إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

أدب السالك في طريق محمد

بسم الله الرحمن الرحيم
(يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم، وشفاء لما في الصدور، وهدى، ورحمة، للمؤمنين * قل بفضل الله، وبرحمته، فبذلك فليفرحوا!! هو خير ممّا يجمعون)
صدق لله العظيم


المقدمة


هذا الكتاب عن أدب السالك في طريق محمد.. والسلوك هو السير إلى الله.. والسالك هو السائر إلى الله.. وليس السير بقطع المسافات، وإنما هو بتقريب الصفات من الصفات، تقريب صفات العبد من صفات الرّب.. والطريق هو النهج العلمي الذي يوصل سلوكه إلى الله تبارك وتعالى، وليس إلى الله، تبارك وتعالى، وصول بالمعنى الذي يؤديه حرف الكلمة، وإنما المقصود بكلمة الوصول أن يكون حضور السالك مع الله أكثر من غفلته عنه.. والطريق هو شريعة وزيادة.. هو شريعة مؤكدة.. وطريق محمد، هو عمله في خاصة نفسه، هو سنته.. ومحمد، بن عبد الله، بن عبد المطلب، النبي الأمي، المبعوث من قريش في الأميين منذ القرن السابع، والذي ختم الله به النبوة، وأنزل عليه القرآن، هو صاحب الطريق.. ونحن سنقدم في متن الكتاب صورة من التعريف به تعين على الأدب معه وتعين على الأدب الذي ينبغي أن يتحلى به السالك في طريقه..
أما الأدب، وهو الموضوع الأساسي لهذا الكتاب، فهو يعنى الانقياد، والطاعة، والاستيناس، والتربية، والتهذيب.. نحن نقول أدّب المهر، ونعنى طوعه من الحالة التي كان عليها من الجموح، والاستيحاش، وروّضه، حتى أصبح يمكن الرّكوب عليه، وقيادته.. فالمهر المؤدّب، هو المربي، السلس القياد، الطيّع لصاحبه.. والأدب في السلوك، يستعمل بمعنى مشابه لهذا المعنى الذي ذكرناه، فهو يعنى التربية والتهذيب، ويعنى الطاعة والانقياد.. فالأدب هو انتقال من حالة الحيوانية، إلى حالة الإنسانية.. فالفرد البشرى، هو عبارة عن نفس حيوانية من أسفل، ركب عليها عقل ملائكي من أعلى.. فالنفس في طبيعتها الحيوانية، هي شهوانية، مسترسلة في تحصيل رغائبها، بكل سبيل، ودون قيد.. فقانون النفس الحيوانية هو البحث عن اللذة العاجلة، والفرار من الألم، دون التقيّد بأي اعتبار.. والعقل ركّب في النفس ليشدّها إلى الأعالي، ويخرجها من وهدة حيوانيتها.. فوظيفة العقل إنما هي أن يؤدب النفس، ويربيها، ويطوعها، كما يفعل صاحب المهر في المثل الذي ذكرناه.. والعقل لكي يؤدب النفس، لا بدّ أن يكون هو مؤدبا، ولا بد أن يكون على علم واسع، وأن يكون حكيما، فيعرف كيف يسوس النفس، دون أن يكلفها مالا تطيق، فتلج، وتنقطع، ودون أن يتركها على هينتها، فلا تنقاد له.. والعقل كي يتأدب، بالصورة التي تعينه على تأديب النفس، تم إمداده بأنوار الوحي، ووضعت له قوانين الشرع التي يقيد بها نفسه، ويقيد بها النفس.. ووضع له النموذج الإنساني المؤدب، الكامل الأدب، أدب العقل وأدب النفس، وهو النبي الكريم، وطلب منه أن يقلّده حتى يستمد أدبه، من أدبه.. فالأدب إنما يكون باتباع المؤدب، والتزام الأدب معه.. والنبي الكريم هو أكبر من أدّبه الله، وهو قد قال: (أدّبني ربي فأحسن تأديبي، ثم قال خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين..).. وقال القرآن الكريم عن أدبه: (وإنّك لعلى خلق عظيم).. وهو إنما أدّبه ربّه بأدب القرآن، أدب شريعته، وأدب حقيقته.. والنبي بعد أن تم تأديبه في مدرسة النبوة، أرسل ليكون قدوة المتأدبين، السالكين إلى الله، وفق نهجه - طريق محمد - فجاء الأمر الإلهي باتّباعه (قل إن كنتم تحبون الله، فاتبعوني، يحببكم الله).. وجعلت طاعته من طاعة الله (من يطع الرسول فقد أطاع الله).. أو (إن الذين يبايعونك، إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم).. فجعل النبي بين الناس وبين الله، وهذا هو معنى كلمة الشهادة: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)..
