إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الاستقلال

المذهبية والإصلاح وبروز الكتلة الثالثة:


(الذمم الخربة)، و(الهمم الميتة): هذه هي العبارات التي أوجز بها الرئيس نميري (جوهر الازمة) وهو يطرح برنامج الانعاش الاقتصادي.. وتلك عندنا ايضا هي الأزمة الحقيقية، التي ما فتئنا نكرّر توكيدها للشعب، وللسلطة!! ومن هاهنا تجيء الحاجة الملحة اليوم للمذهبية، وذلك بأن، (اصلاح الذمم) و(احياء الهمم)، لا يتمّان الّا بالمذهبية الرشيدة، التي تملك منهاجا لإصلاح النفوس، وتنوير العقول، وتوحيد الارادة القومية، وبما تملك من وسايل علمية لتحقيق المساويات الثلاث: (المساواة السياسية) - الديمقراطية، و (المساواة الاقتصادية) – الاشتراكية، و(المساواة الاجتماعية).. وهذه المذهبية، كما نقدمها نحن الجمهوريين، هي مذهبية (التوحيد)، بنشر الفكر الإسلامي الواعي، المهيمن، والقادر وحده، على اعادة بناء هذا الشعب أخلاقيا، وتوحيده فكريا، بهذه المذهبية يتم ابراز (الكتلة الثالثة) عندنا ليتصفّى فيها اليمين المتطرّف، واليسار المتطرّف، واللّذان يتمثلان عندنا في دعوات الهوس الديني، والتضليل الشيوعي، وهما يجتمعان، وان اختلفا عقائديا، في اثارة البلبلة، وتخذيل الشعب وتحريضه على سلطة مايو، للحيلولة دون تعاونه البنّاء مع النظام، لإنجاح العمل الاقتصادي، المؤدى إلى تحرير البلاد من الاستغلال الخارجي، وتحرير الفرد من الاستغلال الداخلي..
هذه المذهبية، هي ايضا، السبيل إلى توحيد الارادة العالمية، وبروز الكتلة الثالثة، في العالم، لتتم بها تصفية الانظمة الشيوعية (الاستعمار الحديث)، والانظمة الرأسمالية (الاستعمار القديم)، والتي تصطرع اليوم حول السيادة على العالم..
ولقد برزت اليوم عوامل اقتصادية، ايجابية في العالم الثالث غيرت موازين القوى الاقتصادية، واضعفت من فعالية ادوات السيطرة القديمة، التي كانت تستغل بها الدول الغربية، كل دول العالم الثالث ايما استغلال.. كما جدّت تطورات اخرى بها تكشّفت حقيقة الشيوعية الدولية، واطماعها في احلال سيطرتها محل النفوذ الغربي في العالم الثالث، عن طريق تضليل شعوب هذه العالم بدعاوى المذهبية، ودعاوى الحرص على تحريره من الاستغلال الغربي. وما يجري في الشرق الاوسط اليوم من صراع، لهو من دلائل تآمر الشيوعية الدولية، للسيطرة على منابع النفط، وعلى حريات شعوب المنطقة.. وانه لمن المؤكد عندنا، ان الخطر الماثل اليوم، هو الخطر الشيوعي الذي لايزال منطليا على الشعوب..
ولعلّه من العوامل الايجابية التي برزت في العالم اليوم، هو ظهور البترول، واحتلاله مركزا اقتصاديا لم يسبق ان احتلته مادة اولية من قبل!! ولقد ادّى تصاعد اسعاره إلى تراكم الفوائد المالية، لدى الدول النامية المصدرة له، كما ادى إلى تراكم العجوزات في اقتصاديات بعض الدول الصناعية.. ولقد أصبح الغرب الصناعي بهذا التطور الجديد، أكثر احساسا، من اي وقت مضى، بالحاجة للتعاون المتكافئ مع الدول النامية، المنتجة للبترول، لمعالجة العجز في ميزانه الخارجي، ولاستغلال فائض دول البترول لإعادة تنشيط اقتصاده.. كما احسّت الدول الصناعية بضرورة التعاون مع الدول البترولية، لإعانة الدول النامية الفقيرة ماليا، لتتمكّن هذه الاخيرة قي ظروف هذا الغلاء الطاحن، من توفير مقومات انتاجها. ولا شك ان للدول الغربية مصلحة كبرى، في إنعاش اقتصاديات الدول الفقيرة، لأن في ذلك رواجا لسوق صناعتها، وتأمينا لمصادر الخام التي تحتاجها صناعاتها.. وقد عبّر عن ذلك، اصدق تعبير، الرئيس الفرنسي (متران)، في مؤتمر باريس، المنعقد في سبتمبر الماضي، من اجل بحث مشاكل الدول النامية، فقال: (ان مساعداتنا لدول العالم الثالث، هي مساعدة لأنفسنا).. ومن اجل هذا الهدف، انعقد في اكتوبر الماضي بالمكسيك، مؤتمر (كانكون)، لرؤساء دول الشمال الصناعي، والجنوب النامي، في العالم.
