إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

أدب السالك في طريق محمد

الباب الثاني
أدب القــرآن



القـرآن


لقد قلنا إن الله، لكي يعرف، تنزل من صرافة الذات إلى مرتبة الاسم، والصفة، والفعل.. وقد جاء القرآن يحكي هذه التنزلات.. فالقرآن، بين دفتي المصحف، هو كلام الله.. هو صورة لفظية لهذا الكلام، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك، فأجره، حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه).. وصفة الكلام هي الصفة السابعة، من الصفات النفسية السبع.. فأولى هذه الصفات هي الحياة، ثم العلم، والإرادة، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام.. والقرآن، في كل جزئية من جزئياته، يحكى هذه الصفات.. وإلى تنزلات القرآن تشير الآية الكريمة: (وقرآنا فرقناه، لتقرأه على الناس، على مكث، ونزلناه تنزيلا).. وقد كانت النزلة الأولى، هي النزلة إلى مقام الاسم الله، حيث نزل القرآن جملة.. ثم توالت التنزلات في تفصيله.. وقد ذكرنا أن الله تنزل من صرافة ذاته ليعرف.. وتنزلات القرآن الغرض منها التعريف بالله.. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى (حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون * وإنه في أم الكتاب لدينا لعلى حكيم).. فقد نزل القرآن في قوالب اللغة العربية لندرك نحن الذين ندرك عن طريق اللغة.. أما حقيقة القرآن، فهي فوق اللغة، فالله تعالى من حيث ذاته، لا يتكلم بجارحة، وإنما يتكلم بذاته، وكلامه في حقيقته خلق.. فحقيقة القرآن هي في أم الكتاب، عند الذات، وهي الذات، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى (وإنه في أمّ الكتاب لدينا لعلى حكيم).. وأمّ الكتاب هي نفس الإنسان الكامل، وهي عند الله، وإلى ذلك الإشارة بعبارة (لدينا) فقد تنزل القرآن من صرافة الذات، إلى الاسم، الحقيقة المحمدية، ومنها بدأ يتنزل في صورته الخلقية أولا، ثم تنزلت صورته اللفظية على نبينا.. فالقرآن هو علم هذه النفس الكاملة، الحقيقة المحمدية.. وهو هي.. فالذات التي في القرآن، هي الإنسان الكامل.. والقرآن جميعه تعبير عن هذه الذات، فهو، كما أشرنا في حق الإنسان الكامل، في المكان الأول.. أما الذات الصرفة فهي فوق الإشارة، وفوق العبارة.. وكمال القرآن ليس في آيات الآفاق، وليس في القرطاس، وإنما هو في آيات النفوس، التي ما آيات الآفاق إلا مظهرها، وإلا مقدمة لها، ودالة عليها.. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد؟؟).. فآيات النفوس، هي حقيقة القرآن، وموطن إعجازه، وذلك لأن الإنسان هو الكون الأكبر، في حين أن جميع العوالم هي الكون الأصغر، ولذلك قال تعالى في الحديث القدسي: (ما وسعني أرضى، ولا سمائي، وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن).. فالإنسان هو مقصود الله بالأصالة، وهو موضع نظره إلى خلقه.. والأكوان، جميعها هي مقصود الله بالحوالة، وهي مطيّة الإنسان، ووسيلة سيره إلى ربه - إلى كماله - وإنما يأتي الشرف للأكوان، من الإنسان، الذي إليه صيرورتها.. فليس في الكون الحادث، كما ذكرنا، سوى الإنسان، في طور من أطواره.. وشرف القرآن إنما يأتيه من انه تعبير عن الإنسان، ووسيلة إلى تحقيقه.. يأتيه من أنه آيات نفوس.. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم).. هذا هو علم الصدور، العلم بالله.. هو علم القرآن، الحقيقي، مستوى التأويل منه.. أما مستوى التفسير، مستوى الظاهر، آيات الآفاق، فإنما قيمته في أن يقود إلى مستوى التأويل، آيات النفوس، فإذا لم يفعل ذلك فهو لا قيمة له.. ولذلك هو لا يعنينا هنا، إلا بالقدر، الذي به يعين على إدراك آيات النفوس..
