طريق العودة
الإنسان عن الله صدر، وإلى الله يعود.. قال تعالى: ((يا أيها الناس!! اتقوا ربكم، الذي خلقكم من نفسٍ واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً، ونساء.. واتقوا الله الذي تساءلون به، والأرحام.. إن الله كان عليكم رقيبا)).. هذه ((النفس)) الواحدة هي ((نفسه)) تبارك، وتعالى، في المكان الأول، ثم هي نفس ((آدم))، في المكان الثاني.. وعندما يقول، سبحانه وتعالى: ((كلا!! إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى * إن إلى ربك الرجعى)) إنما يشير ((بالرجوع)) إلى ((الصدور)) الأول.. وليست الرجعى إلى الله بقطع المسافات، وإنما هي بالعلم بالله.. هي بتقريب صفات العبد من صفات الرب.. ذلك بأننا نشبهه، وقد خلقنا على صورته.. هو، سبحانه وتعالى، حّي، وعالم، ومريد، وقادر، وسميع، وبصير، ومتكلم.. ونحن، كل واحد منا، قد جعله الله حياً، وعالماً، ومريداً، وقادراً، وسميعاً، وبصيراً، ومتكلماً.. بيد أن صفاته، سبحانه وتعالى، في نهاية الكمال، وصفاتنا في طرف النقص.. والمراد ((بالرجعى)) أن نحاول تكميل صفاتنا هذه حتى تنطبق على صفاته.. وهيهات!! وهذا الصنيع هو، في الواقع، تكليفنا الأساسي.. بل هو جماع كل التكاليف.. وهذا هو المعبر عنه بقوله، سبحانه وتعالى: ((وأن إلى ربك المنتهى)).. وهو المراد بقوله، سبحانه وتعالى: ((يا أيها الإنسان!! إنك كادحٌ إلى ربك كدحاً فملاقيه)).. وهو أيضاً المقصود من قول المعصوم: ((تخلقوا بأخلاق الله.. إن ربي على سراطٍ مستقيم)).. ولقد خلق الإنسان كاملاً في ((الملكوت))، ثم رد إلى ((الملك))، ليرقى ((بملكه)) إلى (ملكوته)، فيكون ملكاً في مملكته.. قال تعالى: ((لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا، وعملوا الصالحات.. فلهم أجرٌ غير ممنون)).. ومعنى عالم ((الملكوت)) عالم ((الأرواح)) - عالم العقول - عالم العلم، والإرادة.. ومعنى عالم ((الملك)) عالم ((الأجساد)).. وفي عالم الملكوت العلم، أو العقل، ظاهر متميز.. وفي عالم الملك العلم، أو العقل، كامن في الجسد.. وقد سير الخوف الأجساد في المراقي حتى أبرز منها عقولها، وعلومها..
إن الإنسان لم يبرز في عالم الملك مكتملاً، كما يفهم علماء الدين من ظاهر النص، وإنما برز بصورة بدائية، سحيقة في البدائية.. برز في صورة ذرة غاز الهيدروجين.. وهذه هي عبارة: ((أسفل سافلين)) التي أشار إليها تعالى في قوله: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، فلهم أجرٌ غير ممنون)).. ومن: ((أسفل سافلين)) اتخذ الإنسان طريق الرجعى إلى ((أحسن تقويم)).. وفي مرحلة معينة برزت الحياة بعد أن كانت كامنة.. وبروز الحياة هو بروز المادة العضوية من المادة غير العضوية.. وأدنى درجات الحياة، التي نسميها اصطلاحاً حياة، أن يكون الحي شاعراً بحياته.. وآية ذلك أن يتحرك حركة تلقائية، وأن يتغذى، وأن يتناسل بصورة من الصور.. وقد بدأت هذه الحياة بحيوان ((الخلية)) الواحدة.. وهذه ((الخلية)) الواحدة إنما تمثل الإنسان، في منزلة متقدمة من منازل سيره في طريق الرجعى.. وبهذه الخطوة الجليلة، والخطيرة، أفتتح عهد جديد.. عهد عظيم.. عهد الحياة، والموت.. وبعهد الحياة، والموت هذا، دخل الخوف في المنطقة.. وبدأت الحياة تنقسم.. وهذه القسمة تمثل بداية ظهور اللطيف من الكثيف.. وهذه هي بداية الإدراك.. وقد كان الإدراك البدائي يتمثل في الحس.. وكان حيوان ((الخلية)) الواحدة، (اقرأ الإنسان) يحس بكل جسده الرخو.. ثم تعقدت الحياة، وارتقت، ورهف إحساسها بالخطر الذي يتهددها، فظهرت