خاتمة
صلوا!! فإنكم لا تصلون.. هذا الحديث يساق إلى كل المسلمين.. ويساق، بصورة خاصة، إلى الذين يعمرون منهم المساجد، اليوم، ويستشعرون الرضا عن أنفسهم.. صلوا!! فإنكم الآن لا تصلون.. ولا تغرنكم هذه الحركات الآلية التي تؤدونها، فإنها لا روح فيها.. إنها
((جثة بلا روح
))، بدليل أن أخلاقكم ليست أخلاق المسلمين.. ولم يقل النبي الكريم:
((الدين العبادة
)).. وإنما قال:
((الدين المعاملة..
)).. وفي المعاملة الحسنة ـــ المعاملة الإسلامية ـــ العبادة موجودة.. لأن
((الأخلاق الإسلامية
)) إنما هي ثمرة
((العبادة الإسلامية
)).. ولكن قد تكون هناك عبادة بلا معاملة.. وهذه إنما تعتبر عبادة باطلة.. إن صلاة المسلمين، اليوم، هي الصلاة التي قال عنها القرآن:
((فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون * الذين هم يراءون * ويمنعون الماعون..
))، سماهم
((مصلين
)) لأن هيئتهم هيئة الصلاة، وحركاتهم حركات الصلاة.. وتوعدهم
((بالويل
)) لأن
((صلاتهم
)) بلا محتوى، صلاتهم بلا روح.. والذي هم عنه ساهون فإنما هي روح الصلاة في الصلاة ـــ إنما هي صلاة
((الصلة
)) في صلاة
((المعراج
)) ــــ وقد شرحنا ذلك.. هم عن هذه ساهون.. ثم قال:
((ويمنعون الماعون
))، أشار
((بالماعون
)) هنا إلى
((القلوب
)).. وعنى بقوله
((ويمنعون
)) الماعون أنهم قد ملأوا القلوب بأصنام الدنيا، ومطامعها، فلم يتركوا فيها مكاناً لله.. ومن هذه الآيات جاء حديثان كريمان.. أما أحدهما فيكاد يكون في مستوى وعيد الآية، وهو:
((رب مصل لم تزده صلاته من الله إلا بعدا
)).. وهذا ينطبق على صلاة بعض المصلين من الناس اليوم.. وأما ثانيهما فهو:
((رب مصل لم يقم الصلاة
)).. وهذا ينطبق على صلاة سائر الناس، في يومنا الحاضر..
والحقيقة التي يحسن بالمسلمين ألا يذهلوا عنها، هي: أن الإسلام، اليوم، إنما هو في المصحف فقط، وأنه قد مات في صدور الرجال، والنساء، ويحتاج إلى بعث.. وهناك حديثان، أنذر بهما المعصوم هذه الأمة في أخريات أيامها، قال في أحدهما:
((يوشك أن تداعى عليكم الأمم، كتداعي الأكلة على القصعة.. قالوا: أو من قلة نحن، يومئذ، يا رسول الله؟؟ قال: بل أنتم، يومئذ، كثير، ولكنكم غثاء، كغثاء السيل، لا يبالي الله بكم!!
)).. والغثاء هو
((الدفيس
)) الذي يحمله السيل.. وأشار بقوله:
((لا يبالي الله بكم
))، إلى أنكم لا وزن لكم، كالغثاء.. والناس لا يكون لهم وزن عند الله عندما تكون قلوبهم خالية من لا إله إلا الله
)) لأن حديث النبي يقول: (مثقال ذرةٍ من
((لا إله إلا الله
)) أثقل من جبل أحد) وحديثه الآخر: (لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من
((لا إله إلا الله
))).. وحديث الإنذار الآخر هو قوله:
((لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبراً، بشبرٍ، وذراعاً، بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبٍ خرب لدخلتموه!! قالوا: أأليهود، والنصارى؟؟ قال: فمن؟
)).. واتباعنا لسنن هؤلاء ظاهر لا يحتاج إلى إشارة.. فكأننا نحن المسلمين، اليوم، نذهب لله في المسجد، في الأوقات، ونصلي، ولكننا لا نشعر بوجوده حين نتعامل في السوق.. حين نتعامل بالربا، ونكسب بوجوه الكسب المحظورة، ونغش، ونكذب، وندلس..