إن الأمر الذي يهمنا تقريره هنا، هو أن القرآن هو قصة النفس البشرية، ووسيلة تحقيق كمالها.. فهو في جميع آياته، يتحدث عن الإنسان.. هو يتحدث عن الإنسان الكامل، مقام الاسم الأعظم (الله)، بالذات.. وهذا هو تأويله.. فالقرآن، كما هو بين دفتي المصحف، قد صدر عن الإنسان الكامل، الحقيقة المحمدية.. وإلى ذلك الإشارة بالحديث النبوي الذي سأل فيه النبي، جبريل من أين يأتي بالقرآن.. فأجاب انه يأتي به من قبة عند ساق العرش.. ومعلوم أن جبريل لا يلاقى الذات الإلهية لأنه لا ذات له، لا نفس له، ولذلك وقف في المعراج عند (قاب قوسين).. وعندما قال له النبي: (تقدم أهذا مقام يترك فيه الخليل خليله؟ قال: هذا مقامي ولو تقدمت خطوة لاحترقت).. ومن هنا يتضح أن المقام الذي يأتي منه جبريل بالقرآن، هو بالضرورة دون مستوى الحقيقة المحمدية، ذلك المقام الذي قامه النبي الكريم في ليلة المعراج، ووقف دونه جبريل.. ومقام الحقيقة المحمدية هو فوق العرش، وهو المشار إليه بقوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى).. هذا في حين أن المقام الذي يأتي منه جبريل بالقرآن هو عند ساق العرش.. والعرش هو النفس الكاملة.. والاستواء هو الاستقامة على السراط المستقيم.. وهذا الاستواء هو الذي به يتم تنزل المقام المحمود إلى عالم الملك، فيتجسد القرآن في مستوى الحياة الكاملة التي لا تؤوفها آفة النقص، أو المرض، أو الموت.. فهذا المقام هو مقام حياة، في حين أن المقام الذي يتلقى منه جبريل القرآن، هو مقام علم، والعلم قاعدة الحياة ووسيلتها.. وعند استواء الإنسان الكامل على عرشه، وهو نفسه، يتم له الاستواء على عرش المملكة، وهي جميع الخلائق، من علويها إلى سفليها، والتي يستوي الإنسان الكامل في قمتها، كملك في مملكته، يصرف شؤونها كخليفة عن الذات المطلقة.. فهذا الاستواء على العرش، هو تحقيق خلافة الأرض.. وهو النزلة التي يبدأ فيها تجسيد القرآن، هو النزلة إلى مستوى الحياة الكاملة.. فالقرآن في صورته اللفظية، قد تم إنزاله بين دفتى المصحف وختمت بذلك النبوة، فلن يأتي جبريل بعد ذلك بوحي جديد.. أما القرآن في صورته الخلقية، صورته الحياتية، التي ما المصحف إلا صورة لفظية لها، القرآن في هذا المستوى لم يتم إنزاله، ولن يتم.. فالله تعالى بهذا المعنى متكلم سرمدا.. فكلامه لا يبدأ ثم ينتهي في زمن معين، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.. وإنما كلامه صفة قائمة بذاته، هي عند التناهي، ليست غير الذات الصرفة.. فالقرآن كما كانت له نزلة أولى، في الملكوت، إلى مقام الاسم الله، ستكون له نزلة أخرى في عالم الملك بها يتحقق مقام الاسم (الله) في الأرض، في تجسيد، تكتمل به الحياة على الأرض، وتفتتح به دورة جديدة من دورات الوجود، هي دورة الإنسان.. والإنسان هو قفزة على البشرية، كما كانت البشرية قفزة على الحيوانية.. وكمال الحياة إنما يتم ببروز الحاسة السادسة، والحاسة السابعة.. وذلك بتحقيق النفس السابعة، النفس الكاملة.. فالحاسة السادسة هي الدماغ.. ووظيفتها الإدراك المحيط، والموحد لجميع معطيات الحواس الأخرى.. ففي هذه المرحلة يكون العقل قويا، بالصورة التي يمارس بها جميع وظائف الحواس في وحدة.. أما الحاسة السابعة فهي القلب.. ووظيفتها الحياة الكاملة، وليس للحياة الكاملة نهاية كمال، وإنما كمالها، دائما نسبى، وغايتها أن تكون مطلقة الكمال كما أن خالقها هو مطلق الكمال، ولكن هيهات!!
