إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

جنوب السودان
المشكلة!! والحل!!

الاستعمار الإنجليزي المصري ومشكلة الجنوب


إن كل ما سبق من حديث عن مشكلة الجنوب، إنما برزت أثناء الحكم الثنائي (1898م – 1956م) كنتيجة مباشرة لسياسة الاستعمار الإنجليزي القائمة على مبدأ (فرق تسد).. تلك السياسة التي عملت وفق تخطيط محدد لتعميق الخلافات القائمة بين الشمال والجنوب، وتصعيدها حتى تكون سبباً للصراع بين الإقليمين، بصورة يصعب معها الوفاق، وتصعب الوحدة.. وقد عمل الإنجليز أثناء فترة حكمهم، بصورة محددة، على فصل الجنوب عن الشمال لخدمة أغراضهم الاستعمارية في السودان، وفي أفريقيا.. وقد استغلوا في عملهم هذا الاختلافات العنصرية والدينية، كما استغلوا تجارة الرقيق، وأوجدوا من السياسات والقرارات الإدارية، ما يحول دون أي وجود عربي إسلامي في الجنوب، يمكن أن يتم من خلاله تعامل بين الإقليمين. وبالإضافة إلى ذلك زرعوا عدم الثقة في الشماليين، في نفوس الجنوبيين، كما عملوا على خلق وتنمية الاختلافات الثقافية بين الإقليمين..
ويمكن تقسيم السياسية البريطانية نحو جنوب السودان إلى ثلاث مراحل هي: المرحلة الأولى، وهي تبدأ بدخول الاستعمار الإنجليزي وتستمر حتى نهاية الحرب العالمية الأولى وقيام ثورة 1919 المصرية، وهذه المرحلة تعتبر مرحلة تمهيدية لسياسة فصل الجنوب، أما المرحلة الثانية والتي تستمر حتى 1947م، فقد تمت فيها الإجراءات الفعلية لتنفيذ سياسة فصل الجنوب، وخلق المشكلة بينه وبين الشمال.. أما المرحلة الثالثة (1947 م – 1955م) فقد ظهر فيها فشل سياسة الفصل فتم التراجع عنها.. ونحن هنا سنتناول هذه المراحل بشيء من الإيجاز..

المرحلة الأولى للسياسة البريطانية في الجنوب


لقد كان هم الإنجليز الأساسي في الجنوب في هذه الفترة هو حفظ الأمن والنظام، وتأكيد سلطتهم على القبائل بفرض إدارة قوية.. وقد بدأ في هذه الفترة التبشير المسيحي في الجنوب من جديد بعد أن توقف في فترة المهدية، فقد سمحت الحكومة للمبشرين بممارسة نشاطهم، وشجعتهم على ذلك، وخصصت لكل هيئة تبشيرية منطقة خاصة بها.. كما اتجهت الحكومة البريطانية في هذه المرحلة إلى الحد من انتشار الإسلام في الجنوب، فقررت استبدال الجيش المصري سنة 1911 بقوات محلية تحت إشراف ضباط إنجليز سميت فرق الاستوائية.. وقد جعلت الحكومة كل مديرية من مديريات الجنوب الثلاث مستقلة بشئونها إلى حد كبير.. ولقد لخص اللورد كرومر دوافع بريطانيا في تشجيع التبشير المسيحي والعمل على الحد من انتشار الإسلام في تقرير له، كان ضمن ما جاء فيه قوله: (إن سكان هذا القسم وثنيون كلهم لم يروا واحداً من المسيحيين إلا قريباً. واتصالهم بالمسلمين يذكرهم بفظائع الدراويش والنخاسين العرب).
كتاب (العلاقات العربية الأفريقية) ـ إصدارة: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، صفحة 285 ـ
وفيما بعد، في عام 1929، بيّن هندرسون غرض الإنجليز بعبارات أوضح من عبارات كرومر، فقد قال: (إن إنجلترا كدولة مسيحية لا يمكنها بحكم دينها أن تشارك في سياسة تشجيع انتشار العروبة والإسلام بين شعب يزيد على ثلاثة ملايين وثني إذ أن ذلك قد يترتب عليه نتائج مدمرة بالنسبة لمصالحها) ـ المصدر السابق، صفحة 273 ـ وقد رأي ونجت حاكم عام السودان آنذاك في فرق الاستوائية التي حلت محل القوات المصرية والجنود الشماليين أنها تشكل (حاجزاً إفريقياً له قيمته ضد أي ثورة عربية في السودان).. المصدر السابق، صفحة 290 ـ ولدعم العزلة بين الجنوب والشمال، استبدلت إجازة يوم الجمعة الأسبوعية في الجنوب بيوم الأحد، وقد عمم ذلك على جميع أنحاء الجنوب ابتداء من 3 يناير 1918.