والحوادث، والعبر، التي تؤكد للمسلمين أنهم ليسوا على شيء كثيرة، ولكن أهمها مشكلة الشرق الأوسط مع إسرائيل، فقد انهزم المسلمون فيها عام 1948، وعام 1956، وعام 1967، ولا يزال شبح الهزيمة يتابعهم.. يقول الله تعالى:
((الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، أيبتغون عندهم العزة؟؟ فإن العزة لله جميعاً
)).. ويقول تعالى، عن المنافقين:
((يقولون: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.. ولله العزة، ولرسوله، وللمؤمنين.. ولكن المنافقين لا يعلمون
)) ويقول تعالى:
((يا أيها الذين آمنوا!! إن تنصروا الله ينصركم، ويثبت أقدامكم
)).. ويقول تعالى:
((ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا
)).. ذلك وعد الله، وهو وعد غير مكذوب.. ومع ذلك فقد جعل الله لليهود على المسلمين سبيلا، بل أكثر من سبيل.. فلم يبق إلا أن المسلمين ليسوا على شيء
((تحسبهم جميعاً، وقلوبهم شتى..
))
وفي حين أن النبي أنذر الأمة، في أخريات الأيام، فإنه أيضاً قد بشرها، وذلك حيث قال:
((بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً، كما بدأ.. فطوبى للغرباء!! قالوا: من الغرباء يا رسول الله؟؟ قال: الذين يحيون سنتي بعد اندثارها..
)) وفي رواية أخرى، عندما سألوه عن الغرباء، فقالوا: من الغرباء يا رسول الله؟؟ قال:
((فئةٌ قليلة مهتدية، في فئة كبيرة ضالة
))..
الصلاة ماتت!
إن الصلاة ميتة اليوم.. هي، كما يؤديها الناس، اليوم، جثة بلا روح. والدعوة التي يقوم بها الجمهوريون، اليوم، ويلقون في سبيلها ما يلقون، إنما هي من أجل بعث الصلاة.. من أجل بعث:
((لا إله إلا الله
))، لتكون دافئة، حية، خلاقة، في قلوب الرجال، والنساء، كعهدنا بها حين خرجت من منجمها، وانطلقت، في شعاب مكة، في مستهل القرن السابع الميلادي.. ولن تعود الصلاة حية إلا إذا دخل فيها الفكر، فجددها.. وإنما بدخول الفكر على العبادة يكون بعث
((السنة
)).. وذلك ما عناه المعصوم حين قال:
((الذين يحيون سنتي بعد اندثارها
)).. ولقد بينا في هذا الكتاب: كيف أن
((السنة
)) فكر يحارب العادة.. هي فكر يأخذ بداياته في بساطة شديدة، وذلك بتقديم الميامن على المياسر، في العبادة، وفي العادة.. وعودة الفكر إلى الحياة، وإلى الصلاة، في وقتنا الحاضر، يمكن أن تكون في مثل هذه البساطة وأول ما نبدأ به، هو أن نقرر أن الصلاة وسيلة، وليست غاية.. وتقرير كون الصلاة وسيلة لا يحتاج منا إلى تخريج، أو تأويل.. ذلك بأن ظاهر نص القرآن صريح فيها.. ولقد تحدثنا عن ذلك في موضع آخر من هذا الكتاب.. فإذا كانت
((وسيلة
)) فإن أدنى الذكاء يطالبنا بأن ننظر في عملنا: هل نحن متقدمون
((بالوسيلة
)) نحو
((الغاية
