الإنسان منقسم
لقد سلفت الإشارة إلى أن الإنسان، في نشأته، إنما هو برزخ بين الملائكة الأعلين، والأبالسة الأسفلين.. هو نقطة التقاء النور، والظلام - العقل، والشهوة - ولقد قررنا أن العقل قد أمر بترويض الشهوة.. وعلى هذا قام التكليف، وبه ظهر الإنسان، بعد أن لم يكن.. قال تعالى: ((هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً؟؟)).. و((هل)) هنا تعني ((قد)) التحقيقية.. فقد مر على الإنسان دهر دهير كان أثناءه يتقلب في مراحل الحيوانية السفلى.. وهو لم يكن يومئذ ((شيئاً مذكوراً)) لأنه لم يكن مكلفاً، وإنما كان سائماً.. وقانون السائمة اتباع اللذة، حيث وجدت، والفرار من الألم، حيث أمكن.. وقانون المكلف هو قانون الحرام والحلال، وقانون النهي والأمر.. وهو، في جملته، يعني عمل المأمورات، واجتناب المنهيات.. وإن كان في هذا وذاك مشقة على النفس، وحرمان لها من دواعي جبلتها.. وبدخول هذا القانون - قانون التكليف - انقسم الإنسان.. وبدأ سيره نحو الإنسانية، مبتعداً عن الحيوانية.. وكل مشقة يحتملها في هذا الاتجاه، إنما هي منزلة قرب من إنسانيته، تمثل، في حد ذاتها، منزلة بُعد عن حيوانيته.. وهذا ما أشرنا إليه عندما قلنا: إن السلوك، إنما هو ارتفاع من النفس السفلى، إلى النفس العليا.. وهو ما قاله العارف، حين قال: ((سيرك منك، وصولك إليك))..
وبالتجافي عن اللذة الحرام العاجلة، استجابة لما أوجب الشارع، وابتغاء اللذة الحلال الآجلة، قوي عقل الإنسان، وقويت إرادته.. قوي عقله لحاجته إلى التمييز بين ما ينبغي وما لا ينبغي: وقويت إرادته لحاجته إلى السيطرة على دواعي نفسه إلى الاندفاع نحو اللذة الحاضرة، كما هو العهد بالحيوان.. وبهذا الصنيع انكبتت رغائب أصبح بها الإنسان منقسما بين عقل كابت، ورغائب نفس مكبوتة.. وكلمة ((العقل)) هنا تمثل قوة الإدراك، وقوة السيطرة..
وانقسام الإنسان لم يبدأ بظهور قانون الحلال والحرام، كما جاءت به الأديان، وإنما بدأ بظهور المجتمع.. وقد سبق ظهور المجتمع ظهور الأديان بآمادٍ سحيقة.. وفي الحق، إن هذا الانقسام قد أخذ بداياته منذ ظهور الحياة نفسها.. فإن ظهور المادة العضوية، من المادة غير العضوية، ذلك الظهور الذي يؤرخ بدء الحياة، في صورها البسيطة، إنما هو انقسام المادة بين كثيف، ولطيف.. وقد ظل الكثيف يلطف، واللطيف يزداد لطافة، حتى بلغا، في مرحلة الإنسانية، أن أصبح اللطيف يمثل العقل، والكثيف يمثل الجسد.. فلكأن الانقسام أخذ بداياته بظهور الحياة.. بل إن الانقسام هو مرادف للحياة.. هو هي.. ولكنه تعقد، وتشعب، وترسبت طبقاته، طبقة فوق طبقة، بظهور المجتمع الإنساني، وأعرافه، وعاداته، وتقاليده.. ثم ازداد تعقيداً، بظهور الأديان، في صورها المعقدة.. وبتوكيد فكرة الغيب فيها، وبالدعوة إلى الإيمان، وإلى التوحيد.. وقد عالجنا مسألة الكبت كلها بصورة مفصلة في مقدمة الطبعة الرابعة من كتابنا: ((رسالة الصلاة))، بما يغنينا هنا عن الإعادة، فليراجع في موضعه.. والأمر الذي نريد أن نقرره هنا، وإن كان قد ورد هناك بتفصيلٍ كافٍ، هو أن الانقسام قد كان، في جميع أطواره، بدافع من الخوف.. فلولا الخوف ما ظهرت الحياة، في المكان الأول، ولولاه ما ترقت الحياة بظهور العقل، في المكان الثاني.. ولكن الحياة، مع ذلك، لن تبلغ كمالها إلا إذا تحررت من الخوف تماماً.. فلكأن الخوف صديق في بدايات النشأة، عدو في أخرياتها.. ولقد رسب هذا الخوف، في النفس البشرية، عقداً لا يحصيها الحصر.. وهي تقع على مستويين: المستوى الموروث في عمر الحياة، والمستوى المكتسب في عمر الفرد.. وهذه العقد بمستوييها هي الحائل الآن بين الإنسان