ثم إنه بجانب خام البترول، فإن لبعض الدول النامية الاخرى مستقبلا ينتظرها، ليس بأقل تأثير على موازين القوى الاقتصادية من البترول، وذلك هو مخزونها الغذائي الذي تنطوي عليه اراضيها البكر الواسعة.. فمستقبل العالم يتهدده الانفجار السكاني ويخيم عليه شبح المجاعة..
ومن فضل الله على بلادنا هذه، ان جعل لها من كلا الموردين الهامين مستقبلا مبشرا – البترول وموارد الغذاء – كما من فضل الله عليها ايضا، أنه قد اعمى بصيرة المستعمر عن بترول السودان، فأعان ذلك على سرعة جلائه عن البلاد!!
وهناك تطور ايجابي آخر، لمصلحة دول العالم الثالث، مادة (الكتلة الثالثة) الخام، وقد أصبح لصيقا بأمر تحريرها من التبعية المالية لدول الغرب، وذلك هو قيام ونشاط، مؤسسات التمويل الدولية، المتبقية من منظمة الامم المتحدة، كالبنك الدولي وفروعه، ورفيقاته، التي تشارك الدول النامية في رسم سياساتها وتحاول الحيلولة دون ان تستغلّها الدول الغربية، على نحو لا يخدم مصالح الدول النامية، كما ينبغي، أو يؤدي إلى المساس باستقلالها..
هذا وقد ساعد ثقل وزن دول العالم الثالث البترولية، المتزايد، كمساهم في موارد هذه المؤسسات العالمية، في دعم الجهود المبذولة لتحييدها، ولوزن الكفّة لصالح الدول النامية، بعد ان كانت مائلة ميلا يكاد يكون تامّا، لصالح الدول الغربية.
هذه بالنسبة للدول الغربية، امّا الدول الشيوعية فهي لا تكاد تملك قوة اقتصادية، تستغلّها للسيطرة على العالم الثالث.
ولكن لا يعني هذا القول انها قليلة الخطر، بل انها على التحقيق، أشد خطرا، واسوأ نوايا من الغرب الرأسمالي، لأنه انما يجئ خطرها من التضليل العقائدي، ومن التستر الماكر خلف مظاهر الحرص على تحرير الشعوب من سيطرة الاستعمار الغربي، مستغلّة في ذلك حداثة عهد الشعوب بها، وقدمه بالنسبة للاستعمار الغربي..
وهكذا فقد تهيأت الظروف المادية في السودان لبروز الكتلة الثالثة، بقيام ثورة مايو التي اتخذت خطا سياسيا قوميا، وسطا، ومتوازنا بين تطرّف اليمين السلفي، وتطرّف اليسار الشيوعي، والتي اسكنت الفتن الداخلية التي أشاعتها الاحزاب، ومزقت بها وحدة الشعب. كما اقامت مايو هياكل البناء الاقتصادي، وفق منهج التخطيط الاشتراكي، وهيأته بذلك لنفخ روح المذهبية الاخلاقية فيه لتحركّه، وتوجهه، نحو تحقيق الكفاية، والوفرة، والعدالة الاجتماعية..
كما تهيأت الظروف العالمية اليوم، على نحو ما أشرنا اليه آنفا، بتزايد عناصر القوى الاقتصادية، في بعض دول العالم الثالث، وتناقص قوة ادوات الضغط الاقتصادي الغربي مع تزايد الاحساس المشترك بارتباط المصالح الاقتصادية، وتزايد الشعور بالخطر الشيوعي، المباشر، على دول العالم الثالث، والزاحف نحو منابع البترول..
ولإبراز الكتلة الثالثة، التي تصّفي الكتلتين الغربية الرأسمالية، والشرقية الشيوعية، وتعيد صياغة العلاقات الاقتصادية والسياسية بين أمم العالم، على أسس من العدل والتعاون، والانسانية، فنحن نقدّم أيضا المذهبية الإسلامية الواعية، بدقتها وعلميتها، وتكاملها، والتي تقوم على الاشتراكية في الاقتصاد، وعلي الديمقراطية في السياسة، وتجمع بينهما، في سياق واحد، وبهما توحّد العالم، وتحقق له العدل، والمساواة، والحرية، والسلام..