))، أم هل نحن نقف بها في أول مراحلها؟؟ إن المعصوم قد قال:
((الصلاة معراج العبد إلى ربه
)).. و
((المعراج
)) معناه
((السلم
)).. وأنت، إذا كنت ذاهباً، لغرض يخصك، إلى مكتب يقع في الدور الثاني، من عمارة، مثلاً، فإنك، بداهةً، لا تقف في الدرجة الأولى، من درجات
((السلم
)) الصاعد إلى الدور الثاني.. هذا أمر لا يحتاج منك إلى تفكير، وإنما تنطلق رجلاك، انطلاقاً تلقائياً، تصعد درجات
((السلم
)).. يجري منك هذا، لأنك تعرف إلى أين أنت ذاهب، ولا يمكن، بحال من الأحوال، أن تقف عند الدرجة الأولى من السلم.. ومع ذلك، فإن المسلمين، اليوم، من الناحية الروحية، يقفون عند أول
((السلم
)) ولا ينطلقون في درجاته.. لماذا؟؟ الجواب قريب!! لأنهم، روحياً، لا يعرفون إلى أين هم ذاهبون!! فأصبحوا يتحركون في حلقة مفرغة، كجمل العصارة، يسير مغمض العينين.. يسير، من غير أن يقطع مسافة:
وعن مذهبي، لما استحبوا العمى، على * الهدى، حسداً، من عند أنفسهم، ضلوا،
وهم في السرى.. لم يبرحوا من مكانهم.. * وما ظعنوا في السير عنه.. وقد كلوا..
((الصلاة معراج العبد إلى ربه
)) توجب علينا أن نصلي، وأن نقيس صلاتنا.. هل نعرج بها كل لحظة إلى الله؟؟ وقياسنا هو مبلغ رضانا بالله.. هل نحن، بعد أن صلينا ركعتين، مثلاً، قد صرنا أرضى بالله منا قبل أن نصلي؟؟ هل نحن أسخى يداً، وأطيب نفساً، وأسلم قلباً، وأصفى فكراً، بعد الصلاة، منا، قبل الصلاة؟؟ فإن كنا كذلك فإن صلاتنا مؤدية توسيلها إلى الله.. وكون الصلاة وسيلة إلى الرضا بالله فقد ورد في ظاهر النص في قوله تعالى:
((فاصبر على ما يقولون، وسبح بحمد ربك، قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها، ومن آناء الليل، فسبح، وأطراف النهار.. لعلك ترضى
)).. قوله، هنا،
((وسبح
)) معناها
((وصل
)).. وقد جاء، في هذه الآية، بأوقات الصلاة الخمسة..
((لعلك ترضى
))..
((الرضا
)) هو
((العلة
)) وراء الصلاة.. و
((الرضا
)) هو
((العبودية
)) لله.. تكون له عبداً، وترضى به رباً، لا تعترض على تدبيره إياك.. وهذا هو المعني بالحديث:
((الصلاة معراج العبد إلى ربه
)) لأن العروج إلى الرب لا يكون بقطع المسافة، وإنما هو بالعلم.. فإذا استعملت الصلاة حتى عرفت ربك، وحتى تأدبت معه بما يليق له، فقد عرجت بالصلاة إليه.. ويجب أن يكون واضحاً فإن حكم
((الوقت
)) قد جعل آيات
((النفوس
)) أهم من آيات
((الآفاق
)).. ويجب أن يكون واضحاً أيضاً فإن بركة الصلاة، إن لم تشعر بها: رضا بال، وطمأنينة نفس، وصفاء فكر، فإنها صلاة باطلة.. ولقد قال العارفون: إن الله أكرم من أن تعامله حاضراً ويعاملك نسيئة ـ تصلي له الآن ويأجرك في الآخرة!! إنه هو تبارك وتعالى، يأمرنا في شرعه، أن ندفع للأجير أجره، قبل أن يجف عرقه، فكيف لا ننتظره أن يفعل بنا مثل هذا الصنيع، على أيسر تقدير؟؟ ألم يقل الله:
