إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الاستقلال

مراحل التخلّص من التبعية الاقتصادية في السودان:


ان من اولى الخطوات الاقتصادية والمالية التي خطتها السلطات الوطنية، هي ما تم في عام 1960م، ابّان الحكم العسكري، بقيام البنك المركزي، والذي حلّ محل لجنة العملة السودانية، وذلك بهدف ممارسة السيطرة المركزية على النظام النقدي، والاشراف المركزي على سياسات البنوك التجارية الاجنبية، والحيلولة دون ممارستها التي قد تؤدى إلى الاضرار بالمصالح الوطنية.. ولكن نظرا لأن الشركات التجارية الاجنبية، وهذه البنوك الاجنبية قد ظلّت قائمة تمارس نشاطها، فإنها كانت، على اقل تقدير، احرص على خدمة اغراضها الاجنبية منها على اغراض السودان..
وقد ظلت هذه البنوك، بطبيعة الحال، محتفظة بوضعها كفروع للبنوك الرئيسية في الخارج، بنفس القدر الذي به ظلّت الشركات الاجنبية موالية لرئاساتها في الدول الغربية..
ومن ثم فإن التنسيق، والتعاون، قد كان تاماً بين هذه المؤسسات الاجنبية في الداخل كما هو الحال في الخارج، وقد كان من نتائجه، استنزاف موارد البلاد، وتسرّبها إلى الخارج، وبالتالي حرمان البلاد من الاستفادة بالفائض النقدي، ليوجه في تنمية الاقتصاد الوطني.
والخطوة الثانية الهامة في ذلك العهد العسكري مجهودات لإعادة بناء، وتغيير هيكل الاقتصاد الوطني حيث اتجهت (الخطة العشرية للإنشاء والتعمير) نحو تحديث القطاع الزراعي، كما اتجهت نحو التصنيع بدلا من الاعتماد الكلّى على انتاج المواد الاولية (الخام)، التي ظلّت بها الدول الصناعية، تفرض علينا شروطا للتبادل التجاري في غاية من الاجحاف.. وفى الحق ان هذه من اولى المحاولات في طريق التحرّر الطويل، والشاق، من الارتباط، غير المتكافئ، مع الدول الصناعية، والذي به، مازالت تمارس نفوذها، وضغوطها السياسية على الدول الصغرى.. فلقد نشأ، خلال الحكم العسكري بعض مشروعات البنيات الاساسية الهامة، كمشروعات الطاقة الكهربائية والري، في سنّار، والرصيرص، وخشم القربة.. وهذه قد شكّلت اساسا طيبا لقيام المشروعات الصناعية والزراعية، التي بدأ بعضها ابّان ذلك العهد، وتم معظمها في عهد مايو..
رغم ذلك، فإن تلك المجهودات، قد كانت ولاتزال، بعيدة عن تحقيق مراميها، وانها قد واجهت من المعوقات، وصور الفشل، والاخطاء، ما استوجب، ولايزال يستوجب، بذل الجهد الكبير في مراجعتها، وتصحيح اخطائها، وازالة سلبياتها.
ولقد اعقبت حكومات الأحزاب الحكم العسكري، ولكنها سارت نفس السيرة التي سارتها بعيد استلامها السلطة من الحكم الأجنبي، حيث استأنفت صراعها حول السلطة، واقد انشغلت بهذا الصراع عن العمل الذي يعطى الاستقلال مضمونه الحقيقي، حين انصرفت عن مسئولية العمل الجاد في اعادة بناء، وتطوير الاقتصاد الوطني، وتحريره من الاستغلال الأجنبي..
وبينما شهدت البلاد، على عهد الحكم العسكري، على سوئه، واخطائه الاقتصادية، عملا لم ينقصه الجد والحماس في الميدان التنموي، فإنّا قد شهدنا، على عهد حكومات الأحزاب، صورا من التخريب الاقتصادي، نورد منها على سبيل المثال، مشروع محاربة العطالة الشهير، الذي كان اول عامل من عوامل التسيب الاداري، تبنته السلطة الحاكمة يومئذ، حين انصرفت عن اقامة مشاريع انمائية، تستوعب فيها القوة العاملة المتزايدة، وتتجه بها إلى تحرير الاقتصاد الوطني.. وكذلك اتجهت حكومات الأحزاب، ولأول مرة في تاريخ البلاد، استجلاب القروض التجارية لتوظيفها في سد الحاجات الاستهلاكية.. وما ذلك الّا لغياب المذهبية والمبادئ الاصلاحية لتلك الأحزاب، ولانحصار الحكومات.. كما كان بسبب من غياب التربية، والحماس الوطني، ان انحصر الولاء للحزب المعين دون المصلحة العامّة للبلاد..

