إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

تعلموا كيف تصلون

الوضوء


وإنما من أجل الحضور في الصلاة فرض الوضوء مقدمة لها، وهو طرف منها، تجب له من الحرمة ما يجب للصلاة.. وللوضوء آداب، أولها الذهاب لبيت الخلاء للاستبراء من الفضلات، ثم السواك، حيث أمكن، فإن لم يتيسر بالمسواك فبالأصبع، على نية النيابة عن السواك، وذكر اسم الله، والحضور في الوضوء، في كل حركاته، وذلك بتنقل النية، وبتجديدها، عند جميع الأعضاء.. فلا تنوِ الوضوء عند غسل الوجه، مثلاً، ثم تذهب في غفلة، أو في جولان بال، أو في ثرثرة مع من يجالسك من الناس.. فإن الوضوء السليم طرف من الصلاة، كما قلنا، فلا تصح الثرثرة أثناءه.. وفي الحق، إن حكمة مشروعيته تقوم على تطهير الظاهر، والباطن.. فأنت، حين تطهر الأعضاء من النجاسة ((الحسية))، بالماء ((الحسي)) يجب أن تطهر الباطن - القلب - من النجاسة ((المعنوية)) بالماء ((المعنوي)) - ((العلم)).. فإنه عندهم أن ((الماء)) ((للظاهر)) يقابله ((العلم)) ((للباطن)).. وفي قوله تعالى: ((أنزل من السماء ماءً، فسالت أودية بقدرها، فاحتمل السيل زبداً رابياً، ومما يوقدون عليه في النار، ابتغاء حلية، أو متاع، زبد مثله.. كذلك يضرب الله الحق والباطل.. فأما الزبد فيذهب جفاء.. وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.. كذلك يضرب الله الأمثال)) قال ابن عباس: الماء القرآن، الأودية القلوب..
عندما تأخذ إبريقك لتذهب ((للأدبخانة))، ابدأ بتقديم رجلك اليسرى، وأنت داخل، واستحضر اسم الله في قلبك، من غير أن تلفظه بلسانك، ثم اجلس، غير مستقبل القبلة، ولا مستدبرها.. ومن الخير أن تكون القبلة عن يمينك.. ثم، وأنت تستبرئ، فكر جيداً في هذه الفضلات التي تفرزها، هل كانت من أكل حلال، وشرب حلال؟؟ فإن تذكرت حراماً في كسبك فاندم عليه، واستغفر، وحاول أن تصحح من كسبك.. فإذا كان كسبك حلالاً، فهل أسرفت في تناوله؟؟ أم هل اعتدلت؟؟ ثم إذا أنت فرغت، واستبرأت، وتطهرت، ففكر في عظيم النعمة عليك في هذا التخلص من الأذى، وكن شاكراً لله.. ثم، عند الخروج، قدم رجلك اليمنى.. ثم أنت، إذا أخذت مجلسك للوضوء، فيجب أن تستقبل القبلة، كما تفعل في الصلاة، وأن تكون مستور العورة كذلك.. فإذا كان الإناء الذي تتوضأ منه إناءً مقفولاً فضعه عن شمالك.. وإذا كان إناءً مفتوحاً فضعه عن شمالك، أولاً.. ولا تدخل يدك فيه، ولكن أصغه حتى تصب الماء على يدك اليمنى.. فأغسل كفيك ثلاثاً، تخلل خطوط راحتيك، وفواصل الأنامل، وما بين الأصابع، وظاهر الأظافر، وتحتها.. وفي الغسلة الثانية للكفين، ومن أجل ضمان تخليل ما تحت الأظافر، ضم أصابع يدك اليمنى، واضرب برؤوسها المجتمعة على الماء المتجمع في راحة كفك اليسرى، مرة، أو مرتين، لكيما يتخلل الماء تحت الأظافر.. وافعل بأصابع يدك اليسرى على راحة يدك اليمنى مثل ذلك.. ثم أغسل الكفين الغسلة الثالثة.. ثم حول الإناء المفتوح إلى جهة اليمين، لتدخل فيه يدك، وتواصل وضوءك.. واعلم أن الأبواب التي يدخل منها الظلام، أو النور، على القلب إنما هي الحواس، والجوارح.. فإن نحن حاسبنا أنفسنا على ما نجترح بحواسنا، وجوارحنا، دخل على القلب النور.. وإن نحن استرسلنا بغير حساب، ولا رقابة، دخل على القلب