لقد أثبتت هذه الأحداث أن الشعب السوداني شعب أصيل، شجاع، كريم .. يجود بالنفس في سبيل العزة، والشرف ولا ينقصه غير القائد الذي يفجر كوامن أصالته، ويحرك حسه الوطني .. فاذا وجد قائدا، في مستواه، فان المعجزات تجري على يديه، والبطولات تسعى اليه خاطبة وده.. حقا كما قال الأستاذ محمود في تحقيق معه في جريدة الأخبار، فيما بعد، ((الشعب السوداني شعب عملاق يتصدره أقزام))

معالم على طريق تطور الفكرة الجمهورية - الكتاب الاول

menu search

المسيح

أدب الوقـت


إن للصلاة حضرتين: حضرة إحرام ، وحضرة سلام .. فأما حضرة الإحرام فهي إنما تبدأ بقولك (الله أكبر) وتنتهي بقولك (السلام عليكم) .. وحضرة السلام إنما تبدأ بقولك (السلام عليكم) ، في نهاية كل صلاة ، وتنتهي بقولك (الله أكبر) في بداية الصلاة المقبلة .. ولكلتا الحضرتين أدب .. فحضرة الإحرام أدبها محاولة الحضور مع الله أثناء الصلاة ، والانصراف عن مشاغل الحياة ، والتوجه إلى الله بكلية ، جهد الطاقة .. وأنت لا بد أن تحتال لذلك الحيل .. وذلك بمحاولة الحضور في الوضوء .. لأن الحضور فيها كما يقول الصوفية ، إنما يكون قبل الدخول فيها .. ولقد فصّلنا ذلك في كتبنا بصورة مستفيضة .. وأما حضرة السلام فهي المعاملة .. ويمكن أن نلخص أدبها في كف الأذى عن الناس ، ثم احتمال أذى الناس ، ثم السعي في توصيل الخير إليهم .. هذا النهج هو النهج العملي في التحرر وفي معيشة اللحظة الحاضرة .. وهو يبدأ ببداية بسيطة في تحرّي وقت الصلاة ، وفي أدائها في أول الوقت .. ولكنه يتداعى ، في النهاية ، ليحرر صاحبه من قيد الزمان والمكان .. وبممارسة العبادة نجد قوة الفكر ، ونفاذه ، في تمييز الواجب المباشر .. ونجد الإرادة لتنفيذ الواجب المباشر ، جهد الإتقان ، كما نجد الاستعداد ، والسعة ، لقبول النتيجة أيّاً كانت ، خيرا أو شرا .. وهذا هو نهج (لا إله إلا الله) الوارد في: (إليه يصعد الكلم الطيب ، والعمل الصالح يرفعه) .. ولذلك فإن انتظار المسيح إيجابية ، وليس سلبية .. وذلك هو معنى قول السيد المسيح: (أيضا يصلي الذي يجلس ، وينتظر) .. فالذي (يجلس وينتظر) لا يجلس ، ولا ينتظر ، في فراغ ، وإنما يجلس ، وينتظر ، بالعلم ، وبالعمل بمقتضى العلم ..
إن السير إلى الله ، كما نقول دائما ، ليس بقطع المسافات ، وإنما هو بتقريب الصفات ، من الصفات ـ تقريب صفات العبد من الرب ـ وهذا معنى قول الصوفية: (سيرك منك ، وصولك إليك) .. وهو معنى (ما وسعني أرضي ، ولا سمائي ، وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن) .. فالله ، كما قال الصوفية ، هنا ، والآن ، أي هو في اللحظة الحاضرة .. والمسيح إنما يجيء في اللحظة الحاضرة ..
لقد فجّر العلم المادي نواة المادة فسمع لها ذلك الدوي الرهيب ، وكان أن ردّ ، بذلك التفجير ، المادة إلى أصلها الواحد ، وسيفجّر الدين ، بمنهاج الفكر القوي ، الدقيق ، النفّاذ ، نواة الدين ، وهي هي اللحظة الحاضرة ، وسيسمع لها دوي أعتى مما حدث لدى تفجير نواة المادة ، وسترد بذلك أصول الأخلاق إلى مصدرها الواحد ـ تخلقوا بأخلاق الله إن ربي على سراط مستقيم ..
هكذا يجيء المسيح ، قنطرة بين الغيب ، والشهادة ، بين الإطلاق والقيد ، فيسوق الأرض بالطوع في اتجاه قانون السماء ، وهذا هو العلم ، وهو هو ما خفي على المفكرين ، حين اعتمدوا على علم الظاهر في التصدي لحل مشاكل الإنسان ، فكان علمهم جهلا .. قال تعالى: (وعد الله ، لا يخلف الله وعده ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون !! يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ، وهم عن الآخرة هم غافلون !!).