إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

القرآن ومصطفى محمود والفهم العصرى

الفصل الأول

لا إله إلا الله



ليس هذا أول فصول الكتاب، ولكنه الفصل قبل الأخير، ونحن إنما قدمناه، فجعلناه أول فصول الرد على الدكتور مصطفى، لأنه فصل مخصص للحديث عن الكلمة، (لا إله إلا الله).. وهذه هي كلمة التقوى، وإنما يجيء إتقانه لباقي الفصول بسبيل من إتقانه لهذا الفصل، وإنما يجيء إتقانه لهذا الفصل بسبيل من إتقانه للتقوى.. والتقوى علم، وعمل بمقتضى العلم.. فهي، في أول الطريق، علم بالشريعة، وعمل في العبادة.. وهي، في وسط الطريق، علم بالحقيقة، وعمل في تصحيح العبودية.. وهي، في أخريات الطريق، فناء عن العلم، وبقاء بالحياة – الحياة الحية، الواسعة، الرغيدة – حياة الله، التي تنزهت عن أن تؤوفها آفة، أو ينقصها منقص..
و(لا إله إلا الله) هي هادية التوحيد.. والتوحيد هو العلم اللدني، الذي يؤخذ من الله مكافحة.. فهو لا يعلمنا إياه النبي، إلا في معنى أنه فاتح بابه، وقدوة السلوك إليه.. ولقد قال النبي في ذلك: (إنما أنا قاسم، والله يعطي، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.. ولا تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله، لا يضرهم من خالفهم، حتى يجيء أمر الله.) أراد بقوله (إنما أنا قاسم) أنه معلم الشريعة، ومعلم الطريقة، وقدوة السلوك.. وأراد بقوله: (والله يعطي) أن الله هو الذي يعلم حقائق الدين، لا أنا.. وهذا هو معنى قوله تعالى: (واتقوا الله، ويعلمكم الله)..
والتوحيد علم ذوق، فهو لا يدرك بالقراءة.. ومعنى (علم ذوق) أنه إنما يجيء عن طريق الممارسة، والتجربة في العبادة.. فمن إلتمسه عن غير هذا الطريق سقط على الدعاوى، وتخبط في متاهات الجهل.. ونحن نتهم الدكتور مصطفى محمود بأنه اعتمد على القراءة في تحصيله للتوحيد.. وليس معنى هذا أن الدكتور لا يعبد، ولكن معناه أنه لم يتقن العبادة حتى يدخل بها مداخل العبودية، إذ ليست مرحلة العبادة مرحلة تذوق الحقيقة، وإنما هي مرحلة إعداد لهذا التذوق.. هي مرحلة عقيدة، في حين أن مرحلة تذوق الحقيقة مرحلة علم.. ولا يستقيم الحديث لمتحدث عن أصول الدين قبل إتقانه مرحلة العلم هذه.. ذلك بأن الإسلام يقع على مرحلتين: مرحلة الإيمان، ومرحلة الإيقان... فأما مرحلة الإيمان فلها ثلاث درجات: الإسلام، ثم الإيمان، ثم الإحسان.. وأما مرحلة الإيقان فلها ثلاث درجات، أيضا: علم اليقين، ثم علم عين اليقين، ثم علم حق اليقين، وبعد حق اليقين يجيء الإسلام، الذي هو دين الله، الذي لا يقبل غيره.. قال تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام).. وقال تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين) ولا يشم أحد شميم معرفة أصول الدين قبل أن ينزل أدنى منازل الإيقان، وهي منزلة علم اليقين..
فمرحلة الإيمان مرحلة عقيدة، ومرحلة الإيقان مرحلة علم.. ويتضح من كلام الدكتور مصطفى أنه لم ينزل هذه المنزلة.. وخير ما يكشف لنا ذلك منه حديثه عن هذا الفصل، (لا إله إلا الله).. ثم حديثه عن الفصل الذي يليه، وعنوانه (مخير أم مسير).. فلنأخذ في استعراض حديثه عن (لا إله إلا الله).. وأول الدلائل على أن الدكتور مصطفى لم يرح رائحة اليقين قوله من صفحة 240: ("لا إله إلا الله".. إذن لا معبود إلا الله..
(ولن يعبد بعضنا بعضا.. ولن يتخذ بعضنا بعضا أربابا ولن نقتتل على شيء وقد أدركنا أنه لا شيء هناك..
(ولن يأخذنا الغرور وقد أدركنا أننا خيالات ظل تموج على صفحة الماء..
(ولن نفرح بثراء ولن نحزن لفقر ولن نتردد أمام تضحية ولن نجزع أمام مصيبة فقد أدركنا أن كل هذه حالات عابرة..
