إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

السـلام
ضالّة البشرية منذ الأزل

بسم الله الرحمن الرحيم
((إنّا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر؟؟ * ليلة القدر خير من ألف شهر!! * تنزّل الملائكة والروح، فيها، بإذن ربّهم، من كلّ أمر * سلام.. هي حتّى مطلع الفجر..))
صدق الله العظيم..



المقدّمة


إنّ السلام اليوم إنّما هو حاجة كلّ نفس بشرية، وهو أيضاً حاجة كلّ مجتمع بشري، بل إنّ حاجة العالم للسلام لهي حاجة حياة أو موت، ذلك بأنّ شبح الحرب العالمية الثالثة إنّما يلقي بظلاله القائمة على وجه الأرض، يقضّ المضاجع، ويؤرّق الأعين.. وإنّه لمن المحقق أنّ الناس، ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية قد ظلّوا من خوف الحرب، في حرب، وتلك هي الحرب الباردة الناشئة بين المعسكرين الشيوعي، والرأسمالي، والمتمثّلة في صراعهما على السيطرة على العالم، وفي تسابقهما في إعداد عدّة الحرب وآلاتها.. إنّ الذي يمنع وقوع الحرب العالمية الثالثة، حتّى الآن هو خوف الناس من الحرب، وإنّما نتج هذا الخوف من التجربة الأليمة التي تعرّض لها العالم في الحرب العالمية الثانية، حيث أزهقت ملايين الأنفس «٤٥ مليوناً»، ودمّرت مئات المدن، وخرّب الاقتصاد في كلّ الدول.. هذا مع أنّ تلك الحرب قد كانت بالأسلحة التقليدية ما خلا قنبلتي هيروشيما، وناجازاكي في اليابان، وهما قد كانتا أوّل تجربة لاستخدام السلاح الذرّي، وهما يمكن تشبيههما بلعب الأطفال إذا ما قيستا بالمدى الذي وصل إليه أمر السلاح الذرّي اليوم.. ومع ذلك فقد ترك استخدام ذلك السلاح الذرّي البدائي، من الآثار، ما لا يزال يعاني منه بعض الناس الذين تعرّضوا للإشعاع.. فإذا قامت حرب عالمية ثالثة فسيكون سلاحها الأساسي هو قنبلة الذرّة، وقنبلة الهيدروجين، وقنبلة النيترون، وهو سلاح رهيب إذا فُجّر في حرب ثالثة لن يسلم منه أحد، ولن تفلت منه دولة من الدول، وستتعرّض الحضارة الإنسانية بفعله للدمار التام، وسيلحق بالحياة نفسها من التدمير ما قد يفنيها كلّها.. ومن هنا، ولعمق تصوّر الناس لهول التجربة، إن هم دخلوا في حرب ثالثة، جاء خوفهم، ورعبهم من الحرب، وجاء من ثمّ، تردّد الدول الكبرى في الدخول في مغامرة إشعال نار الحرب العالمية الثالثة، هذا فضلاً عن كون الحرب الحديثة لم تعد تحسم الخلاف بين الدول، ولم يعد يخرج منها منتصر، ومنهزم، وإنّما هي فقط تقود إلى مائدة المفاوضات..

إنّ حاجة العالم للسلام الحقيقي إنّما هي، كما قلنا، حاجة حياة أو موت، ذلك بأنّ السلام الموجود الآن، والقائم على الخوف من الحرب، وعلى توازن القوى، إنّما هو سلام محموم، ومصطنع، ثمّ هو، على علاته، يمكن القضاء عليه إذا اختلّ ميزان القوى العالمي بشكل يغري أحد المعسكرين، ويمنّيه بأنه إذا دخل الحرب، سيخرج منها بانتصار سريع، وبخسارة قليلة، بعد أن يكون قد فرض سيطرته التامّة على العالم..

وإذن، فإنّ خلاص العالم مما هو فيه من خوف، وتهديد بشبح الحرب، إنّما يتم بتحقيق السلام الحقيقي، وهو سلام يتم، أوّل ما يتم، في داخل كلّ نفس بشرية، وهو، أيضاً، إنّما يتم بتوحيد العالم، توحيده، فكرياً، مثلما هو الآن، بفضل الله، ثمّ بفضل تقدم وسائل الاتصال الحديثة، قد توحّد جغرافياً، حتّى أصبحت الدول فيه جيراناً، وأصبح سكّانه، في أيّ جزء منه، يتأثّرون بما يقع فيه من أحداث، تأثّر أبناء القطر الواحد، والأسرة الواحدة..

