ثقافة العقل واليد
إن قيمة المجتمع للفرد لا تساويها قيمة.. هو أكبر الوسائل لإنجاب الفرد الحر، الكامل.. ولقد يكفي أن يقال هنا أنه الوسيط الذي فيه يتحرك الفرد، وفيه يمارس العبادة، ويمتحن الأخلاق، ويميز القيم.. وفيه يجد الأمن، ويستشعر الحب، ويباشر التعاون، والعمل، ويحصل العلم.. وبالعلم، والعمل وفق هذا العلم، يتوكد وجود الفرد، وتنضج شخصيته، وتقوى، وتتحقق حريته، وتتسع حياته، وتخصب.
إن الوقت قد أنى الذي فيه يعنى كل فرد بتثقيف عقله، ويده.. وثقافة العقل، واليد، إنما تتحقق بأن يحذق الفرد - كل فرد - عملاً يدوياً، تكون له به خبرة، ويمارسه عن احتراف، أو عن هواية، ويتجه دائماً إلى أدائه بحذق، وبإتقان.. وليكن معلوماً!! فإن قيمة العمل اليدوي ليست في كسب العيش فقط، وإنما هي، وبقدر أهم، فيما يثمره هذا العمل من توحيد العقل، والعين، واليد.. وهذا التوحيد هو من أقرب السبل إلى توحيد القوى المودعة في البنية البشرية التي بتوحيدها، وبقدر مبلغ إتقان توحيدها، تتم الحياة وتكتمل.. تلك القوى إنما هي العقل، والقلب، والجسد.. فأنت، على سبيل المثال، إذا كنت نجاراً، أو بناءً، أو ميكانيكياً، أو ساعاتياً، فإنك إنما تباشر عملك الفني هذا بعقل يعلم، وعين ترى، ويد تنفذ.. وممارسة إتقان صنعتك هذه تسوق، باستمرار، إلى إيجاد نوع من التعاون، ونوع من التوحيد، بين هذه الجوارح الثلاث: العقل، والعين، واليد. والعقل الذي تتوحد جوارحه يكون قوياً، ونافذاً، ومسيطراً.. وهذه هي ما تسمى بثقافة العقل، واليد..
فليس احتراف الحرفة، إذن، ولا تجويد الحرفة، وإتقانها، من أجل كسب العيش، فحسب، وإنما قيمته وراء ذلك، وفوق ذلك، بما لا يقاس.. ولو أن الناس علموا قيمة العمل اليدوي، الفني، الماهر، واستطاعوا توجيهه توجيهاً ذكياً، لحققوا به مكاسب يجدون بركتها في أبدانهم، وعقولهم، وقلوبهم.. ثم لما بقى أحد من الناس إلا وسعى لاكتساب مهارة فنية يمارسها كحرفة أساسية، أو كهواية إضافية، ينفع، وينتفع بها، ساعات فراغه. ويمكن القول بأن التعليم الرسمي نفسه يجب أن يتجه لتعليم كل مواطن، ومواطنة، حرفة يدوية بها يستطيع إتقان عملٍ ما..
إن الصلاة، إذا فهمت، وعرفت على ما قدمناها عليه هنا، من أنها حضرتا ((إحرام)) و((سلام))، وحضرة ((الإحرام)) عبادة وحضرة ((السلام)) معاملة، والمعاملة قوامها دفع الضرر عن الناس، وتوصيل الخير إليهم، لأصبحت الحياة كلها صلاة، ولأصبح إتقان الأعمال التي يكسب منها الفرد عيشه، ويعود منها بالنفع على الآخرين، أكبر القربات إلى الله.. إن القاعدة هي أن الدين ((النصيحة)).. و((النصيحة)) النقاء، والخلوص من الشوائب، والإخلاص.. و((النصيحة)) تكون لله، ولرسول الله، ولكتاب الله، وللحاكم، ولعامة الناس.. ((فمن غشنا ليس منا)).. قولة رسول الله..
والقاعدة في المعاملة: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) و((الخلق عيال الله، فأحبهم إلى الله، أنفعهم لعياله)).. و((أحب الأعمال إلى الله إغاثة الملهوف)).. و((إصلاح ذات البين)).. ((وقولوا للناس حسناً)).. و((يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)).. و((لا خير في كثير من نجواهم، إلا من أمر بصدقة، أو معروف، أو إصلاح بين الناس)).
((الدين المعاملة)) هي قولة المعصوم الشاملة.. وله قولة أخرى: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)).. إن العبادة هي المعاملة.. وكما أن قيمة العبادة للفرد العابد، فكذلك قيمة المعاملة، إنما هي للفرد المعامل.. هذا في المكان الأول. ثم هي لفائدة الجماعة في المكان الثاني..
