إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

تعلموا كيف تصلون

خاتمة الخاتمة


نختم كتابنا هذا بتوجه خالص إلى كل الناس، ليصلوا.. فإن قيمة الصلاة في صحة الأبدان، والعقول، والقلوب، لا تعدلها قيمة..
للعلماء، والفنانين، والمثقفين، نقول: إن الصلاة ليست عمل البسطاء والسذج، والجهلة، والعجائز، والعاجزين، وإنما هي، في المكان الأول، عمل الأذكياء.. عمل العلماء، والفنانين، والمثقفين..
الصلاة، في الإسلام، لا تستمد من العقيدة، وإنما تستمد من العلم.. هي منهاج يتنقل في الأوضاع المختلفة، ليجمع مراحل التطور المختلفة، في سير الحياة، على هذا الكوكب، وقبل أن تنزل إلى هذا الكوكب..
لقد كانت الحياة، ولا تزال، تمر بمراحل ثلاث، في سلم تطورها، ارتقاءً نحو مصدرها:
1- مرحلة التطور العضوي ـ التطور ((الفزيولوجي)) الصرف ـ وهذه تشمل تطور المادة غير العضوية، والمادة العضوية، قبيل ظهور العقول في المستوى البشري..
2- مرحلة التطور العضوي العقلي ـ التطور ((الفزيولوجي))، المتأثر بالعقل البشري، والمؤثر فيه.. وهذه تشمل المرحلة البشرية المعاصرة ـ مرحلة عقول، تؤثر في الأجساد، وتتأثر بها، في صراع وتجاذب..
3- مرحلة التطور العقلي ـ التطور الذي تتعاون فيه العقول، والقلوب، والأجساد، في مراحل الترقي، بدون تعارض، ولا تضاد.. وإنما هو الانطلاق الذي لا يعوقه معوق، بعد أن تم التحالف، والتناسق، بين الجسد، والعقل، والقلب.. وهذه المرحلة لا تزال أمامنا.. وهي مرحلة الإنسانية التي نترقب ظهورها، من البشرية المعاصرة، وسيكون ظهورها قفزة أكبر من تلك القفزة التي صحبت ظهور البشرية المعاصرة من مرحلة الحيوانية التي تمثلها المرحلة الأولى، من مراحل التطور ـ التطور ((الفزيولوجي)) -
إن الصلاة، في الإسلام، تستمد من هذه المراحل التطورية.. وهي تحاول أن تحقق للإنسان المصلي بذكاء، وبتجويد، الكمالات التي تنتظر من يملك القدرة على توحيد جسده، وعقله، وقلبه..
إن الصلاة في الإسلام جلسة ((نفسية)) يعمل فيها العقل، الذي شحذت ذكاءه العبادة، عمل السحر في تنغيم النشاز الداخلي، حتى يسكن جيشان الخواطر الداخلية، وتنحل العقد النفسية، ويتم الاتساق بين جميع القوى المودعة في البنية البشرية ـ في الجسد، وفي العقل، وفي القلب ـ فتحل بذلك الوحدة محل الانقسام، ويقوم السلام في جميع أطراف البنية البشرية..
إن في الصلاة ((الذكية)) لعلاجاً للأمراض العصبية، والعقلية، المتفشية اليوم.. إن فيها الصحة الداخلية، والصحة الخارجية..
للعلماء، والفنانين، والمثقفين، والأذكياء، نقول: صلوا!! فإنكم بالصلاة أولى!! صلوا!! فإنكم بالصلاة تحرزون الحياة الكاملة، المتمثلة في حياة الفكر، وحياة الشعور.. ذلك لأن بالصلاة تتم وحدة الجسد، والعقل، والقلب.. صلوا!! وعلى منهاج هذا الكتاب!! وستحمدون سعيكم، إن شاء الله..
وأما عامة المسلمين، الذين ((يصلون)) اليوم، ويعمرون المساجد، فإنا نقول لهم: ((صلوا))!! فإنكم، ((اليوم))، ((لا تصلون)).. أبعثوا صلاتكم!! فإنها قد ماتت!! ولا يكون بعثها إلا بإرجاع الروح إليها!! وإياكم أن تخدعوا ((بالمظاهر))!! فإن الصلاة جسد، وروح يعمر الجسد، ويبعث فيه الحركة، والحرارة، والحياة..
وأما صلاتكم، اليوم، فليست ((بصلاة))، على الإطلاق.. وإنما هي جسد ميت.. عودوا إلى تقليد ((قدوة التقليد))!! واجعلوا صلاتكم ((وسيلة)) إلى الحياة النافعة، لكم، وللأحياء، والأشياء.. واتركوا هذه الهمهمة بالسبح.. اجعلوا صلاتكم ((وسيلة)) إلى ((الفكر والعمل)).. فقد كان المعصوم يخلو بربه، في الثلث الأخير من الليل، يصلي، ويفكر، ويستغفر، ثم يصبح بالنهار في خدمة الناس، وابتغاء الخير لهم، وتوصيل الهداية، والصلاح، إليهم.. وهو قد قال: ((تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة))..
وقال تعالى، في قيمة العبادة كلها: ((وأنزلنا إليك الذكر، لتبين للناس ما نُزل إليهم.. ولعلهم يتفكرون)) فجعل القيمة، من الدين كله، ((الفكر)).. ((ولعلهم يتفكرون)).. وجعل الصلاة، ((وسيلة)) إلى ((الرضا)).. ((فاصبر على ما يقولون.. وسبح، بحمد ربك، قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها، ومن آناء الليل فسبح، وأطراف النهار.. لعلك ترضى)).. ((لعلك ترضى!!)).. و((الرضا)) إنما هو ثمرة ((الفكر)) الصافي..
صلوا!! فإنكم، اليوم، لا تصلون.. صلوا!! وابتغوا من الصلاة ما الصلاة حرية بتأديته إليكم من فيوضات البركات الناميات، ولا تقنعوا منها بهذه المظاهر الجوفاء..
لا تهمهموا بالسبح!! لا في الخلوات، ولا في الطرقات، ولا في المكاتب، ولا في المركبات العامة، فإن ((قدوة التقليد)) لم يكن يهمهم بالسبح، وإنما كان يصلي، ويفكر، ويعمل.. قال: ((أوصاني ربي بتسع، أوصيكم بهن: أوصاني بالإخلاص، في السر، والعلانية.. والعدل، في الرضا، والغضب.. والقصد، في الغنى، والفقر.. وأن أعفو عمن ظلمني.. وأن أعطي من حرمني.. وأن أصل من قطعني.. وأن يكون صمتي فكراً.. ونطقي ذكراً.. ونظري عبرة..))
هكذا فكونوا!!
صلوا! و((اذكروا الله ذكراً كثيراً))!! وفكروا! واعتبروا! واعملوا!! لخيركم، ولخير الأحياء، والأشياء!!
صلوا!!
وعلى هدى هذا ((الكتاب)): ((تعلموا كيف تصلون)) فإنه، إنما أخرج ليبعث لكم الصلاة، بعد أن قد ماتت..
إن هذا ((الكتاب)) عمل خالص منا لوجه الله.. والله، هو المسئول، أن يكمل إخلاصه لوجهه الكريم.. وأن يقبله منا.. وأن ينفع بنا.. وأن ينفعنا بما علمنا.. وأن يعلمنا ((العلم)) الذي لا جهل بعده.. إنه سميع مجيب.. وهو نعم المولى!! ونعم النصير!!