((ادعوني أستجب لكم؟؟
)) بلى!! إنه قد قال.. أجر الله على الصلاة
((هاك بهاك
)).. فإن لم يكن الأمر، بالنسبة إليك كذلك، فأعلم، إنك ممن يصلون ولم يقيموا الصلاة:
((رب مصل لم يقم الصلاة
)).. وأنت، إن كنت من العارفين بقدر نفسك، المتواضعين، فلا تستبعد أن تكون من الوارد في حقهم الوعيد:
((رب مصل لم تزده صلاته، من الله، إلا بعداً
)).. يقول، جل من قائل:
((وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه، ونخرج له، يوم القيامة، كتاباً يلقاه منشورا * اقرأ كتابك.. كفى بنفسك، اليوم، عليك حسيبا
)).. كتابك هذا هو قلبك.. وكل خير تعمله يكتب فيه، لتوه.. وكل شر تعمله يكتب فيه، لتوه.. والقاعدة قول الله تعالى:
((فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً، يره * ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً، يره
)) فإن أنت صليت ركعتين، مثلاً، نفلاً، ثم انصرفت من مصلاك، وأنت لا تجد، في قلبك، شيئاً من
((الرضا
)) أورثتك إياه هاتان الركعتان فلا يقومن ببالك أنهما مكتوبتان في مكان آخر، وتجد أجرك عليهما يوم القيامة.. إن الكتاب عندك، ففتش نفسك، ولا تكن من الغافلين.. ألم يقل المعصوم:
((حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا؟؟
))
إن صلاة
((المعراج
)) ــــ الصلاة الشرعية ــــ وسيلة إلى صلاة
((الصلة
)).. فنحن إنما لنا صلاتان: صلاة كبرى، وهذه لم يكن جبريل حاضراً فرضيتها، وإنما فرضت على النبي وقد سقطت، من بينه وبين ربه، وساطة جبريل.. وأخبرنا عنها النبي فقال:
((الصلاة صلة بين العبد وربه
)).. وصلاة صغرى، وهذه قد جاء جبريل بكيفيتها، وأوقاتها.. وأخبرنا عنها النبي فقال:
((الصلاة معراج العبد إلى ربه
)) ولقد أمر تعالى النبي أن يعرج بصلاة
((المعراج
)) إلى صلاة
((الصلة
)).. قال تعالى في حقه:
((ومن الليل فتهجد به نافلة لك.. عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودا!!
)) فصلى النبي صلاة معراجه يرتقي بها، كل يوم، إلى صلاة الصلة.. وندبنا نحن لنصلي صلاة معراجنا، لنسير بها، كل يوم، إلى صلاة صلتنا.. وصلاة المعراج هي شريعته الخاصة به، كنبي.. وهي شريعته لأمته، كرسول.. يجيء من هذا الوضع أننا نصلي صلاة المعراج، من حيث الهيئة، كما يصليها، غير أنه هو أصيل، ونحن مقلدون.. ولقد جاءت عبارته لنا في التقليد هكذا:
((صلوا كما رأيتموني أصلي
)).. فإذا نحن استعملنا صلاة المعراج في تقليد النبي بإتقان ـ حركة أجسادنا، وحالة قلوبنا ـ فإننا نعرج بها إلى صلاة الصلة.. وبصلاة الصلة تتم العبودية.. وعند العبودية تسقط الواسطة، ويقوم العبد في مواجهة الرب..