مايو وجهود تحقيق الاستقلال الاقتصادي:


جاء نظام مايو إلى الحكم، وقد وجد نفسه في مواجهة مباشرة مع مشاكل، وعواقب، تبعية الاقتصاد الوطني للاقتصاد الغربي.. وبالرغم من ان ما بذلته مايو، من مجهود، لايزال بعيدا عن الهدف المطلوب، فإنها تعد، بالقياس إلى ما قامت به الحكومات السابقة، قد قطعت شوطا كبيرا على صعيد العمل التنظيمي، والتخطيطي، والتنفيذي، قاصدة اعادة بناء الاقتصاد الوطني وتطويره، على نحو يمهد السبيل لتحقيق الاستقلال الاقتصادي، الذي يعطى الاستقلال السياسي مضمونه الحقيقي.. فعلى الصعيد التنظيمي، فقد امّمت مايو البنوك والشركات الاجنبية، التي ظلّت على حالها كمؤسسات اجنبية، خلال عهدي العساكر وحكم الأحزاب. ولقد كان هذا العمل الكبير، في حد ذاته، خطوة هامّة نحو تمكين البنك المركزي من السيطرة على النظام المصرفي، وتوظيف نشاطه في خدمة الاقتصاد الوطني، والحيلولة دون تسرّب الموارد القومية، خارج البلاد.. ولقد لازم هذه الخطوة، عمليات التخطيط الاشتراكي التي تبنّاها نظام مايو، ولأول مرّة في تاريخ البلاد..
فاتجهت استراتيجية التنمية الاقتصادية بصورة واضحة ومحددة، نحو، اعادة بناء وتطوير الاقتصاد الوطني، بهدف وضعه في الاتجاه الصحيح نحو التحرير الاقتصادي. ولقد اتجهت استراتيجية التنمية، بذلك، نحو محاولة التحرّر من قيود التقسيم الدولي للعمل، والتي فرضتها الارادة الاستعمارية، حين فرضت علينا انتاج المواد الاولية الخام، وتخصصت هي في تصنيع هذه المواد، ولقد عانينا من هذا التقسيم التعسفي، تدهورا في شروط التبادل التجاري، حين أصبحنا نبيع صادراتنا الخام بأثمان منخفضة، ونشترى المنتجات الصناعية، بأسعار مرتفعة، مما ترتب عليه حدوث العجز المتكرّر في ميزاننا التجاري، الأمر الذي الجأنا للاقتراض، او طلب المنح من الدول الصناعية وغيرها من الدول الغنية.. لذلك، وفى اتجاه لتحرير، جاء ضمن استراتيجية التنمية المبادئ الآتية: -
1) السعي نحو تقليل الاعتماد على الاستيراد بتوجيه جزء من الخام المحلّى لصناعة السلع البديلة للاستيراد كالسكر، والاقمشة الشعبية، والجوت وغيرها..
2) تفادى هبوط الاسعار العالمية لصادراتنا من السلع الاولية، بتصديرها في هيئة سلع مصنّعة، كالقطن المغزول، والزيوت، والجلود المدبوغة..
3) التوسع في تنويع انتاج السلع الاولية المصدرة لتفادي خطورة الاعتماد على محاصيل محددة، في ظروف تقلب اسعار المواد الاولية في السوق العالمي.. وقد شمل ذلك التوسّع في زراعة الفول والذرة، في المشاريع الزراعية الكبرى في الجزيرة، والرهد، والسوكي، وحلفا الجديدة.
4) توسيع وتحديث هيكل القطاع الزراعي، بالتوسع في منشآت الري، والآليات الزراعية لزيادة معدّل الانتاج الزراعي، ومن ثم زيادة الدخل القومي، ليساهم اكثر في زيادة الفائض الاقتصادي (مشاريع: الرهد، والسوكي، وجنقلي)..
هذا ومن الواضح ان الخط الاشتراكي الذي تبنّاه هذا النظام، طريقا للتحرّر الاقتصادي، قد اخذ بعدين اثنين: الاول هو العمل على تحرير الاقتصاد الوطني من نفوذ، واستغلال، رأس المال الأجنبي، داخل البلاد.. وذلك قد ظهر، أول ما ظهر، في إجراءات التأميم للبنوك والشركات الاجنبية، وفى تبنى النظام، منذ مطلع عهده، منهاج التخطيط الاقتصادي، لضمان الاستغلال الرشيد للموارد القومية..