والنزلة الثانية للقرآن التي بها يتم تجسيد مقام الاسم الأعظم الله، تشير إليها الآيات الكريمات من سورة القدر: (إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر * تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر * سلام.. هي حتى مطلع الفجر).. (إنا أنزلناه) يعنى القرآن مجسدا.. يعنى الإنسان الكامل (الله).. وهو المسيح هو (رسول الله وكلمته، ألقاها إلى مريم، وروح منه).. (رسول الله) يعنى رسول الذات إلى جميع الخلائق.. (وكلمته) يعنى كلمة الله فالمسيح هو الكلمة (الله).. (ألقاها إلى مريم) يعنى إلى النفس الطاهرة.. و(ليلة القدر)، هي لحظة نزول المسيح.. وهي الساعة، ساعة التعمير.. والساعة هي أيضا المسيح.. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى (وإنه لعلم للساعة فلا تمترنّ بها).. وقوله: (تنزل الملائكة والروح فيها) الروح هو المسيح، والملائكة إشارة إلى أعوانه.. وإلى كون المسيح هو الروح، تأتى الإشارة بقوله تعالى: (يلقي الروح من أمره، على من يشاء من عباده، لينذر يوم التلاق).. وإلى ذلك الإشارة أيضا بقوله تعالى عن المسيح: (وكلمته، ألقاها إلى مريم، وروح منه).. وفي هذا المعنى تجيء بشارة النبي، من حديث طويل، يبشر فيه بالمسيح، كان بعض ما جاء فيه قوله: (فإذا هم بعيسى، فيقال: تقدم يا روح الله.. فيقول ليتقدم إمامكم فليصل بكم) رواه أحمد.. فالنبي قد سمى المسيح في هذا الحديث (روح الله)..
ونزول القرآن إلى مقام التجسيد في الحياة، مقام الاسم الأعظم، ليس واسطته جبريل.. وإنما واسطته إسرافيل، ملك النفخ بالحياة.. فبهذا النفخ يتم التجلي الجمالي الذي به تشرق الأرض بنور ربها.. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: (ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم نفخ فيه أخرى، فإذا هم قيام ينظرون * وأشرقت الأرض بنور ربها.. ووضع الكتاب.. وجيء بالنبيين والشهداء، وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون).. (ونفخ في الصور) يعنى في الأجساد، وعلى قمتها جسد الإنسان الكامل.. والصور يعنى أيضا البوق، فقد ذكرنا أن الإنسان الكامل هو بالنسبة للذات الإلهية عبارة عن بوق تنفخ فيه، فيعكس إرادتها، ويقيد إطلاقها.. (وأشرقت الأرض بنور ربها) يعنى أرض الجسد، جسد الإنسان الكامل، تشرق بنور الحياة الكاملة، والعلم الكامل.. والأرض أيضا تعنى الكوكب الأرضي، يشرق بنور الإسلام، فلا يصبح فيه إلا مسلما.. وهذا أيضا معنى (ووضع الكتاب)، أي وضع المصحف موضع التطبيق، فتمت النزلة إلى مستوى الحياة، فأصبح القرآن معاشا، في قمة، في الإنسان الكامل، ثم بين سائر الأفراد والجماعات، وبذلك تتحقق المقامات العرفانية الكبيرة وإلى ذلك الإشارة بقوله (وجيء بالنبيين والشهداء)..
هذه النزلة الأخيرة للقرآن إلى مقام التطبيق، كآيات نفوس، مقام الإنسان، هي ما يبشر به هذا الكتاب، ويعمل على أن يكون الطريق إليه ممهدا.. فالقرآن إنما جاء ليعاش، ويجسد كحياة تمشي مطمئنة على الأرض..