إن الذي نحن عليه اليوم هو أصل الدين، وبفضل الله، ثم بفضل حكم الوقت الحاضر ــ
((القرن العشرين
)) ــ ليس هناك دين إلا إياه.. ذلك بأن عودة الإسلام لا تكون إلا في مستوى حل مشكلة المجتمع الكوكبي المعاصر.. وقد ظهر عجز الفلسفات الاجتماعيات المعاصرة عن حل هذه المشكلة.. ومشكلة المجتمع الكوكبي المعاصر إنما تتمثل في إحلال السلام في الأرض.. ولا يحل السلام في الأرض إلا إذا حل في كل نفس بشرية.. وإنما يستطيع الإسلام وحده أن يحل السلام، في كل نفس بشرية، لأن توكيده، في المكان الأول، على كل فرد بشري.. في الإسلام، الفرد البشري هو مدار التكليف، ومدار المسئولية، وكل شيء عداه وسيلة إليه، وبخاصة المجتمع.. وإنما جاءته هذه المقدرة على التنسيق بين الفرد والجماعة ـــ الفرد غاية، والمجتمع وسيلة ــ من كون تشريعه يقع على مستويين: مستوى الفرد ـ تشريع العبادة ـ ومستوى الجماعة ـ تشريع العادة
((المعاملة
)) ـ والمحك الذي تقصر عنه جميع الفلسفات، وجميع الأديان، إنما هو هذا المحك.. هو المقدرة على التوفيق بين حاجة الفرد، وحاجة الجماعة... لما كنا نحن، بفضل الله علينا ندعو إلى عودة الإسلام، فقد التزمنا بإظهار هذه الحقيقة الكبرى.. وهي أن السالك، المجود لتقليد النبي، يبرز من مستوى الشريعة الجماعية، إلى مستوى الشريعة الفردية.. ويكون بذلك قد أفضى به التقليد إلى الأصالة.. ويعطى شريعته الفردية من الله، كفاحاً، بلا واسطة النبي.. وقد بينا، في هذا الكتاب، وفي غيره من كتبنا، كيف أن النبي
((وسيلة
)) الشريعة، والله هو الذي
((يعلم
)) الحقيقة..
إن هذا الذي نقول به غريب على الناس.. ولكن، ألم يكن
((الإسلام
)) نفسه، حين جاء للناس، وهم في غفلتهم، غريباً عليهم.. ألم يطلع النبي الكريم عليهم، يوماً، وهم في فناء الكعبة، فقال:
((يا أيها الناس!! قولوا
((لا إله إلا الله
)) تفلحوا..؟؟ فنفروا منه، واستغربوا قوله، حتى لقد جاء القرآن يحكي عنهم، أنهم قالوا:
((أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟؟ إن هذا لشيء عجاب!!
)) أي شيء عجيب.. أي شيء غريب.. وإلى هذه أشار النبي الكريم حين قال:
((بدأ الإسلامُ غريباً، وسيعودُ غريباً، كما بدأ فطوبى للغرباء!! قالوا: من الغرباء يا رسول الله؟؟ قال: فئة قليلة مهتدية، في فئة كبيرة ضالة
)).. وأنتم، اليوم، إنما تستغربون قولنا لأنه يستمد من التوحيد، في مستوى جديد، يليق بقامة المجتمع الكوكبي المعاصر.. وأنتم قد أصبح التوحيد غريباً عليكم، حتى في مستواه السلفي.. فاتقوا الله.. ولا تعجلوا أنفسكم عن
((الحق
)).. وكونوا أذكياء فاتهموا أنفسكم، قبل أن تتهموا الآخرين.. واعلموا: أن الأرض اليوم تنتظر عودة الإسلام.. وليس لها من سبيل إلى
((السلام
)) إلا
((الإسلام
)) عائداً في مستواه الذي ظلت جميع المجهودات البشرية، حين كانت تستلهم الأرض، وحين كانت تتصل بالسماء، ظلت، في جميع حالاتها، تعمل لمجيئه.. لا تكونوا عقبة في سبيل
((الإسلام
))، كما تفعلون، اليوم، بمعارضة دعوة
((الخير
))، و
((الحق
)).. إنما أنتم، اليوم، أعداء في ثياب أصدقاء.. ولكن لا ضير!! فإن الإسلام لا يعادى.. هو أكبر من الأعداء وقد تكفل الله بنصرته.. ألم يقل، جل من قائل:
((هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.. وكفى بالله شهيدا
))؟؟ قوله: -
((وكفى بالله شهيدا
))، هو مصدر راحتنا وطمأنينة بالنا.. فلا تهتموا إلا بأنفسكم!! فإنها، إن كانت تهمكم حقاً، فكونوا أعواناً
((للعلم
))، ولا تكونوا له أعداء، كما تفعلون اليوم..