الحاجة إلى الوظائف المختلفة، فكان على الجلد أن يتكثف، ويغلظ، ليكون درقة، ودرعاً.. وكان على بعض أعضاء الجسد، غير الجلد، أن تقوم بوظيفة الحس.. وهكذا بدأ نشوء الحواس. ونحن، لطول ما ألفنا الحواس الخمس، نتورط في خطأ جسيم إذ نظن أن الأحياء قد خلقت، وحواسها الخمس مكتملة.. والحق غير ذلك، ذلك بأن الحواس قد ظهرت، الواحدة تلو الأخرى، وذلك كلما ارتقت الحياة، وتعقدت وظائف أعضاء الحي.. ففي البدء كان اللمس بالجسم كله - بالجلد - ثم لما توظف الجلد في الوقاية خصصت بعض الأجزاء في اللمس.. ثم ارتقت وظيفة الحس لما احتاج الحي للمس الخطر، والخطر على البعد.. فامتدت هذه الوظيفة امتداداً لطيفاً، فكان السمع، ثم كان النظر، ثم كان الذوق، ثم كان الشم.. وليس هذا بترتيب ظهور للحواس، ولا هو بترتيب اكتمال.. فإن بعض الأحياء يحتاج لحاسة معينة، أكثر من احتياجه للأخريات، فتقوى هذه على حساب أولئك، مع وجود الأخريات بصورة من الصور.. ونشوء هذه الحواس، وظهورها، وقوتها، تمثل منازل معينة، من منازل حياة الإنسان، وهي راجعة إلى مصدرها.. ((إن إلى ربك الرجعى)).. والآن!! فإن الحيوانات العليا ذات خمس حواس.. وإن، في الإنسان، الحاسة السادسة، والحاسة السابعة، في أطوار الاكتمال.. ولا يكون، بعد الحاسة السابعة، تطور في زيادة عدد الحواس، وإنما يكون تطور في ترقيها، وكمالها.. وهذا لا ينتهي، فإنما هو سرمدي.. والحاسة السادسة هي العقل، حين يقوى، ويستحصد، ويوحد معطيات الحواس المختلفة، حتى يكون، بقوة هذا التوحيد، لدى إدراكه لأي شيء، كأنه يحسه، ويسمعه ويراه، ويذوقه، ويشمه، في آنٍ واحد.. وأما الحاسة السابعة فهي القلب.. وفي حين أن وظيفة العقل الإدراك، فإن وظيفة القلب الحياة.. وجميع الحواس، وعلى رأسها العقل القوي، إنما هي خدم لهذه الحاسة.. وهي قد خرجت منها، في صورة طلائع، تستكشف الطريق، وتؤمن خط الرجعى.. وكانت دواعي الخوف كثيرة.. وقد ذكرنا: أن الخوف قد كان صديقاً في ثياب عدو.. والمحاولة، كل المحاولة، أن ندرك حقيقة الخوف، وكيف أنه صديق. وننتهي إلى المواءمة بيننا وبين بيئتنا، لا العداء، والمناجزة.. ولا يستقيم لنا ذلك إلا عندما تقوى العقول، فتدرك الأمر، على ما هو عليه، ويومئذ يحل الحب، والأنس، محل الخوف.. ويومئذ ينطلق القلب من الانقباض الذي أورثه إياه الخوف، فيدفع، بانطلاقته هذه، دم الحياة قوياً، إلى كل ذرات الجسد، وكل خلايا الجلد، تلك التي كان الخوف قد حجرها، وجعل منها درقة، ودرعاً لوقاية الحياة البدائية.. ويومئذ يعود الشعور لكل الجسد، ويعود الحس المرهف لكل الجلد.. فيكون الجسم حياً كله، لطيفاً كله، جميلاً كله.. وتكون أرض الجسد الحي، يومئذ، هي المعنية بقوله تعالى: ((وترى الأرض هامدة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت، وربت، وأنبتت من كل زوجٍ بهيج..)).. قوله: ((من كل زوجٍ بهيج)) إشارة إلى الحواس.. فإذا بلغنا هذه المرحلة فقد بدأنا نرد المورد الذي عنه صدرنا، يوم قال عنا، عز من قائل: ((قلنا أهبطوا منها جميعاً، فإما يأتينكم مني هدى، فمن تبع هداي فلا خوف عليهم، ولا هم يحزنون)).. وقد جاءنا هذا الهدى بالتوحيد، والصلاة: ((إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه..)) وإنما نرد، بظهور الحاسة السابعة، مورد الحياة الكاملة.. وليس للحياة الكاملة نهاية كمال، وإنما كمالها، دائماً، نسبي.. وهي منطلقة دائماً، متطورة دائماً، تطلب الحياة المطلقة الكمال، عند الكامل المطلق الكمال - عند الله - وهذا مطلبها السرمدي..