تجسيد القرآن


إن حقيقة القرآن هي العلم المطلق، وهو فينا في حالة كمون، ولا يفترّ منا إلا في الزمان والمكان.. وإلى كون العلم المطلق فينا الإشارة بالحديث القدسي (ما وسعني أرضى ولا سمائي، وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن).. فالسعة هنا، إنما هي سعة علم.. و(العبد المؤمن) في القمة إنما هو الإنسان الكامل (الله)، والذي يحقق قمة العبودية، وهو من أسمائه المؤمن.. فهو الذي يسع المطلق، وهذه السعة ليست سعة إحاطة، وإنما هي سعة صيرورة.. ثم، (العبد المؤمن) هو كل عبد مؤمن على تفاوت بينهم في ذلك.. فحقيقة القرآن هي هذا (العبد)، الإنسان الكامل، فالقرآن جميعه إنما يتحدث عنه في المكان الأول كما ذكرنا.. أما الذات الصرفة، فهي فوق القرآن المرقوم، لأنها فوق العبارة وفوق الإشارة، فهي لا تعرف، ولكي تعرف تنزلت بمحض الفضل في المقامات المختلفة.. فالله، الإنسان الكامل، هو حقيقة القرآن، وتأويله.. والتأويل هو رد الشيء إلى ما يؤول إليه.. والقرآن جميعه يؤول إلى الله.. عنه صدر، وعنه يحكي، واليه يرسم خط السير.. فالقرآن هو المعراج إلى النفس الكاملة، نفس الإنسان الكامل.. وجرثومة الإنسان الكامل موجودة في كل فرد بشرى، فلكل منا نفسان، نفس دنيا، ونفس عليا.. النفس الدنيا هي الحيوان، الذي ينبغي تأديبه وتهذيبه، والنفس العليا هي الإنسان، الإنسان الكامل، الذي بتأديب وتهذيب النفس السفلى يتم الوصول إليه، وإنما يتم ذلك عن طريق التأدب بأدب القرآن..
والإشارة إلى كون (الله) هو حقيقة القرآن، وتأويله، تجيء من قوله تعالى: (هل ينظرون إلا تأويله، يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق، فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا، أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل، قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون).. فـ(هل ينظرون إلا تأويله) يعنى هل ينظرون إلا تأويل القرآن.. و(يوم يأتي تأويله) يعنى يوم يأتي (الله) في تجسيد، فهو تأويل القرآن.. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، والملائكة، وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور).. (الله في ظلل من الغمام) يعنى في تجسيد.. والملائكة هنا هم أعوان المسيح، كما أشرنا عند الحديث عن سورة القدر.. فالتأويل إذن هو (الله) في تجسيد.. ويوم إتيانه، هو لحظة الظهور هو الساعة، كما ذكرنا.. وإلى ذلك أيضا الإشارة بقوله تعالى: (هل ينظرون إلا الساعة، أن تأتيهم بغتة، وهم لا يشعرون؟)..
فتأويل القرآن هو (الله في ظلل من الغمام) أي في تجسيد.. وهذا هو مقام الوسيلة، الذي يكون بين الله في إطلاقه، وبين جميع الخلق.. ومجيئه يكون في اليوم الآخر، وهو آخر أيام الدنيا، وأول أيام الآخرة.. ومقامه هو المقام المحمود الذي تم للنبي في إلمامة في المعراج، ثم ظل يطلبه طوال حياته، وقد حققه في النزع، وانتقل به إلى البرزخ، وعن ذلك جاء في حديث عائشة: (وجاء جبريل في ساعته، فسلم.. فعرفت حسه.. وخرج أهل البيت، فدخل.. فقال: إن الله عز وجل يقرأ عليك السلام، ويقول لك كيف تجدك؟ وهو أعلم بالذي تجد منك، ولكن أراد أن يزيدك كرامة وشرفا، وأن يتم كرامتك وشرفك على الخلق وأن تكون سنة في أمتك.. فقال: أجدني وجعا.. قال: أبشر!! فإن الله قد أراد أن يبلغك ما أعدّ لك..).. يشير بقوله (أبشر!! فإن الله قد أراد أن يبلغك ما أعدّ لك) إلى قول الله تعالى: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا).. فقد بلغ النبي المقام المحمود بالنزع، ونزل به إلى البرزخ.. وقد ظل النبي طوال حياته، وفي برزخه يعمل على تنزيل هذا المقام من الملكوت إلى الملك، حيث يتم تجسيده، إلى الأرض.. فالنبي، في برزخه، هو مدد كل الولايات، وهو مرشدها.. وعن طريق أنوار هذه الولايات، هو يعد الأرض لتلقى (النبأ العظيم).. فالإنسان الكامل هو تجسيد القرآن في الدم واللحم.. هو القرآن يسير على قدمين.. هو معجزة القرآن الخالدة.. الإنسان الكامل هو ظاهر القرآن وباطنه، هو جماع آيات آفاقه، وجماع آيات نفوسه.. هو القرآن المرقوم، وهو القرآن المعاش، في تجسيد الصفات النفسية السبع، التي تحكي تنزلات القرآن.. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: (والطور* وكتاب مسطور * في رق منشور * والبيت المعمور).. فالطور إشارة إلى عقل الإنسان الكامل، الحاسة السادسة.. (وكتاب مسطور) هو القرآن، مسطور (في رق منشور) والرق هو الجلد، هو جلد الإنسان الكامل، يكون فيه القرآن مسطورا بالحروف الرقمية.. و(منشور) يعنى أنه حي، مبعوث من الموت ذلك الموت الذي تسبب فيه الخوف عند الإنسان فحجر جلده.. فبالعلم، والتحرر من الخوف، يلين جلد الإنسان الكامل، وتشيع فيه الحياة التي تنبعث من القلب، فيصير حيا كله.. (والبيت المعمور) هو قلب الإنسان الكامل، وهو جسده، فالإنسان الكامل كله قلب!! فهو قد تخلق بالاسم (الحي)، فشاعت الحياة في جميع جسده، فأصبح جسده حيا حياة قلبه.. وقلب الإنسان الكامل (جسده) معمور بذكر الله، فهو بيت الرب.. وهو معمور بذكر الله، لأن الإنسان الكامل هو (الله).. فكل ذرة من ذرات جسد الإنسان الكامل تذكر الله بلسان عربي فصيح.. فهو الذكر المبين.. وأخلاق الإنسان الكامل هي أخلاق الله، أخلاق القرآن، ولذلك قلنا إن الإنسان الكامل هو تجسيد ظاهر القرآن وباطنه..
هذا هو أدب القرآن في قمته حيث الحياة الكاملة، حياة الإنسان الكامل، الولاية المحمدية مجسدة.. وهذا هو مقام الأصالة المتفردة، التي لا يشبهها أحد في تفردها، والتي لا يحيط بعلمها أحد إلا بما تشاء.. فعلمها هو العلم المحيط الذي يقع كل علم سواه، دونه، وفي إطاره، أما دون هذه القمة الشماء فإن للعارفين مواقعهم في التأدب بأدب القرآن.. وهي مواقع مختلفة، ومتفاوتة بحسب تفاوتهم في العلم بالله.. وإلى هذه المواقع في التأدب بأدب القرآن، تشير الآية الكريمة (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم) فهي تتحدث عن القرآن، وتجعل شرفه أن يكون معاشا (في صدور الذين أوتوا العلم).. وذلك على تفاوت بينهم، فإنه (فوق كل ذي علم عليم)..

القرآن، ومعرفة النفس


إن تربية النفس، وتأديبها، أمر يقتضي المعرفة بها، حتى يتم التأدب على هدى ورشد.. وقد ذكرنا، أن الأدب مع الله يقتضي معرفته، ونحن إنما نعرفه بخلقه.. وأكمل خلقه في الدلالة عليه هو الإنسان نفسه.. ولذلك نحن نعرف الله عن طريق معرفة أنفسنا.. وقد قال المعصوم: (من عرف نفسه فقد عرف ربه).. يعنى من عرف نفسه بما هو عليه من العبودية عرف ربه بما هو له من الربوبية.. فمعرفة الربوبية تقتضي أن نعرف عبوديتنا، ونتحلى بأدبها.. والقرآن هو منهاج لتعريفنا بأنفسنا، وهدايتنا إليها، فهو قصة النفس البشرية.. وهو يحكى خط سيرها في الصدور، منذ أن كانت في أحسن تقويم، إلى أن ردت إلى أسفل سافلين.. وهو يخط طريق رجعاها من أسفل سافلين، إلى أحسن تقويم مرة أخرى.. ولذلك فإن القرآن هو علم نفس.. وهو عن الهداية للنفوس يقول: (فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها)، فمن اهتدى إنما يهتدى لنفسه العليا، ومن ضل إنما يضل في متاهات نفسه السفلى.. والله تعالى قد كتب على نفسه