اسمعوا قولي هذا!! فإن
((شريعة الإسلام
))، في أصلها، إنما هي شريعة فردية.. وكل المسئولية إنما هي دائماً فردية.. والقرآن يركز على الفردية، تركيزاً مستفيضاً.. ولقد مثلنا لهذه الفردية في العديد من كتبنا، مما يغني عن الإعادة هنا.. فإننا نحن لم نقل ما قلناه بالرأي الفطير، غير المؤدب بأدب الشريعة، وأدب الحقيقة.. ولم نقل ما قلناه عن ظن، ولا عن شك.. وإنما هو العلم الصراح.. فإن المعصوم قد قال:
((إن من العلم كهيئة المكنون، لا يعلمه إلا أهل العلم بالله.. فإذا تحدثوا به لا ينكره إلا أهل الغرة بالله
)).. وإني لأعيذكم بالله أن تكونوا من أهل الغرة بالله.. وفي حين كانت شريعة الإسلام، في أصله،
((فردية
)) كانت شريعته، في الفرع،
((جماعية
)).. وما الشريعة الجماعية إلا
((وسيلة
)) إلى الشريعة الفردية، وبقريب من المستوى الذي به الجماعة
((وسيلة
)) لإنجاب الفرد الكامل.. والذي يذهل الناس عن هذه الحقيقة هو ظنهم أن الفردية التي يتحدث عنها القرآن لا تكون إلا يوم القيامة، أخذاً من مثل قوله، جل من قائل:
((إن كل من في السموات، والأرض، إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم، وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا..
)).. فعندهم، من ههنا، أن الفردية إنما هي يوم القيامة.. ولكن أعلموا!! فإن أسرار التوحيد تقول:
((ما من شيء كان، أو يكون، إلا وهو كائن اليوم
)).. فالقيامة قائمة اليوم.. ولكنا نحن مذهولون عنها بجهلنا، وبتوزعنا في الزمن.. ونحن، كلما علمنا، وكلما جودنا التوحيد، كلما وحدنا الزمن.. ولقد تحدثنا عن هذا، في هذا الكتاب، وذلك حين ذكرنا أن تحقيق العبودية إنما هو محاولة انتصار على الزمن، حتى إننا لنبلغ، في لحظة التوقف الفكري، في مقام:
((ما زاغ البصر وما طغى
))، أن ننتصر على الزمان تماماً.. ولقد قال، جل من قائل، في عجزنا عن رؤية
((يوم القيامة
))، اليوم:
((ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر * كلا!! سوف تعلمون * ثم كلا!! سوف تعلمون * كلا!! لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين * ثم لتسألن، يومئذ، عن النعيم
)).. قوله
((كلا!! لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم
)) يعني أنه ما يحجبنا عن الرؤية إلا جهلنا، وعلمنا الناقص.. ولما كان العلم إنما يبدأ في الدنيا، بالعبادة، وما ترفع من الحجب، ويزيد في الآخرة، بالموت، وما يرفع من الحجب، فإنه قد قال:
((ثم لترونها عين اليقين
)) فنحن نحصل
((بالعبادة
))، و
((بالموت المعنوي
))، الذي قال عنه المعصوم:
((موتوا قبل أن تموتوا
))، نحصل علوم اليقين، في مستوى علم اليقين، ومستوى علم عين اليقين، ومستوى علم حق اليقين.. فمن الناس من يحصل هذه بالموت المعنوي، حتى أنه لا يفاجأ بشيء غريب عليه تماماً، حين يلم به الموت الحسي.. ولقد قيل أن الإمام علياً بن أبي طالب، قال مرة:
((لو رفع الحجاب ما ازددت يقينا
)) يقول هذا لفرط إتقانه للموت المعنوي..