الظلام.. وعملنا، في هذا الباب، يقع بين ((المراقبة))، و((المحاسبة)).. والمراقبة تعني حضور الفكر، ساعة العمل، حتى ندفع الخطأ قبل وقوعه.. والمحاسبة تعني تذكر الخطأ بعد وقوعه، وجبره بالاستغفار، والتوبة.. وهم يقولون: ((بالمحاسبة)) يتم جبر ما أفلت عن ((المراقبة)).. وبذلك فإن جلسة الوضوء إنما هي جلسة ((محاسبة)) لاستدراك ما فات على المراقبة.. وقد بينا كيف أن المحاسبة تبدأ بالاستبراء من الفضلات في ((بيت الخلاء)).. فاذا أنت جلست، وغسلت يديك، بالكيفية، التي وصفنا، فاسترجع، في فكرك: ماذا فعلت، بهذين الكفين، بين الصلاتين - بين صلاتك الماضية، والصلاة التي تتهيأ لها الآن؟؟ هل آذيت بهما أحداً؟؟ أم هل قبضت بهما مالاً حراماً؟؟ وهل قبضتهما عن فعل معروف؟؟ أم هل فعلت بهما فعلاً لا يحل لك؟؟ فإن تذكرت شراً، فاندم، وتب، واستغفر، وإن تذكرت خيراً فاشكر الله، إذ وفقك إلى الخير.. ثم هكذا فتنقل في سائر وضوئك.. فبعد كفيك مضمض فمك ثلاثاً، تستاك بأصبعك.. فإن كان قد تيسر لك، في البداية، الاستياك بالمسواك فذاك، وإلا فانو باستياكك بأصبعك أن يسد مسد الاستياك بالمسواك.. وفي أثناء المضمضة حاسب نفسك على لسانك.. هل قلت به باطلاً؟؟ هل آذيت به أحداً؟؟ هل قبضته عن قولة الحق؟؟ وعن الذكر؟؟ وعن القرآن؟؟ وأسنانك هل أكلت بها لحوم الغافلين؟؟ هل أكلت بها حراماً؟؟ فإن كان أكلك حلالاً فهل أسرفت فيه؟؟ فإن أنت تذكرت، من كل أولئك، شراً فتب، واستغفر.. وإن تذكرت خيراً فكن لله من الشاكرين.. ثم استنشق الماء ثلاثاً، بحفنة واحدة، أو بثلاث حفنات.. واستنثر في كل مرة، وحاسب في أثناء ذلك، ماذا فعلت بأنفك.. هل رفعته على الناس، في غطرسة؟؟ هل شممت به ما لا يحل لك؟؟ هل دسسته فيما لا يعنيك من شئون الناس؟؟ ثم أغسل وجهك ثلاث مرات.. ثم يديك إلى المرفقين، ثلاث مرات.. وفي المرة الثانية أقم ذراعك الأيمن رأسياً، حتى يخر الماء منه إلى أسفل، وعرض تحته كف يدك اليسرى، حتى تجمع فيه الماء الذي يخر عن ذراعك الأيمن، واضرب مرفقك عليه ثلاثاً، لكيما يكون عقب المرفق قد شمله، وتخلله الماء.. ثم أغسل ذراعك الغسلة الثالثة.. ثم هكذا فافعل بذراعك الأيسر، وأنت تحاسب نفسك، في كل ذلك، وعلى كل عضو من هذه الأعضاء.. ثم أمسح رأسك، بماء مجدد، مرة واحدة، بكفيك، تقبل بهما، وتدبر.. ثم أمسح أذنيك، بماء مجدد، ظاهرهما، وباطنهما، وحاسب في أثناء ذلك، نفسك على ما اجترحته برأسك، وبأذنيك.. فتب، واستغفر، إن تذكرت شراً.. وكن لله من الشاكرين، إن تذكرت خيراً.. ثم اذهب إلى قدميك، فاغسل اليمنى ثلاثاً، وخلل الأصابع، وخلل خطوط راحة القدم، وخلل الأظافر.. واحرص على غسل العقبين جيداً.. وافعل مثل ذلك برجلك اليسرى، وأنت تحاسب نفسك، في أثناء ذلك.. ماذا اجترحت برجليك؟؟ هل مشيت بهما نحو حرام؟؟ هل قبضهما عن السعي في الخير؟؟ هل آذيت بهما أحداً؟؟ فإن تذكرت شراً فتب، واستغفر.. وإن تذكرت خيراً فكن شاكراً لله.. فإذا فرغت من هذا الوضوء فإن جسدك قد تطهر من النجاسة الحسية، وقلبك قد لان بنار الندم، وتنور بنور الاستغفار، فتبرأ من الغفلة.. ويرجى لك، بهذه الهيئة، إذا دخلت في الصلاة، أن تحضر فيها.. هذا من معاني قولهم: ((إنما يكون الحضور في الصلاة قبل الدخول فيها))..