والعلم.. هي الحجاب القائم بين قلب الإنسان، حيث الحقائق الأزلية، وعقل الإنسان، حيث المرآة التي تتطلع لانعكاسات هذه الحقائق الأزلية عليها.. وعمل كل العبادة إنما هو محاولة تلطيف هذا الحجاب الحائل، وذلك بحل هذه العقد، المكتسبة، والموروثة.. وإلى هذه العقد بمستوييها، وإلى كونها حُجباً، وردت الإشارة بقوله، جل من قائل: ((كلا!! بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون * كلا!! إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون * ثم إنهم لصالوا الجحيم * ثم يقال: هذا الذي كنتم به تكذبون)).. قوله: ((ما كانوا يكسبون..))، تشير إلى الحيل التي لا تحصى، والتي دفعنا إلى اتخاذها الخوف على الحياة، في المكان الأول، والخوف على الرزق، في المكان الثاني.. ثم قال ((كلا!! إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون)).. وهو يعني ((بيومئذ)) بدء النشأة الأخرى، بتحصيل الأعمال المكتسبة في النشأة الأولى.. ذاك يوم ظهور الحجاب بين الرب، والعبد الجاهل، على أكثف صوره.. ولكن ((يومئذ)) هذا ليس غائباً اليوم تماماً، ولا الحجاب غائباً اليوم تماماً.. ثم قال ((ثم إنهم لصالو الجحيم)).. والحكمة المرادة من تصليتهم الجحيم إنما هي رفع الحجاب الذي عجزوا عن رفعه، بتحصيل العلم، في النشأة الأولى.. وهذه التصلية هي جزاء وفاق، وعدل مطلق.. ومن ههنا، عرف العارفون أن التصلية بالجحيم، إنما هي مرحلية، وليست سرمدية.. هي رحمة، وليست انتقاماً.. عن ذلك تعالى الله، علواً كبيراً..
رفع الحجب
وإنما من أجل رفع هذه الحجب القائمة بين العقل والقلب - بين الحادث، والقديم - جاءت رسالات السماء على ألسنة الرسل البشر: ((ما كان لبشرٍ أن يؤتيه الله الكتاب، والحكم، والنبوة، ثم يقول للناس: كونوا عباداً لي، من دون الله.. ولكن كونوا ربانيين، بما كنتم تعلمون الكتاب، وبما كنتم تدرسون * ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة، والنبيين، أرباباً.. أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون؟!)) وعلى هذه جاء قول المعصوم: ((تخلقوا بأخلاق الله.. إن ربي على سراط مستقيم)).. وأعلى أخلاق الله ((الأحدية)).. والأحدية هي الصمامة الداخلية، والخارجية، التي لا تنقسم، لبراءتها من الأغيار، ولخلوها من الفجوات، ومن الفراغ.. وسبيل الإنسان إلى التخلق ((بالأحدية)) إنما هو التخلق ((بالواحدية)).. والواحدية هي التفرد الذي لا يشبهه شبيه.. وسبيل الإنسان إلى التخلق بالواحدية تجويد التوحيد، ((لا إله إلا الله)).. وسبيل الإنسان إلى تجويد التوحيد، تجويد العبادة.. والعبادة معاملة.. والمعاملة، كالعملة، ذات وجهين: من أعلاها معاملة الرب.. ومن أدناها معاملة الخلق.. وأعلى معاملة الرب ((الصلاة)).. وأعلى معاملة العبد صلة الرحم.. وليست الرحم هنا قرابة الدم، (وإن كانت هذه موجودة في أدنى المنازل)، وإنما الرحم هنا بمعناها الواسع، وهي رحم العبودية للمعبود الواحد.. قال تعالى، في ذلك: ((إن الله يأمر بالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى.. وينهى عن الفحشاء، والمنكر، والبغي.. يعظكم لعلكم تذكرون)).. قمة الصلاة أن تكون صلة بينك، وبين الله، حتى تكون معه كما هو معك.. وهيهات.. وقمة المعاملة أن تنشأ الصلة، بينك، وبين الأشياء، والأحياء، فتتصرف فيها وأنت تتوخى الحكمة التي ترضي خالقها، في تصريفها.. وهذه دائماً ممكنة، في مستوى من المستويات، للعارفين الذين تبلغ بهم المعرفة منازل المحبة - محبة الأحياء، والأشياء.. وبالمحبة نتحرر من الخوف، ونتخلص من الحجب، التي رسبها هذا الخوف، في صور عقد نفسية..