ولكن ما هو السبيل إلى هذه الوحدة الفكرية، وإلى هذا السلام الذي يبدأ من الفرد، ثمّ يعمّ المجتمع؟ إنّ السبيل لهذا السلام ليس هو سبيل الرأسمالية الغربية، وليس هو سبيل الشيوعية، وإن كانت الأخيرة هي المنافس الأشد خطراً، والأكبر قدرة من الرأسمالية الغربية.. نعم ليس السبيل هو سبيل هذين النظامين، فهما، وإن اختلفا في الظاهر، إنّما يقومان، في حقيقتيهما، على أرضية واحدة، هي الأرضية المادية التي تجعل وكد الإنسان إشباع حاجة معدته، وحاجة جسده.. ولهذا السبب فإنّ كلا الشيوعية، والرأسمالية، علماني.. والعالم لا يحتاج إلى «العلمانية»، وإنّما يحتاج حقّاً، إلى «العلمية» التي تتخذ الأرضية المادية منطلقاً، ومعبراً، إلى القيم الإنسانية والروحية.. فالدنيا، في هذا المفهوم «العلمي»، وسيلة الأخرى.. ذلك بأنّ الفهم «العلمي» لا يقف مع ظاهر الأشياء وإنّما ينفذ إلى باطنها، يردّها إلى أصولها التي منها نبتت، وإليها تعود.. ومصدر كلّ شيء هو الله تعالى، وكلّ شيء إنّما إلى الله مرجعه: ((الله يبدأ الخلـق، ثمّ يعيده، ثمّ إليه ترجعون))..

إنّ المفهوم «العلمي» هو المفهوم الديني، هو الإسـلام، هو، بعبارة أكثر تحديداً، الفكرة الجمهورية.. وعلى هذا يمكن القول أنّ الإسلام وحده هو القادر على تحقيق السلام.. إنّه لهو، بما يملك من منهاج للعبادة، ومنهاج للمعاملة، في مستوى «السنّة»، الوحيد القادر على تحرير الفرد من الخوف، والقلق، حتى يحرز سلامه الداخلي، والخارجي.. وإذا سلم الأفراد، سلم المجتمع.. ثمّ أنّ الإسلام، بمفهومه الواعي، إنّما يقضي على كلّ أسباب النزاع بين الناس، سواء أكان نزاعاً على السلطة، أم على المال.. كما أنّه يزيل التمييز بسبب الجنس، أو اللون، أو العقيدة، وذلك إنّما يحققه الإسلام بتنظيمه الاجتماعي الذي يقوم على الاشتراكية، والديمقراطية، والمساواة الاجتماعية.. هذا التنظيم يعتبر بناء تحتياً، يقوم عليه البناء الفوقي، وهو عبارة عن التربية الفردية، وفق منهاج السنّة المطهّرة في العبادة والمعاملة..

إنّ العالم اليوم يعاني من تمزّق الأفراد، ومن الحروب الإقليمية، وهو يواجه موجات من الهوس الديني، والهوس السياسي، حيث يغتال الأبرياء، ويختطف العزّل، وتصادر الحرّيات، ويشاع الرّعب، والإرهاب في كلّ الأوساط، وتختطف الطائرات بما فيها من ركّاب بينهم النساء والأطفال، ويعرّضون للذعر الأيام والليالي ذوات العدد.. هذا هو العالم اليوم، وأخطر من ذلك، وأسوأ، أنّه إنّما يقف في مفترق الطرق، فإمّا أن يسلك الطريق الصاعد، المؤدّي إلى العزّة، والشرف، والقيمة، وإمّا أن يسلك الطريق الهابط المفضي إلى قاع الهمجية، والتخلّف، والحروب المدمّرة للحضارة، وللحياة.. ولذلك فإنّ الحاجة إلى السلام، لدى كلّ فرد، ولدى كلّ مجتمع، إنّما هي حاجة حياة أو موت، وهي حاجة يجب أن تكفي اليوم، وليس غداً.. فهل تجد كفايتها في عام ۱۹٨٢، عملاً جاداً، واتجاها حاسماً نحو التغير الجذري، ونحو تحقيق السلام الواسع العميق؟!

مهما يكن من الأمر، فإنّ الجمهوريين يسيرون في هذا الطريق، وهم اليوم، بهذا الكتاب، إنّما يعتبرون عام «٨٢» عام السلام، إذ يرجون أن تضع فيه الإنسانية قدمها في المسار الصحيح..

ولنا للمسلمين عامّة رجاء وهو ألا يعوّقوا البعث الإسلامي فيؤخّروا بذلك الصنيع خلاص الإنسانية اللاغبة في التيه اليوم، وإنّما يكون تعويقهم لبعث الإسلام بالمعارضة الجاهلة للفكرة الجمهورية.. ذلك بأنّها هي حركة البعث الإسلامي.. فالفكرة الجمهورية هي الدعوة إلى الإسلام، تقع، لأوّل مرّة، في وقتها.. وكلّ معارض لها اليوم يتعرّض لوعيد الآية: ((ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب، وهو يُدعى إلى الإسلام؟؟ والله لا يهدي القوم الظالمين..))..

أمّا نحن فإنّنا واثقون، كلّ الثقة، بأنّ وعد الله ناجز، وذلك حيث يقول في حقّنا، وحقّ المعارضين، المغرضين: ((يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم، والله متمّ نوره، ولو كره الكافرون..)) هذه الآية تلي تلك الآية السابقة، فكأنّ الصورة في حقّنا، وحق المعارضين، هكذا: ((ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب، وهو يدعى إلى الإسلام؟؟ والله لا يهدي القوم الظالمين * يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم، والله متمّ نوره، ولو كره الكافرون..))

فلينظر المعارضون أين يضعون أنفسهم.. أمّا نحن فإنّا نعيذهم بالله أن يتعرّضوا لهذا الوعيد..