نحن، بشرية القرن العشرين!! نحن بشرية الثلث الأخير من ليل الدنيا!! ومعلومة قيمة الثلث الأخير من ليل اليوم:
((إن ناشئة الليل هي أشد وطءاً، وأقوم قيلا
)).. بنفس هذا القدر يجب أن نعلم قيمة الثلث الأخير من ليل الدنيا، وقيمة البشرية التي تعيشه.. فهذه البشرية هي الموعودة بأن تملأ الأرض عدلاً، في وقتها، كما ملئت جوراً.. وهي الموعودة بتحقيق جنة الأرض، في الأرض..
((وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده، وأورثنا الأرض، نتبوأ من الجنة حيث نشاء، فنعم أجر العاملين
)).. هذه البشرية المعاصرة هي بشرية
((اليوم الآخر
)) الذي من أجل تحقيقه أرسل الرسل، وأنزلت الكتب، وشرعت الشرائع، في جميع حقب هذه الحياة الدنيا.. والذي وارد ذكره في القرآن كثيراً:
((إن الذين آمنوا، والذين هادوا، والنصارى، والصابئين، من آمن بالله، واليوم الآخر، وعمل صالحاً، فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم، ولا هم يحزنون
)).. هذه البشرية هي في جاهلية، اليوم.. ولكن جاهليتها هذه أعلم، وأرفع، وأكثر إنسانية، ولطافة، من جاهلية القرن السابع، من جاهلية الأصحاب، بما لا يحتمل القياس، ولا المقارنة.. فإذا عادت فيهم:
((لا إله إلا الله
))، جديدة، دافئة، قوية، خلاقة، كما كانت على عهد الأصحاب، فإن مستوى جديداً من البشرية سيظهر على هذه الأرض، وإنما بظهوره تملأ الأرض عدلاً، كما ملئت جوراً.. وهذه البشرية التي ستظهر، في هذا المستوى الإنساني الكبير، بمحض فضل الله، إنما هم
((أخوان النبي
)) الذين اشتاق إليهم، حين قال، وهو بين أصحابه:
((وا شوقاه لإخواني الذين لما يأتوا بعد!! قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟؟ قال: بل أنتم أصحابي!! وا شوقاه لإخواني الذين لما يأتوا بعد!! قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟؟ قال: بل أنتم أصحابي!! وا شوقاه لإخواني الذين لما يأتوا بعد!! قالوا: من إخوانك؟؟ قال: قوم يجيئون في آخر الزمان، للعامل منهم أجر سبعين منكم.. قالوا: منا، أم منهم؟؟ قال: بل منكم!! قالوا: ولماذا؟؟ قال: لأنكم تجدون على الخير أعوانا، ولا يجدون على الخير أعوانا
)).. هذه البشرية التي سيجيئ منها
((الإخوان
))، رسولها
((محمد
)) وكتابها القرآن، ودينها الإسلام.. وهي إنما تبلغ هذا المبلغ من الرفعة، وكرامة المقام، بمحض الفضل.. يقول تعالى، في كل أولئك:
((يسبح لله ما في السموات، وما في الأرض، الملك، القدوس، العزيز، الحكيم * هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب، والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين * وآخرين منهم لما يلحقوا بهم.. وهو العزيز الحكيم * ذلك فضل الله، يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم
)).. ولقد تحدثنا عن كل أولئك بتفصيل شامل في كتبنا وبخاصة في:
((الرسالة الثانية من الإسلام
)).. فليراجع في موضعه.. ولكن الذي يهمنا هنا، في ختام هذا الكتاب، هو أننا نحن دعاة الصلاة.. ونحن دعاة بعث السنة.. والمبشرون بعودة الإسلام.. ونحن، بفضل الله علينا، نعرف طريقنا إلى ما نقول.. فليس قولنا ظناً، ولا هو اعتسافاً بالرأي، وإنما هو صريح العلم.. ونحن لا نقول هذا افتخاراً، وإنما نقوله لتوكيد حقيقة الناس في حاجة إلى توكيدها.. فنحن نريد للناس أن يصلوا.. وإننا لعلى يقين تام أنهم، اليوم، لا يصلون..