بسم الله الرحمن الرحيم
((فاذكروني أذكركم.. واشكروا لي ولا تكفرون * يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر، والصلاة.. إن اللّه مع الصابرين))
صدق الله العظيم
الباب الأول
المدخل
هذا كتاب عن
((الصلاة
))، اسمه:
((تعلموا كيف تصلون
)).. وهو كتاب يشفع كتابنا الأول:
((رسالة الصلاة
))، الذي يجري، الآن، في طبعته السادسة.. وقد كانت طبعته الأولى في شهر الله المبارك رمضان من عام 1385، وكان هذا يوافق شهر يناير من عام 1966.
هذا الكتاب يحاول أن يجعل تحقيق
((رسالة الصلاة
)) ممكناً، وهو ما من أجله جعل اسمه:
((تعلموا كيف تصلون
)).. والصلاة أشرف عمل العبد.. فإنه، إذا كانت أعلى العبادات اللفظية هي:
((لا إله إلا الله
))، فإن أعلى العبادات العملية هي
((الصلاة
)).. وكيفية الصلاة غير معلومة لدى الناس بصورة كافية.. وقيمة الصلاة مجهولة عند الناس جهلاً تاماً.. وإنما أردنا بهذا الكتاب إلى تبيين الكيفية بصورة جلية، وإلى إظهار القيمة من الصلاة إظهاراً كافياً، يعيد إليها بعض ما تستحق من الكرامة، والتفضيل..
إن الصلاة ليست عمل السذج، والبلهاء، والغافلين، والعاجزين، كما يظن المثقفون على عصرنا الحاضر.. وإنما الصلاة عمل هؤلاء جميعاً، وهي، إلى ذلك، وفوق ذلك، وقبل ذلك، عمل المثقفين، والعلماء، والفنانين، والفلاسفة، وعمل كل مفكر، للفكر عنده مكانة، وكرامة.. فنحن لا نحاول محاولتنا هذه لندعو إلى الصلاة المؤمنين وحدهم، وإنما دعوتنا تتوجه إلى أصحاب الفكر الحر، الكريم، حيث وجدوا.. ذلك بأنا موقنون أن عصرنا الحاضر هو عصر الفكر، والعلم .. وهو، من هذا المستوى، يواجه الدين ــــ من حيث هو دين ــــ بتحدٍ لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية الطويل، العريض.. ومضمون هذا التحدي هو: أيستطيع الدين ـــ من حيث هو دين ـــ أن يرتفع إلى مخاطبة العقول النيرة، وإقناعها، في مستوى جميع تطلعاتها، وتساؤلاتها؟؟ أم يظل، كسابق عهده، يطالب بالإيمان، ويفرض الإذعان، ثم هو لا يكاد يسعى إلى ما فوق ذلك؟؟..
غني عن القول إن الإيمان، بصورة من الصور، قاعدة للعلم، وللعقيدة معاً.. ولكن العلم يتسامى بالإيمان إلى الإيقان، في حين أن العقيدة تقف، أو تكاد تقف، عند الإيمان.. وهذا حديث قد جرى تفصيله في كتابنا:
((الرسالة الثانية من الإسلام
)) مما يغني عن تفصيله هنا.. والذي يهمنا أن نقرره الآن هو: إننا إنما نعيش في عصر العلم، والفكر - عصر التكنولوجيا، وعصر الفضاء، وعصر دقائق العلم بخواص المادة، ونستقبل، كل يوم، مزيداً من دقائق العلم بكل أولئك - وليس هذا العلم هو حاجتنا بالأصالة، وإنما هو حاجتنا بالحوالة.. وما حاجتنا بالأصالة إلا العلم بدقائق النفس البشرية.. نحن نبحث عن أنفسنا.. نريد أن نجدها، وأن نعرفها، وأن نكون في سلام معها.. هذا هو العلم الحقيقي الذي سيتوج العلم المادي الحاضر، ويوجهه.. وعندنا، نحن المسلمين، أن القرآن إنما هو دعوة إلى هذا العلم، وأن الصلاة إنما هي منهاج إلى تحقيق هذا الغرض.. بها تتسامى النفس، من مرحلة الإيمان إلى مراقي الإيقان، التي تدخل بها مداخل الحياة الخالدة، تلك الحياة التي لا تؤوفها آفة الجهل، والنقص، والعجز.. وهذا هو مطلب الحياة.. بل هو مطلب العناصر، جميعها، منذ فجر الوجود، وقبل ظهور الحياة في المسرح:
((إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً * وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذاباً أليماً * ويدعو الإنسان بالشر، دعاءه بالخير، وكان الإنسان عجولا
)).. ههنا ثلاثة أصناف من الناس: المسلمون، والمؤمنون، والكفار.. فأما المسلمون فإن القرآن يهديهم.. وأما المؤمنون فإنه يبشرهم.. وأما الكافرون فإنه ينذرهم.. والإنذار إنما هو الوجه الآخر للتبشير، وما الاختلاف بين الوجهين إلا اختلاف مقدار.. ذلك بأن الغرض من كليهما - التبشير والإنذار - إنما هو الهداية، فانتهى الأمر إلى أن قوله:
((إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم
)) إنما يعني أنه يهدي جميع الناس، على تفاوت في المقدار، سببه التفاوت في الاستعداد.. وجميع الناس مهديون، ومهتدون، في المآل، ولا يقع ضلال من ضل إلا في الحال.. وهذه هي الحكمة وراء العقوبة بالنار.. وما هي التي هي أقوم؟؟ هي النفس العليا!! ففي كلمة
((أقوم
)) إشارة إلى الاستقامة.. والاستقامة هي الاستواء بين طرفين: كلاهما مقصر، ومعيب: طرف
((الإفراط
))، وطرف
((التفريط
)).. طرف الإفراط في الروحانية، وطرف التفريط في الروحانية. وهذا الأخير إنما يعني الحيوانية.. والنفس العليا إنما هي اعتدال، واستقامة، تلتقي فيها، على استواء، فضائل الروحانية، وفضائل الحيوانية.. والإنسان، في نشأته، برزخ، التقت عنده الروحانية، والحيوانية.. وليس كماله في أن يكون روحانياً صرفاً.. ولا هو بالطبع في أن يكون حيوانياً صرفاً.. وإنما كماله في أن يكون مزجاً معتدلاً، ومستوياً بين هذين الطرفين، وبتعبير آخر، فإن الله قد خلق خلقاً هم عقول بلا شهوة، وهؤلاء هم الملائكة.. وخلق خلقاً هم شهوة بلا عقول، وهؤلاء هم الأبالسة - إبليس وذريته - ثم جاءت النشأة البشرية: شهوة ركب عليها عقل، وأمر بسياستها.. والنفس العليا، في هذه النشأة، إنما هي النفس الخاضعة، في شهواتها، لمقتضيات العقل القوي، المستحصد.. وإنما جاءت الشرائع لتعين العقول على هذه القوة، وعلى هذا الاستحصاد.. وفي مقابلة النفس العليا، النفس السفلى، وهذه هي ما سميت بالنفس الأمارة بالسوء:
((وما أبرئ نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء، إلا ما رحم ربي.. إن ربي غفور رحيم
)).. وحين أشار إلى النفس السفلى في هذه الآية، فإنه تعالى أشار إلى الارتفاع منها نحو النفس العليا، وذلك حين قال، من تلك الآية:
((إلا ما رحم ربي
)).. فإنه، بهذا الاستثناء، قد فتح الباب الموصل بين النفس السفلى، والنفس العليا، ومعلوم أن الاختلاف بينهما إنما هو دائماً اختلاف مقدار.. فكل مرحلة، يقطعها السالك، من مراحل النفس، تمثل نفساً عليا بالنسبة لما هو دونها، وهي نفسها تكون في منزلة نفس سفلى بالنسبة لما هو أعلى منها، وهكذا دواليك.. وإلى غير نهاية.. ذلك بأن السير في هذه المراقي إنما هو سير سرمدي، ليس له حد فيحده، ولا نهاية فيبلغها، وإنما كل كامل فوقه أكمل منه، وكل عالم فوقه أعلم منه.. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:
((فوق كل ذي علمٍ عليم
))..
ومن أجل الإشارة للنفس العليا، والنفس السفلى، وكونهما وجهين لأمر واحد، جاء قوله تعالى:
((من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها..
)).. قوله:
((من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه
))، يعني أن العارف إنما هو من عرف الطريق، ولزم الطريق، الموصل من نفسه السفلى، إلى نفسه العليا.. ثم قال:
((ومن ضل فإنما يضل عليها..
)).. والضمير بالهاء من
((عليها
)) يرجع للنفس، ولكنه ليس للنفس العليا، وإنما هو يرجع للنفس السفلى، وذلك لقرينة قوله:
((ضل
)).. فهو إذن إنما يعني بقوله:
((ومن ضل فإنما يضل عليها
))، الجاهل من ظل يتخبط في ظلمات شهوات نفسه السفلى، وقد فقد، في متاهاتها، الطريق الخارج منها في اتجاه نفسه العليا..
وفي نفس هذا المعنى جاء قوله تعالى:
((وأن اتلو القرآن.. فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فقل: إنما أنا من المنذرين * وقل: الحمد لله.. سيريكم آياته فتعرفونها.. وما ربك بغافل عما تعملون
))..
وقال بعض العارفين، في مضمار الإشارة إلى النفس العليا، والنفس السفلى:
((سيرك منك، وصولك إليك
)) والسير إنما هو علم، وعمل بمقتضى العلم.. والعلم أداته العقل، والعمل أداته الجسد.. وأدنى العلم، فيما نحن بصدده، في هذا الكتاب، هو علم الشريعة - علم ما لا تصح العبادة إلا به - وأدنى العمل، فيما نحن بصدده، في هذا الكتاب، هو الصلاة الشرعية، بحركاتها، وكيفياتها، المعروفة.. وليست الصلاة غاية في ذاتها وإنما هي وسيلة إلى غاية، هذه الغاية هي توحيد البنية البشرية.