امّا البعد الثاني، وهو امتداد للأول، فهو محاولة السعي، بالتخطيط الرشيد لتحرير الفرد السوداني، من استغلال اصحاب رأس المال الوطني، وهو عمل يأتي مكمّلا وموجها توجيها صحيحا إذا ما قام على المذهبية الإسلامية العلمية، على نحو ما دعونا له في كتبنا وبخاصة كتاب: (الرسالة الثانية من الإسلام).. وعموما هو عمل يبدأ بسيطرة الدولة على الاقتصاد الوطني، عن طريق ملكيتها لأهم وسائل ومصادر الانتاج، وتوجيه نشاط ما لم يزل منها مملوكا للقطاع الخاص.. وينتهي إلى غاية هي سيطرة المجتمع، وليس سيطرة الدولة، على الاقتصاد الوطني.. وخير ما يعبّر عن ذلك هو الاشتراكية التعاونية، التي يتجاوز، بها المجتمع السائر في طريق الاشتراكية الواعية مرحلة رأسمالية الدولة، إلى غاية هي سيطرة المجتمع الحر على مقدراته..
غير ان الاهداف التي اتخذت مايو من التنمية الاقتصادية الشاملة اساسا لتحقيقها، قد واجهت من المصاعب الجمّة، ما اخّر الخطى نحو بلوغها، وان كان ما بذل، ويبذل الآن من مجهود وما تحقق من مكاسب في مجالات الوعي، والانجاز التنموي والسياسي – قياسا على ما مضى – يؤكد ان شوطا قد قطع نحو تحقيق تلك الأهداف، وان كانت الشقة بيننا وبين بلوغها بعيدة المدى..
والواجب المباشر الذي يواجه الشعب اليوم، هو فيما يشبه مرحلة الانتقال، هو القيام بدوره الفعّال في ازالة المعوقات والعقبات التي تواجهها التنمية في البلاد، وهذا بالطبع لا يتم الا إذا واجه كل فرد منّا، مهما كان موقعه، سلبياته، وقصوره الذاتي، اذ ليس من احد، من قمّة السلطة إلى سواد الشعب، الّا وله مسئوليته التي تليه، في جانب من جوانب التقصير العام التي منيت بها برامج التنمية القومية..
واول ما تستوجب ظروف التنمية القومية، هو توفير الموارد وهو لا يتم الّا إذا تجاوز انتاجنا استهلاكنا.. غير أن نمط سلوكنا العام، هو اننا نستهلك أكثر مما ننتج.. وقد انعكس هذا التصرّف غير المرشّد، في عجز الميزان التجاري حين تجاوزت قيمة وارداتنا قيمة صادراتنا فبلغ العجز نحو 700 مليون دولار. كما تجاوز الانفاق العام للدولة، الايرادات العامة، وكان من أكثر اسباب هذا العجز، هو الزيادة العامة في الاجور، والمرتبات التي يتقاضاها العاملون، دون ان يقابلوا هذه الزيادة في الدخول، بزيادة مماثلة في الانتاج..
ونحن نعتقد انه، برغم تعدد الاسباب، والعوامل التي تساق دائما ممن يتعرّضون لمشكلة التنمية بالسودان، فإن السبب الجوهري الذي نحن حريصون على التركيز عليه، هو قلة الوعي، ونقص الاخلاق، واليها يرجع فشلنا في التواؤم مع البيئتين الداخلية والخارجية، واللّتين تواجهنا تحدياتهما الآن.. ففي الداخل نحن نواجه بظروفنا ومتطلّبات التنمية الاقتصادية، وفى الخارج نواجه بظروف الغلاء العالمي، وهذه تزيد كل عام من عجز ميزاننا التجاري، وكلاهما تتطلّبان زيادة الانتاج، وضغط الاستهلاك.. وانما بالمقدرة على التكيّف مع البيئة تكتسب المجتمعات المقدرة على التطور، وتجاوز الظروف الصعبة.
ان ما ينقص شعبنا اليوم هو الوعي، والاحساس الحقيقي بضرورة توحيد وتعبئة الجهود القومية، وتقويم السلوك العام، وتوجيهه نحو انجاح العمل التنموي، وهذا هو العامل المطلوب لضمان نجاح خطط التنمية في أي مكان.. ونجاح التنمية في السودان، سيؤرخ بداية التحرّر من الحاجة والتبعية الاقتصادية التي هي من أكبر منقصات الاستقلال، والارادة الحرّة..