ولقد يظهر لك أن هذه الصورة من الوضوء، تستغرق زمناً طويلاً.. والواقع غير ذلك.. فإن الوضوء، لا بد فيه من المواصلة، ومن الدلك.. واستعراضك لشريط أعمالك، عند غسلك لأعضائك المختلفة، لا يقتضي الإبطاء، ولا التراخي الطويل، في مواصلة حركات الوضوء.. ثم إنك قد تنشغل بخطيئة واحدة، ارتكبتها بيدك، مثلاً، يستغرقك الندم عليها طوال فترة الوضوء، وذلك لجسامة الخطأ الذي قد يطالعك منها، ثم لا يكون بعملك هذا بأس، ولا تقصير.. إن المهم إنما هو تليين القلب بنار الندم على الخطيئة.. فإذا ما اتفق لك هذا باستحضار خطيئة واحدة فإن المقصود قد تم.. عن مثل هذا الوضوء جاء حديث المعصوم: ((من توضأ، فأحسن الوضوء، خرجت خطاياه من جسده، حتى تخرج من تحت أظافره..)).. ولا بد من تقليل الماء.. وتنوي بتقليلك الماء الشكر على النعمة، فإن الماء، كما بينا، هو المظهر الحسي للعلم، وهو أكبر النعم الحسية، بعد نعمة الحياة.. وليس لتقليل الماء من حد.. فإذا أنت استطعت أن تتمسح بالماء فافعل راشداً.. واحذر أن تتوضأ من الماسورة، كما يفعل الناس الآن.. فإن هذا خطأ شنيع، يذهب ببركة الوضوء، ومن ثم، ببركة الصلاة.. ولا تتوضأ في الحمام.. ولا تتوضأ وأنت غير مستور العورة.. ولا تتوضأ في مكان غير طاهر.. فإنه، كما قلنا، فإن الوضوء طرف من الصلاة، وأنه يجب له، ما يجب لها من الحرمة، والرعاية..
هذا، وقد يكون فرضك التيمم، لعدم وجودك الماء، أو لاستضرارك باستعماله.. فلا تتردد في ذلك.. ولا تشدد على نفسك، ولا تضيق.. واستمتع بالرخصة التي رخص بها الله لك، ثم كن لله شاكراً.. واعلم أن نفسك لا تستغنى عن الرفق.. وليست العبادة، قوة، وإنما هي ضعف.. فلا تظهر الاستغناء، بل أظهر الحاجة إلى الرفق.. والله، تبارك وتعالى: ((يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه)).. فإن أنت قدرت على الماء فلا تنصرف عنه إلى الصعيد.. وإن أنت عجزت عن الماء، فلا تتردد في استعمال الصعيد، سواء أكانت نجاستك كبرى أم صغرى، حتى ولو استمر بك هذا الحال عدة سنين.. وإنما جعلت الطهارة الكبرى، والصغرى، بالماء لأنه أصل الحياة الأول.. قال تعالى: ((أولم ير الذين كفروا: أن السموات، والأرض، كانتا رتقاً ففتقناهما، وجعلنا من الماء كل شيء حي؟؟ أفلا يؤمنون؟؟)) ثم إذا تعذر الماء حل محله التراب، لأنه أصل الحياة الثاني.. قال تعالى: ((ومن آياته أن خلقكم من تراب.. ثم إذا أنتم بشر تنتشرون..)).. فإنا قد أمرنا، من أجل الطهارة الحسية، أن نرجع إلى أصل الحياة الحسية، وهو الماء.. وفي ذلك إشارة إلى وجوب الرجوع، من أجل الطهارة المعنوية إلى أصل الحياة الحقيقي، وهو الله.. وإنما يكون الرجوع إلى الله بالعلم.. وهذا هو الذي أوجب أن تسير طهارتنا المعنوية، الداخلية، بالعلم، جنباً إلى جنب مع طهارتنا الحسية بالماء.. ولقد فصلنا ذلك تفصيلاً.. فليلتزم.. والتيمم إنما يكون على الصعيد الطيب، وهو التراب الطاهر.. ويلحق به الحجر الطبيعي، غير المصنوع.. فيصح التيمم، مثلا، على طوبة ((خضراء))، لا على طوبة ((محروقة)).. ويصح على حجر طبيعي، لا على حجر مصنوع من الأسمنت، مثلا.. والتيمم في غاية البساطة.. هو ضربتان بالكفين: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين.. ويجب في التيمم من الحضور ما يجب في الوضوء.. وبالصعيد يصح الاستبراء من البول والغائط أيضا..
ويمكنك أن تصلي، بالوضوء الواحد، الوقتين، والثلاثة أوقات.. وكذلك بالتيمم الواحد، ولكن يستحسن، وإلى درجة كبيرة، أن تجدد الوضوء لكل صلاة.. ومن باب أولى، أن تجدد التيمم، وذلك لمكان سهولته.. وإذا استطعت أن تكون دائماً على وضوء فافعل.. فإنك ستجد بركة ذلك، على التحقيق.. وإن استطعت أن تصلي ركعتين، عقب كل وضوء، فذلك الخير الذي لا يحصيه محصٍ، وإلا ففي مجرد الوضوء خير كثير.. وإن كان فرضك الماء، وعجزت عن أن تكون على وضوء به دائما، فاضرب الصعيد، فإنه يعطيك الطهارة التي تحفظك، سائر يومك، وتكون لك سلاحاً، في حركاتك وسكناتك.. بيد أنك لا تصلي بهذا التيمم، ما دام فرضك الماء، لا الصعيد..
واحذر أن تصلي وأنت ((حاقن)) تغالب البول، أو الغائط، أو الريح.. وهذا أمر كثيراً ما يقع من الناس، بفعل الكسل عن تجديد الوضوء، وهو عمل يدل على عدم تقدير الصلاة عندهم.. ومن لا يعظم أمر الصلاة لا يجد من بركتها شيئا.. هذا أمر في غاية الخطورة، ويجب التفطن له..