الهداية إلى النفوس، عن طريق أدب القرآن، فهو تعالى قد قال: (إن علينا للهدى * وإن لنا للآخرة والأولى).. (إن لنا للآخرة والأولى) يعني من لم يهتد في الأولى، لا بد أن يهتدي في الآخرة، كان على ربك حتما مقضيا.. فإن الله قد كتب على نفسه الهدى، وما كتبه الله على نفسه، لا بد كائن.. وهدى الله النفوس، عن طريق القرآن، يتم عن طريق تذكيرها بما كانت عليه من إقرار للعبودية لله، ذلك الإقرار الذي كانت عليه في عالم الأرواح، ثم نسيته، وذهلت عنه، عندما نزلت إلى عالم الأجساد.. وتذكر هذا الإقرار، والعمل وفقه، هو تحقيق العبودية.. وعن الحالة التي كان عليها الناس في عالم الأرواح يقول تعالى: (وإذ اخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟؟ قالوا: بلى!! شهدنا!! أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين!!).. فجميع الناس، في عالم الأرواح شهدوا لله بالربوبية، لكنهم لما جاءوا إلى عالم الأجساد، نسوا هذه الشهادة - نسوا حقيقة أنهم عبيد، وأن الله هو ربهم - فأصبحت هذه الحقيقة كامنة في القلوب، وقد غطى عليها الرين: (كلا!! بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون * كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون).. فالحجاب الذي بيننا وبين ربنا هو نفوسنا - هو رغائبها، وشهواتها، ورعوناتها.. وبرفع هذا الحجاب، بالتخلص من رعونات النفس وتأديبها، وتهذيبها، تتم لنا معرفة الله، ويتم لنا تحقيق أدب العبودية.. والقرآن هو وسيلتنا لهذه المعرفة، وهذا الأدب.. هو وسيلة تذكيرنا بالحقيقة التي ذهلنا عنها، وفي ذلك يقول تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر؟) فالمعرفة هي تذكر.. تذكر لما نسينا من حقيقة أننا عبيد.. ووسيلة القرآن في المعرفة، هي التقوى.. وهي العمل في تقليد المعصوم، في العبادة والمعاملة.. وعن ذلك يقول تعالى: (واتقوا الله، ويعلمكم الله، والله بكل شيء عليم).. وبالعلم وبالعمل وفق نهج السنة، تتحقق لنا العبودية، ويتحقق لنا أدبها.. ونحن عندما نلتزم أدب العبودية، تفض علينا الربوبية من علمها، ومن إرادتها، ومن قدرتها، ومن حياتها، ومن جميع صفاتها.. وهذا هو معنى التخلق بأخلاق الله - فهو التزام لأدب العبودية.. وفي هذا المعنى يجيء الحديث القدسي: (من آذى لي وليا فقد آذنته بحرب.. وما تقرب إلىّ عبدي بأحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي بتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه.. فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يسعى بها، ولئن سألني لأجيبنّه..).. فهذا الحديث القدسي عن التخلق بأخلاق الله، بالتزام أدب العبودية، عن طريق تجويد العبادة.. فإذا التزم العبد أدب العبودية، حتى أحبه الله، صار سمعه من سمع الله، وبصره من بصره.. الخ، وهكذا تصبح جميع جوارحه رحمانية.. وتحقيق محبة الله للعبد إنما يتم عن طريق اتباع النبي، وفي ذلك يقول تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله).. فأدب السلوك في طريق محمد هو الذي يحقق محبة الله للعبد ويحقق التخلق بأخلاق الله - أخلاق القرآن..
وفي هذا المعنى أيضا يجيء قوله تعالى في القرآن (لهم ما يشاءون عند ربهم، ذلك جزاء المحسنين).. فقوله تعالى: (لهم ما يشاءون) يعنى هم مخيرون، وإرادتهم نافذة، وذلك لأنها من إرادة الله، وليست مغايرة لها.. و(عند ربهم) يعني مقام العبودية، لأنه لا يكون عند الرب إلا العبد.. وقوله (ذلك جزاء المحسنين) يعنى من أحسنوا التصرف في الحرية الفردية المطلقة، بأن التزموا أدب العبودية..