(وسوف تلهمنا هذه الحقيقة أن نصبر على أشد الآلام.. فهي آلام زائلة شأنها شأن المسرات..
(لن نخاف الموت.
وكيف يخاف ميت من الموت؟؟)
إنتهى حديث الدكتور مصطفى.. وأنت، حين تقرأه، يخيل إليك أنه يمكنك تحصيل هذا الإدراك في جلسة واحدة، أو في أيام قلائل، بعدها تملك الصبر على (أشد الآلام)..
وما هو هذا الإدراك؟؟ هو إدراكنا (أننا خيالات ظل تموج على صفحة الماء)‍‍‍‍‍‍!! وهل نحن حقا خيالات ظل؟؟ أم هل نحن خلائف الله في الأرض؟؟
و(لن يخاف الموت) يقول الدكتور، ثم يردف: (وكيف يخاف ميت من الموت؟؟) فهل رأيت كيف يرى الدكتور انتصارنا على الخوف من الموت؟؟ هو يراه في اليأس من الحياة، وفي اليأس من القدرة على الفرار من الموت.. (وكيف يخاف ميت من الموت؟؟).. والحق غير ذلك.. فإن انتصارنا على الخوف من الموت إنما يجيء من إطلاعنا على حقيقة الموت، ومن استيقاننا أن الموت، في الحقيقة، إنما هو ميلاد في حيز جديد، تكون فيه حياتنا أكمل، وأتم، وذلك لقربنا من ربنا.. وبالموت تكون فرحتنا، حين نعلم أن به نهاية كربنا، وشرنا، وألمنا.. قال تعالى عنه: (لقد كنت في غفلة من هذا، فكشفنا عنك غطاءك، فبصرك اليوم حديد).. وإنما بالبصر الحديد ترى المشاكل بوضوح، وتواجه بتصميم..
وعندما اشتدت بالنبي غصة الإحتضار، وقالت السيدة فاطمة البتول: (وا كرباه لكربك يا أبي!!) أجابها المعصوم: (لا كرب على أبيك بعد اليوم).. وقد سمى الله، تبارك، وتعالى، الموت (اليقين) فقال: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) و(اليقين)، أيضا، العلم الذي لا يكاد يكون فيه شك، والذي به تتكشف الحقائق المستورة وراء الظواهر.. وإنما سمي الموت اليقين لأن به اليقين، ولأن به يتم اليقين الذي يكون قد بدأ هنا عند العارفين، وإنما يكون بدؤه بالموت المعنوي الذي هو نتيجة العبادة المجودة.. وعن هذا الموت المعنوي قال المعصوم (موتوا قبل أن تموتوا).. وقال عن أبي بكر الصديق: (من سره أن ينظر إلى ميت يمشي في الناس فلينظر إلى أبي بكر) هذا هو اليقين الذي باطلاعنا عليه، لا نتحرر من خوف الموت فحسب، وإنما به قد يكون الموت أحب غائب إلينا..
وما هو الإدراك الذي به توصل الدكتور إلى مثل هذا القول الذي قاله: (وكيف يخاف ميت من الموت؟؟)؟؟
إنه من غير شك الإدراك الذي تعطيه العقول لحقيقة الموت – الإدراك الذي يعطيه النظر – وهو إدراك قاصر، ومخيف.. فإن الموت، كما يعطيه النظر العقلي، هو، عند أكثر الناس، نهاية، به تنقطع الحياة، وتسكن الحركة، ويتصلب البدن، ويعود إلى تحلل، ونتن، ويستحيل إلى تراب.. ألم يقل الدكتور نفسه في صفحة 237: (أين كل هذا؟ تحت الردم.. انتهى.. أصبح تربا.. كان حلما في مخيلة الزمان وغدا نصبح، أنا وأنت، تحت الردم..) إن هذا هو الموت كما يعطيه نظر العقول غير المرتاضة، ولكن الموت، كما تعطيه حقائق القلوب السليمة، والعقول الصافية، فهو شيء يختلف اختلافا كبيرا.. ولا عبرة بالعقول غير المرتاضة بأدب القرآن فإن علمها ليس بعلم، لأنه يقف عند الظاهر، ولا يتعداه إلى بواطن الأمور.. وقد قال تعالى في ذلك: (وعد الله، لا يخلف الله وعده، ولكن أكثر الناس لا يعلمون * يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، وهم، عن الآخرة، هم غافلون) فهم لا يعلمون اللباب، وإنما يعلمون القشور، (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا) ولا يكون بعلم القشور تحرير من الخوف.. هذا هو مبلغ علم الدكتور، وهو به يظن أنه (لن يخاف الموت..) ويقول، فيما يشبه البداهة، (وكيف يخاف ميت من الموت؟) ألا ترى أنك قد هونت صعبا، وأرخصت عزيزا؟؟ أني لأرجو أن تحدث مراجعة لأمرك هذا..