وحقيقة الأدب، إنما هي الأدب مع الله، بالتزام مقتضيات العبودية، نحو الربوبية.. فالأدب، هو العبودية.. والعبد هو المطيع لسيده، الخاضع له، الذي يوظف حياته في خدمة سيده، فهو لا يكون إلا حيث يريده سيده، ولا يعمل عملا لا يرضى عنه سيده.. والعبد كما يقول أصحابنا الصوفية، مفقود لنفسه، موجود لسيده، فهو حاضر دائما، لا يلتمسه سيده إلا وجده.. وهذا الحضور، هو جوهر الأدب.. فالمؤدب، حاضر العقل، والقلب، مع سيده، فهو لا يغفل عنه.. فالأدب هو خلاصة التدين.. والصوفية يقولون: (إن العبد ليصل بعبادته إلى الجنة، ويصل بأدبه في عبادته إلى الله).. وهم يقولون (أخذ الفقه عن فلان، وأخذ الأدب عن فلان).. ويعنون بالأدب التصوف كله.. يعنون علم السلوك.. فالأدب عندهم هو الدين كله.. والأدب مع الله بالتزام العبودية، لا يكون إلا بالتأدب بأدب القرآن.. أدب شريعته، وأدب حقيقته.. والتأدب بأدب القرآن لا يتم إلا باتّباع نهج السنة، بتقليد النبي المعصوم.. فحياته، صلى الله عليه وسلم، هي مفتاح مغاليق القرآن، فإنه قد كانت أخلاقه القرآن، كما قالت السيدة عائشة، فهو قد جسّد القرآن في سلوكه اليومي، بمعنى ما عاش معانيه، وقيمه.. فعمدة الأدب، إنما هو الأدب مع النبي، فلا سبيل إلى الأدب مع الله، إلا بالأدب مع نبيه، فمن لا يسلّم للنبي، لا يسلّم لله، ومن لم يطع النبي ويتأدب معه، لم يطع الله.. وكل عمل وفق منهاج السنة لا يقوم على الأدب مع النبي، هو عمل باطل، لا عبرة به، ولا قيمة له.. ولكل ذلك، نحن سنركّز في كتابنا هذا على الأدب مع النبي.. ولا يكون الأدب مع النبي، إلا بعد معرفة مقامه، ومعرفة قيمته.. وهذا ما يجعل الأدب، أدق الأمور، وأصعبها، فمعرفة النبي، معرفة تامة، أمر يقع البدء فيه، ولا يقع الفراغ منه بالنسبة للسالك، فالنبي قد قال: (ما عرفني غير ربي).. ومعرفة النبي تقتضي المعرفة بمقاماته الثلاثة: مقام الرسالة، ومقام النبوة، ومقام الولاية.. وفي مقام الولاية يتم تجسيد القرآن في قمته، فهذه هي مرتبة الإنسان الكامل - مرتبة الذات المحمدية - وهي المقام المحمود، وهي هي أم الكتاب حيث حقيقة القرآن.. ولذلك نحن سنتحدث عنها، في معنى ما سنتحدث عن القرآن وأدبه، وفي معنى ما سنتحدث عن ولاية النبي، وتجسيدها في الاسم الأعظم (الله) الذي هو بذرة القرآن، وتجسيده، وأكبر مظاهر التأدب بأدبه.. ولذلك فإن كتابنا سيتناول أدب القرآن في هذه القمة السامقة، وفيما دونها من منازل تتنزل حتى مستوى السالك المبتدئ.. والكتاب سيركز، بصورة خاصة، على الأدب مع النبي، في مقاماته الثلاثة.. وهو سيتناول أدب الطريق في العبادة والمعاملة، في مستوى الشريعة، ومستوى الطريقة، ومستوى الحقيقة، بالصورة التي تعين على الممارسة والرياضة في مجال الأدب، بصورة علمية، وعملية..
وسيكون نهج هذا الكتاب هو أن يتجه إلى القمم الرفيعة من المعاني، والكمالات، ويحاول أن يعطى صورة لتجسيدها.. ثم يتدرج في محاولة إنزال هذه القمم الرفيعة إلى أرض الواقع العملي، بالصورة التي تعين كل سالك على العمل في تحقيقها في نفسه بصورة ميسرة، تبدأ من بدايات بسيطة وعملية.. ومحور الكتاب الذي يدور حوله، في جميع أبوابه، هو الإنسان- الإنسان في الأعالي، والإنسان في الأداني، فليس في الوجود الحادث هذا غير الإنسان في طور من أطواره.. وهمُّ الكتاب هو أن يبشّر (بالإنسان) ويمهد الطريق لظهوره، ويبين السبيل لكل فرد بشري ليحقق إنسانيته.. فغاية الأدب إنّما هي تحقيق إنسانية الإنسان..