المرحلة الثانية (1920 – 1946)


في هذه المرحلة وبعد ثورة 1919 المصرية، وحركة 1924 السودانية ذات الارتباط بمصر، رأت بريطانيا أن مصالحها الاستعمارية في السودان، وشرق أفريقيا، تقضي بأن تنتهج سياسة تهدف إلى فصل الجنوب عن الشمال أملاً في أن يتم ضمه في المستقبل لممتلكات بريطانيا في يوغندا، وشرق أفريقيا.. ولتحقيق هذا الغرض اتجهت السياسة الإنجليزية إلى عزل الجنوب عن الشمال ثم تصفية الوجود الشمالي في الجنوب بشتى الوسائل..
ويمكن تلخيص أهم معالم هذه السياسة فيما يلي: ـ
منع مديري المديريات الجنوبية من حضور اجتماع مديري المديريات الذي كان يعقد سنوياً في الخرطوم، فكان عليهم أن يجتمعوا وحدهم في الجنوب وأن يكونوا على اتصال بزملائهم في يوغندا وكينيا.. ولقد وصلت إلى لجنة (ملنر) ثلاث مذكرات عن الوضع بالنسبة لجنوب السودان، كانت الأولى منها بتاريخ 15 فبراير 1920 بعنوان (فصل السودان عن مصر)، وتبحث هذه المذكرة في (اللامركزية في حكومة السودان بهدف فصل الزنوج عن الأراضي العربية) - المصدر السابق، صفحة 293 - والمذكرة تقترح فصل السودان إلى شمالي وجنوبي وإقامة خط فاصل يمتد من الشرق إلى الغرب حددت مواقعه.. وبعد هذه المذكرة بعشرة أيام أعدت السلطات المسئولة في الخرطوم مذكرة جديدة ذات تصور أكثر تحديداً وقد جاء فيها: (أن حكومة السودان سوف تكون على استعداد للاندماج في حكومات أملاك أفريقية أخرى مثل أوغندا وشرق أفريقيا إذا كان الأمر يخص الزنوج.. أما المديريات العربية فهي تحتاج إلى معاملة مختلفة وعلى ذلك فيجب أن تبحث مسألة إقامة إتحاد لوسط أفريقيا تحت الإدارة البريطانية يضم بالطبع زنوج السودان).. المصدر السابق، صفحة 293 ـ
وفي مذكرة صدرت في 14 مارس 1920 جاء (إن سياسة الحكومة هي الحفاظ على قدر الإمكان بجنوب السودان بعيداً عن التأثير الإسلامي ففيه يتم توظيف المآمير السود، وعندما يكون من الضروري إرسال كتيبة من المصريين فيختار الأقباط. وأصبح يوم الأحد هو يوم الإجازة بدلاً من يوم الجمعة كما في الشمال هذا بالإضافة إلى تشجيع المشاريع التبشيرية). وتواصل المذكرة: (ينبغي أن يوقر في الأذهان إمكانية فصل مناطق الجنوب الأسود من السودان عن مناطق الشمال (العربي) وربطه بتنظيم لأواسط أفريقيا) ـ المصدر السابق، عن، مدثر عبد الرحيم (تطور الإدارة الإنجليزية في جنوب السودان)، صفحة 7.
2- في سبتمبر 1922 صدر قانون المناطق المقفولة، والذي بمقتضاه جعل الجنوب منطقة مقفولة لا يجوز دخولها أو الخروج منها إلا بإذن خاص من السلطات (وقد هدف هذا القانون إلى إبعاد الشماليين والمصريين من جنوب السودان واستبدالهم بالأغاريق والسوريين المسيحيين، وتقليل أعداد الجنوبيين الراغبين في الانتقال للعمل في الشمال. وصدر قانون آخر في سنة 1925 منع الشماليين من التجارة في الجنوب إلا بإذن خاص من السلطات) ـ دكتور حسن أحمد إبراهيم (تاريخ السودان الحديث) صفحة 138.. وكان التاجر الذي يرفض الرحيل يجبر على ذلك ثم تنتحل أي أسباب لإبعاده فقد جاء في التوجيهات الإجبارية (وإن كان منهم من يرفضون الرحيل وترون ضرورة التخلص منهم يبيّن أسباب ذلك بقول أو بآخر مثل "المتجر خالي من البضائع" أو "لا يؤدي أي عمل" أو "شخصية رديئة " الخ - مدثر عبد الرحيم، المصدر السابق، صفحة 94..