إن حكم الوقت الحاضر يقضي بأن نجعل العبادة مدرسة فيها نتلقى الطاقة التي بها نخلص لخدمة الناس، وأن نجعل المجتمع وسيطاً فيه نتحرك لنطبق محصول العبادة.. وبين تحصيل الطاقة والمعرفة بخدمة الناس، وبين تطبيق هذه الطاقة، وهذه المعرفة، في واقع حياتنا، وفي مجتمعنا، ننتظر من الله ثواب عبادتنا.. وهو ثواب ناجز، وحاضر، وفوري، نجده في عقولنا بصفاء الفكر، وفي قلوبنا بسلامة الطوية، وفي أجسادنا بصحة الحواس، والجوارح..
إن شعارنا المستمر يجب أن يكون: أداء الواجب المباشر بإتقان.. ونحن، من أجل المقدرة على التمييز بين الواجبات: أيها المباشر؟؟ وأيها الذي يليه؟؟ لا بد لنا من تجويد العبادة.. ونحن من أجل المقدرة على أداء الواجب المباشر بإتقان، لا بد لنا من تجويد فننا الذي نمارسه من أجل كسب عيشنا، ومن أجل خدمة مجتمعنا.. فأما من أجل تجويد العبادة فإنا نقدم هذا الكتاب: ((تعلموا كيف تصلون)).. وأما من أجل تجويد أداء الواجب المباشر فإنا سنوالي تقديم سلسلة: ((تعلموا كيف))، التي ستتكفل، فيما بينها، بإحداث ((الثورة الثقافية)).. وأول ما تبدأ به ((الثورة الثقافية)) إنما هي نفوسنا.. وآخر ما تنتهي به الثورة الثقافية إنما هي نفوسنا.. وأحب لك أن تتذكر!! فإن ((الثورة الثقافية)) لها بداية، وليست لها نهاية.. ذلك لأنها تطور مستمر للنفس البشرية في مراقي التدني من الله - من الكمال المطلق.. ومن أجل أن تؤدي ((الثورة الثقافية)) لنا هذه القيمة فيجب أن يكون أداؤنا للواجب المباشر محاكاة لصنع الله، وتخلقاً بأخلاقه.. فإن التخلص من نقائصنا، والدخول في كمالات الله، منوط بهذا الصنيع، وهو ما من أجله ندبنا أن نتخلق بأخلاق الله.. قال المعصوم: ((تخلقوا بأخلاق الله.. إن ربي على سراطٍ مستقيم)).. وقال تعالى: ((كونوا ربانيين، بما كنتم تعلمون الكتاب، وبما كنتم تدرسون)).
وأخلاق الله أعلاها الحكمة.. والحكمة هي وضع الأشياء في مواضعها، هي إعطاء كل ذي حقٍ حقه.. وتنفيذ الحكمة في الواقع المعاش إنما يتأتى بتوحيد هذا الثالوث: العلم، والإرادة، والقدرة.. ولقد خلق الله، تبارك وتعالى، خلقه بالعلم، والإرادة، والقدرة، فبرزت الحكمة بعد كمون.. ونحن علينا، من أجل التخلق بأخلاق الله، أن نقوم بكل عمل نعمله، بعلم، وبإرادة، وبقدرة.. أو، بعبارةٍ أخرى، بعلمٍ دقيق بما نريد عمله، ثم تخطيط لهذا العمل، وفق هذا العلم الدقيق، ثم تنفيذ لهذا التخطيط، جهد الإتقان..
وبوحدة هذا الثالوث: العلم، والإرادة، والقدرة، نحرز المقدرة على توحيد ثالوث، هو في غاية الأهمية، كوسيلة مفضية إلى الحرية الكاملة، ومن ثم إلى الحياة الكاملة. هذا الثالوث هو الفكر، والقول، والعمل.. ذلك بأن الرجل الحر هو، في أول الطريق، من يفكر كما يريد، ثم يقول كما يفكر، ثم يعمل كما يقول، ثم هو، دائماً، مستعد لتحمل نتيجة فكره، وقوله، وعمله، أمام الله، ثم أمام المجتمع، وفق قانون دستوري.. ثم إن الحر، في درجة متقدمة من المراقي، إنما هو من يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، ثم لا تكون عاقبة فكره، ولا قوله، ولا عمله، إلا براً، وخيراً، بالأحياء، وبالأشياء.. وإنما من أجل وحدة هذا الثالوث المهم جاء قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون؟؟ * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)).. هذه وحدة ثالوث ((الفكر)) - وهو الفكر، والقول، والعمل - وهي وسيلة واسلة للوحدة الكبرى.. لوحدة ثالوث ((الحياة)) - وهو العقل، والقلب، والجسد- وهذا هو نهاية المطاف (وليس للمطاف نهاية) ولكنه غاية الغايات، ونهاية النهايات.. وهو جماع التكليف الديني، في جميع أكوان وجود الإنسان.. في هذه الحياة الدنيا، وفي دنيا البرزخ، وفي النار، وفي الجنة.. بل إن الحياة الكاملة ليست تكليفنا الديني فحسب، وإنما هي القدر المقدور لنا.. فإن الإنسان مكتوبة عليه الحرية، ومكتوب له الكمال.. يقول تعالى في ذلك: ((أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً، وأنكم إلينا لا ترجعون؟؟)).. ويقول تعالى في ذلك، أيضاً: ((يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً، فملاقيه)).. قال: ((الإنسان))، ولم يقل ((المؤمن)).. لا!! ولا حتى ((المسلم)).. وإنما قال ((الإنسان)).. فعلم أن مطلق إنسان يلاقي الله.. وما له من ذلك بد، وليس له فيه اختيار.. وليست ملاقاة الله بالسير في المسافات، وإنما هي بتقريب الصفات من الصفات ـ هي بتقريب صفات العبد من صفات الرب- وبهذا تكمل الحياة.. وليس لكمال الحياة نهاية فيبلغها الحي، وإنما هو السير السرمدي في مراقي القرب من الله.. وهذا السير هو ((ثورة فكرية)) و((ثورة ثقافية)).. وهذه الثورة لا تنتهي، لا في الدنيا، ولا في الآخرة.. لأن السير إلى الله لن ينفك، ولن يقف.. فأهل الدنيا، في الدنيا، سائرون.. وأهل البرزخ، في البرزخ، سائرون.. وأهل النار، في النار، سائرون.. وأهل الجنة، في الجنة، سائرون.. فالسير في ((السرمد))، بعد نهاية ((الأبد)) ومن أجل ذلك قلنا: إن الثورة الثقافية لها بداية، وليست لها نهاية.. لأنها ((تطور)) سرمدي في مراقي الكمال المطلق..
واقتران ((الثورة الفكرية)) ((بالثورة الثقافية)) هو اقتران العقل بالجسد.. ((فللعقل)) الثورة الفكرية، و((للجسد)) الثورة الثقافية.. والنتيجة، ((علم))، و((عمل)) بمقتضى العلم.. وآية ذلك من كتاب الله قوله، تبارك وتعالى: ((إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه)).. و((الكلم الطيب)) التوحيد.. و((العمل الصالح)) أعلاه الصلاة.. وهو أيضاً كل عمل في ((المعاملة))، و((الخدمة))، وتوصيل الخير للناس.. فالكلم الطيب حظ العقل، والعمل الصالح حظ الجسد.. وبالعلم، والعمل بمقتضى العلم، يحدث ((التوحيد)) بين العقل والجسد.. وهذا هو غرض الكلمة: ((لا إله إلا الله)) فإنا قد قررنا، وبتفصيل، أن التوحيد صفة الموحِد (بكسر الحاء)، وليس صفة الموحَد (بفتح الحاء)..
والصلاة، والخدمة للناس، إنما هما منهاج الدنيا.. وأما منهاج ((البرزخ))، وأما منهاج ((الآخرة))، وأما منهاج ((السرمد))، في الترقي، فإنما هو ((الفكر))، و((الذكر)).. ((الكلم الطيب)) هناك ((الفكر))، و((العمل الصالح)) ((الذكر)).. فكأن (الكلم الطيب) ، في أكوان ما بعد الدنيا، هو أيضاً حظ (العقل) ، ولكن ((العمل الصالح)) فيها يكاد يكون حظ ((القلب)).. الفكر ((للعقل))، والذكر ((للقلب)) وبقاء الإنسان منقسماً بين عقل، وقلب، إنما هو بقاء سرمدي.. ولا يقع التوحيد، إلا في ((الفينة)) بعد ((الفينة)).. فأما التوحيد ((المطلق)) فإنما هو حظ الله وحده.. لا شريك له فيه.. وهو لا يكون حظ الإنسان إلا بالميراث، وذلك ميراث لا يتم الرشد لاستحقاقه برمته.. هذه هي ((الثورة الفكرية))، و((الثورة الثقافية)).. وهي تبدأ ((منذ اليوم)).. ولا يغفل عنها إلا غافل، قد هانت عليه نفسه، فلم يحفل بمصيرها.. قال تعالى في ذلك: ((ومن يرغب عن ملة إبراهيم؟؟ إلا من سفه نفسه!! ولقد اصطفيناه، في الدنيا، وإنه، في الآخرة، لمن الصالحين..)).. تبدأ في الدنيا، وتبدأ ((منذ اليوم)) لكل عاقل، حازم، يهمه مصير حياته، في الحاضر، وفي المستقبل القريب، وفي المستقبل البعيد. وتبدأ بالصلاة بتقليد ((قدوة التقليد)) - محمد، النبي، الأمي - تبدأ بالصلاة ((بحضرتيها)).. وهذا الكتاب إنما هو في تبيين تلك البداية.. وهو عمل منا خالص لوجهه.. فإن كان يعلم تمام خلوصه له، فهو المرجو أن يقبله وإن كان يعلم نقص خلوصه، فهو المرجو أن يخلصه له، من كل شائبة، وأن يقبله، وأن ينفع به كل الناس، حيث وجد الناس.. إنه سميع مجيب..