إن التوحيد، كلمة: ((لا إله إلا الله)) حولها نشأ القرآن.. حتى لقد قيل: أن آيات القرآن جميعاً قد جلست للهاربين من الله في الطرقات، تردهم إليه، بوعدها، وبوعيدها.. واتجه التوحيد إلى تخليص الحي من الخوف.. فبدأ بتوحيد الخوف.. قال تعالى: ((إنما ذلكم الشيطان يخّوف أولياءه.. فلا تخافوهم.. وخافون، إن كنتم مؤمنين)).. وجاء: ((رأس الحكمة مخافة الله)).. قال تعالى، في الخوف من الله، في المرحلة الأولى، وفي الخلاص من هذا الخوف، في المرحلة الثانية: ((الله نزل أحسن الحديث، كتاباً، متشابهاً، مثاني، تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم، وقلوبهم، إلى ذكر الله.. ذلك هدى الله، يهدي به من يشاء.. ومن يضلل الله فما له من هادٍ..)) قوله تعالى: ((تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم))، إشارة إلى الخوف الذي، في أوليات الحياة، كثف الجلد لحماية الحياة، كما سبق أن قررنا.. قوله تعالى: ((ثم تلين جلودهم))، إشارة إلى الطمأنينة من الخوف التي يثمرها العلم بحقائق الأمور، حيث ليس للخوف مكان، وإنما المكان للحب، والأنس.. ولذلك فقد أشار تعالى بقوله: ((ذلك هدى الله.. يهدي به من يشاء)) ومن لم يهتد إلى العلم بحقائق الأشياء، كما هي عليه، فسيظل في خوف مستمر.. ولذلك فقد أشار، تبارك وتعالى، بقوله: ((ومن يضلل الله فما له من هاد)).. فكأنه قال فما له من هاد يهديه إلى الأمن من الخوف.. وفي قوله: ((ثم تلين جلودهم، وقلوبهم إلى ذكر الله)) جماع الأمر.. فإن القلب هو قوام الحياة.. بل هو الحياة.. المعتبرة، عند الله، والتي بها فُضّل الإنسان، وساد، سائر الأكوان.. قال تعالى، في حديث قدسي: ((ما وسعني أرضي، ولا سمائي.. وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن)).. وليس الوسع، هنا، وسع مكان، وإنما هو وسع المعرفة.. فإذا ما فاض القلب بهذه المعرفة دفع دم الحياة، قوياً، إلى كل ذرات الجسد، وكل خلايا الجلد.. فحيي الحي الحياة الكاملة، التي لا يؤوفها المرض، ولا الموت.. والمعرفة بحقائق الأشياء، كما هي عليه، تقول: إن الوجود، في أصله خير كله.. لا مكان للشر في أصل الوجود، وإنما الشر في مظهره.. وسبب الشر هو جهلنا بهذه الحقيقة.. ومن ثم، فليس هناك ما يوجب الخوف، إلا هذا الجهل.. وليس الجهل بضربة لازب علينا، وإنما نحن نخرج عنه، كل حين، إلى العلم، وذلك بمحض فضل الله علينا.. قال تعالى: ((هو الذي يصلي عليكم، وملائكته، ليخرجكم من الظلمات إلى النور)).. ونحن لا نستطيع أن نبلغ من استيقان هذه الحقيقة بعض ما نفضي به إلى الحب، بدلاً من الخوف، إلا إذا أخذنا من الله بلا واسطة - إلا إذا علمنا العلم اللدني - وليس إلى ذلك العلم من سبيل إلا إذا لقينا الله.. ونحن لا نستطيع أن نلقاه إلا إذا عشنا متحلين بأدب الوقت، وهو أن نعيش في ((اللحظة الحاضرة))، غير مشتغلين بالماضي، ولا بالمستقبل.. وهذا هو أدب ((القرآن)) الذي يسعى لتأديبنا به.. وهو هو مقتضى التوحيد.. قال تعالى: ((ما أصاب من مصيبة، في الأرض، ولا في أنفسكم، إلا في كتابٍ، من قبل أن نبرأها.. إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم.. والله لا يحب كل مختالٍ فخور * الذين يبخلون، ويأمرون الناس بالبخل.. ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد)).. وهذا الأدب هو ما من أجل تحقيقه فرضت الصلاة.. بل أنه لهو الصلاة.. وسيرد الحديث عن ((أدب الوقت)) في موضع آخر، من كتابنا هذا.. وأيسر ما يقال عنه هنا: أن كل الوسائل إنما شرعت لتجعله ممكناً.. ولذلك، فإن المعرفة بحقائق الأشياء، كما هي عليه، تقرر أمراً ثانياً وهو: أن الناس أشراك في خيرات الأرض، وأشراك في تولي السلطة، لتكون ((وسيلة)) المجتمع قائمة على ((الاشتراكية))، و((الديمقراطية)) وعلى بنتهما الشرعية - العدالة الاجتماعية.. ذلك بأن المجتمع أقوى الوسائل، بعد وسيلة الإسلام، ووسيلة القرآن.. وهو لن يبلغ التوسل به إلى تحرير الإنسان من الخوف غايته هذه إلا إذا بُني على أسس تؤمن الإنسان على رزقه، وعلى حريته، وعلى كرامته.. ومن ههنا: الاشتراكية، والديمقراطية.