3- لتنفيذ سياستها اتجهت الحكومة إلى القضاء على اللغة العربية في الجنوب واستبدالها باللغة الإنجليزية واللهجات المحلية وبذلت الحكومة مجهوداً كبيراً في هذا الصدد، فشجعت الموظفين الإنجليز على تعلم اللغات الجنوبية، ووصل بها الأمر حد تشجيع الجنوبيين على استبدال أسمائهم العربية بأسماء قبلية، وأن يتركوا لبس الملابس العربية واستبدلوها بالزي الإفرنجي.
4- عملت الحكومة على إبعاد الموظفين الشماليين العاملين بالجنوب، واستبدالهم تدريجياً بموظفين جنوبيين، ولتحقيق هذا الغرض فتحت بالتعاون مع المبشرين عدداً من المدارس الأولية والوسطى..
5- وضعت الحكومة التعليم في الجنوب في يد الإرساليات المسيحية لنشر المسيحية وربط الجنوب بالحضارة الغربية وتمكين العزلة الثقافية بينه وبين الشمال.. وقد كان يصرف على التعليم التبشيري من ميزانية الحكومة، التي تأتي أساساً من المديريات الشمالية (بلغت المعونة الحكومية لمدارس الإرساليات عام 1924 مائة وخمسين (150) جنيهاً فقط، زادت عام 1927 إلى 3800 جنيهاً، وقفزت بعد ذلك ثلاث سنوات لتبلغ 7550 جنيهاً) - كتاب (العلاقات الإفريقية العربية)، صفحة 307 -
وعن حجم التعليم التبشيري بالجنوب جاء بالمصدر السابق صفحة 32: (وتظل المدارس التبشيرية في ازدياد في بالجنوب لتقفز عام 1934 إلى 368 مدرسة منها 310 من مدارس الشجر وخمسين مدرسة أولية للبنات والبنين وتزداد مدارس المعلمين لتصبح اثنتين، وبعد ذلك بعامين تزداد مدارس الشجر 83 مدرسة أخرى والمدارس الأولية خمسة مدارس كما تزداد مدارس المعلمين مدرسة واحدة).
وقد لعب المبشرون دوراً كبيراً في خلق مشكلة الجنوب، حتى بعد استقلال السودان.. وقد كانت الجمعيات التبشيرية تعارض قيام (سودان موحد)، لأنها: (من ناحية ترى أن أبناء الشمال سيجعلون من الإسلام ديناً للسودان كله، وهي من ناحية أخرى تعتقد أن الشماليين سيفرضون القيود على الحرية الدينية، وثم أنها أخيراً تؤمن بأنه لن يمضي وقت طويل حتى يتم إخضاع التعليم في الجنوب للإشراف الحكومي) - المصدر السابق، صفحة 326 - وقد كان المبشرون أثناء عملهم التعليمي يحرصون على الحديث عن تجارة الرقيق بالجنوب، ويصورونها على أنها من أعمال العرب الشماليين، مما أدى إلى إيغار صدور الجنوبيين على الشماليين وعمّق أسباب العداوة..
(وفي سنة 1930 أعلنت الحكومة رسمياً سياستها الانفصالية في مذكرة أعدها السكرتير الإداري هارولد ماكمايكل وأرسلها إلى مديري المديريات الجنوبية الثلاث ورؤساء المصالح) ـ كتاب (تاريخ السودان الحديث)، دكتور حسن أحمد إبراهيم، صفحة 139 ـ وقد بلغت السياسة الانفصالية ذروتها في منتصف الثلاثينات، إلا أن هذه السياسة قد فشلت في النهاية.