التخلق بأخلاق الله واتّباع سنته


ما ذكرناه آنفا هو في معنى التخلق بأخلاق القرآن.. ذلك التخلق الذي أمرنا الله تعالى به، وذلك حيث قال: (كونوا ربانيين، بما كنتم تعلمون الكتاب، وبما كنتم تدرسون).. وأمرنا المعصوم به، وذلك حيث قال: (تخلقوا بأخلاق الله، إن ربي على سراط مستقيم).. فالتخلق بأخلاق الله هو اتّباع لسنة الله، عن طريق اتّباع سنة النبي، التي هي من سنة الله.. فالسنة واحدة، هي سنة الله، وهي الإسلام، وهي الاستقامة.. فالتخلق بأخلاق الله هو أن تكون على السراط المستقيم، فإن الله تعالى على السراط المستقيم.. وهو قد قال في القرآن، على لسان هود: (إني توكلت على الله ربي وربكم، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، إن ربي على سراط مستقيم).. وقد أمر النبي بأن يكون على السراط المستقيم، وأمرنا معه بذلك، وذلك حيث قال تعالى من سورة هود: (فاستقم كما أمرت، ومن تاب معك، ولا تطغوا.. إنه بما تعملون بصير).. ولصعوبة هذه الاستقامة قال عنها النبي: (شيبتني هود وأخواتها)، يشير إلى هذه الآية التي ذكرناها من سورة هود.. فالاستقامة هي سنة الله، وهي سنة النبي، وهي سنة الأصحاب، على تفاوت كبير بينهم وبين النبي، وعلى تفاوت بينهم فيما بينهم.. والاستقامة هي الاستواء على الوسط بين طرفين، كلاهما إذا اخذ بمفرده خطأ.. فمن الطرفين مثلا، الشريعة، والحقيقة.. فالشريعة إذا أخذت بمفردها بلا حقيقة فهي خطأ، والحقيقة إذا ادعيت بلا شريعة فهي خطا.. فالاستقامة هي أن يكون الرجل صاحب شريعة، وصاحب حقيقة، في آن معا، من غير أن يخلط بينهما، فهو يعامل الخلق بالشريعة، ويعامل الحق بالحقيقة.. ومن الطرفين اللذين ينبغي الاستواء على الوسط بينهما الماضي، والمستقبل.. فليس الماضي زمنا باعتبار الحقيقة، وليس المستقبل زمنا باعتبار الحقيقة، وإنما هما زمنان باعتبار الشريعة - باعتبار الحكمة فقط.. والاستقامة بينهما هي العيش في اللحظة الحاضرة، وإنما يتم ذلك عن طريق تجويد أدب الوقت في الشريعة، وأدب الوقت في الحقيقة..
وإلى كون أن سنة الله هي الإسلام، تجيء الإشارة بقوله تعالى: (أفغير دين الله يبغون، وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها، واليه يرجعون؟؟) وأيضا الإشارة بقوله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام).. فدين (الله) - الإنسان الكامل - هو الإسلام، وهذا معنى قوله: (إن الدين عند الله الإسلام).. والإشارة إلى المطلق موجودة بالطبع، ولكن في القيد فإن الإسلام إنما هو سنة الله، وهو الفطرة، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون).. (فطرة الله) يعنى ما عليه هو من صفاء الفكر، وسلامة القلب، فهذه الفطرة إنما هي سنته.. (التي فطر الناس عليها) الإشارة إلى المطلق هنا واضحة، وهذا يعنى أن كل الناس هنا مفطورون على هذه الفطرة السوية، فطرة الإسلام، ولكن غطى عليها (الرين)، بما اكتسبوه في صراع الحياة من ضغائن، وانحرافات سلوك، نتجت عن الخوف.. وذلك (الرين) هو الذي حجب حقيقتهم، أو فطرتهم، وهي نفسها نفوسهم العليا.. (ذلك الدين القيم).. الإشارة بذلك إلى (فطرة الله)، فهي الدين القيّم.. والدين القيّم هو الإسلام، وهو الاستقامة.. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: (قل إنني هداني ربي إلى سراط مستقيم، دينا قيّما ملة إبراهيم حنيفا، وما كان من المشركين * قل إن صلاتي، ونسكي، ومحياي ومماتي، لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين).. (قل إنني هداني ربي إلى سراط مستقيم، دينا قيّما) يعنى أن السراط المستقيم، هو نفسه الدين القيّم، هو الإسلام.. وإلى كونه هو الإسلام تجيء الإشارة بعبارة (ملة إبراهيم حنيفا) فملة إبراهيم هي الإسلام.. وإلى ذلك الإشارة أيضا بعبارة (وأنا أول المسلمين).. وإلى كون الإسلام هو دين الفطرة، يشير أبضا حديث المعصوم الذي يقول فيه (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه)..
