولا من الصابئين – غير الإسلام.. (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، وهو، في الآخرة، من الخاسرين)..
إن الإسلام دين واحد، بدايته، في الأرض، في التعدديات، والوثنيات البدائية.. ونهايته عند الله، في إطلاقه، حيث لا عند.. والسير في مراقيه سير سرمدي.. والديانات الكتابيات – اليهودية، والنصرانية، والمرحلة الأولى من الإسلام – (مرحلة الإيمان) كلها منازل من منازل السير فيه.. وقد رسم القرآن، في آيات أصوله، وفي إشاراته بالحروف الهجائية التي جاءت تتويجا لآيات أصوله، طريق السير في معارجه السرمدية.. وقد جعل الله حياة محمد مفتاحا لمغاليق أبواب هذه المعارج.. فمن ابتغاها فعليه الممارسة في دقة تقليد عمل محمد، في العبادة، وفي المعاملة.. فإنه ليس سبيل إلى الله غير هذا السبيل.. (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني.. يحببكم الله)..