المرحلة الثالثة (1947 – 1955)


لقد أدت أسباب عملية الي فشل سياسة فصل جنوب السودان، ومن هذه الاسباب صعوبة تطوير المواصلات بين الجنوب وشرق افريقيا، والحاجة للشماليين في العمل في الجنوب بالإضافة الي عودة النفوذ المصري بعد معاهدة 1936 والنقد الذي لقيته سياسة الفصل من السياسيين المصريين ومن الصحافة المصرية.. هذه بالإضافة الي أن الحركة الوطنية السودانية نفسها قد بدأت تنشط في هذه الفترة، قبيل الحرب العالمية الثانية. وقد تضمنت المذكرة التي رفعها مؤتمر الخريجين سنة 1942 المطالبة بإلغاء قوانين المناطق المقفولة، ورفع القيود عن حرية التجارة وتنقل السودانيين داخل السودان، ووقف الاعانات التي تقدم للمدارس التبشيرية وتوحيد مناهج الدراسة في الشمال والجنوب.. كما أن ظروف الحرب العالمية الثانية أعانت على أن تغير بريطانيا من سياستها تجاه الجنوب لكسب القوي الوطنية في مصر والسودان.. ففي 16 ديسمبر 1946، وجه المستر روبرتسون السكرتير الإداري مذكرة الي رؤساء الادارات ومديري المديريات جاء فيه عن الجنوبيين: (ان العوامل الجغرافية والاقتصادية تحتم توحيدهم في مستقبل تطورهم، توحيدا لا انفصام له، مع السودان الشمالي الذي من صفاته الاساسية أنه جزء من الشرق الاوسط وانه مستعرب.. وبناء عليه فإن سياستنا تستهدف إعانة الجنوبيين عن طريق التطور التعليمي والاقتصادي حتى يستطيعوا الاعتماد على أنفسهم مستقبلا ويكونوا اندادا متساويين اجتماعيا واقتصاديا مع شركائهم وزملائهم من السودانيين الشماليين في سودان المستقبل الموحد)..

مؤتمر جوبا 1947


عقد في 13 يونيو 1947 مؤتمر بجوبا لمناقشة مسألة الجنوب تحت رئاسة السكرتير الاداري السير جيمس روبرتسون، وقد حضره مديرو المديريات الجنوبية الثلاث، ومدير شئون الخدمة، وسبعة عشر جنوبيا من زعماء القبائل المثقفين، وستة من الشماليين. وقد توصل المؤتمر الي ان رغبة الجنوبيين هي الاتحاد مع الشماليين في سودان موحد.. وقد قبلت الحكومة هذا القرار وجعلته أساسا لسياستها الجديدة، وحاولت إزالة بعض الحواجز التي اصطنعتها بين الشمال والجنوب، فأدخلت تعليم اللغة العربية في مدارس الجنوب فوق الأولية سنة 1950.
ورغم أن بريطانيا قد غيرت من سياستها نحو الجنوب في نهاية الأمر، الا أن تلك السياسة قد تركت جوا من التشكيك، وعدم الثقة، عند الجنوبيين نحو الشماليين، وخلقت من أسباب الفرقة والصراع بين الشمال والجنوب ما جعل مشكلة الجنوب تستمر، وتتفاقم، الي الحد الذي أدت فيه الي حرب أهلية طويلة..
وعندما نشأت الاحزاب الشمالية في الشمال، ولجات الي اسلوب المفاوضات مع دولتي الحكم الثنائي، لم تشرك الجنوبيين معها.. وعند قيام وفد الاحزاب الي مصر لم يكن الجنوبيين ممثلين فيه، الأمر الذي زاد من شعور الجنوبيين بالعزلة، وهكذا لم تحرص الاحزاب الشمالية على توثيق صلتها بالجنوبيين.. وعقب اتفاقية 1953 المصرية - البريطانية والتي أعطت السودان الحكم الذاتي وحق تقرير المصير، أعلن الساسة الجنوبيون ان هدفهم هو إقامة نظام فدرالي في السودان يمنح بمقتضاه الجنوب الحكم الذاتي.. وقد أصبح الحكم الذاتي هو المطلب الأساسي للجنوبيين بعد الاستقلال، الا أن بعض المتطرفين منهم كانوا يطالبون بالاستقلال التام..