فسنة الله هي فطرته، وهي الإسلام، وهي الاستقامة.. وسنة النبي هي نفس سنة الله، فالسنة واحدة.. وليس للأصحاب سنة خاصة بهم، كما توهم البعض من حديث (عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين، المهديين، من بعدي).. فسنة الخلفاء هي القدر الذي طاقه كل منهم من سنة النبي.. فهي ليست سنة أخرى بإزاء سنة النبي.. وأوضح ما يتضح ذلك في الإنفاق، فالمال هو محك التوحيد.. فقد كانت سنة النبي في المال هي أن ينفق كل ما زاد عن حاجته الحاضرة، عملا بقوله تعالى: (ويسألونك ماذا ينفقون، قل العفو).. وكان بعض الأصحاب يحاول اتّباعه في سنته هذه.. فكان سيدنا أبو بكر يجمع المال، ثم ينزل عنه كله، وعمله هذا كان قمة عمل الأصحاب، وهو دون مستوى النبي بكثير، فالنبي لم يكن يجمع المال، وإنما كان ينفق عنه كل ما زاد عن حاجته الحاضرة.. وهو قد قال: (ما أحب أن يكون لي مثل أحد ذهبا، أنفقه جميعه في سبيل الله، إلا دريهمات أرصدهن لدين).. أما سيدنا عمر فقد كان ينفق نصف ماله، فالفرقة بينه وبين أبى بكر كبيرة.. وفي حين قبل النبي من أبي بكر ماله كله، وقبل من عمر نصف ماله، لم يقبل من عبد الرحمن ابن عوف إلا أن يؤدي الزكاة ويتصدق بما شاء ويحتفظ بأصل ماله.. ثم إنه أوصى سعد ابن أبي وقاص بألا يتصدق بأكثر من الثلث.. وذلك لعلمه بأن مستواه في التوحيد لا يعدو هذا القدر.. وقد جاء في الحديث (عن سعد ابن أبى وقاص رضي الله عنه، قال: مرضت عام الفتح، مرضا، أشفيت منه على الموت، فأتاني رسول الله يعودني، فقلت: يا رسول الله!! إن لي مالا كثيرا ولا يرثني إلا ابنتي، فأوصي بمالي كله؟ قال: لا.. قلت فثلثي مالي؟ قال: لا.. قلت: فالشطر؟ قال: لا.. قلت فالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير.. إنك إن تدع ورثتك أغنياء، خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس).. والنبي في حق أبي بكر، وعمر، لم يشر إلى الورثة.. وهو قد قال عن نفسه (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، وما تركناه صدقة).. فهذا الاختلاف الكبير بين مستويات الأصحاب في الإنفاق، هو دليل واضح على أنه ليس للأصحاب سنة خاصة بهم، وإنما سنتهم هي محاولة كل واحد منهم إتباع سنة النبي، قدر طاقته.. وسنة النبي كما بينّا هي من سنة الله.. فالسنة واحدة إذن، هي سنة الله..
من كل ما تقدم في هذا الباب عن القرآن، يتضح أن الله هو حقيقة القرآن.. وأن أدب القرآن، هو أدب الله الحادث (المقيد)، ثم هو الأدب مع الله القديم (المطلق).. هذا الأدب إنما يتحقق عن طريق التخلق بأخلاق القرآن، بتقليد النبي المعصوم، والتقليد عمل يبدأ بدايات بسيطة، ثم يتسامى إلى القمم الرفيعة التي تحدثنا عنها، حيث يفضي التقليد بالمقلد المجوّد إلى الأصالة - إلى سقوط التقليد!!

تقديس القرآن


ومما يعين على التأدب بأدب القرآن، تقديسه وتوقيره.. هذا التقديس يبدأ من تقديس الحرف العربي، الذي نزل به القرآن، بل تقديس كل حرف، ورعايته، وحفظه، من أن يوضع موضع امتهان، أو تحقير، أو يستخدم استخداما خاطئا، مثل ما يقوم به الناس اليوم من استخدام الورق المكتوب عليه، في لف الأشياء.. ومن الأدب مع القرآن وتقديسه التأدب عند سماعه.. وأدب السماع تلخصه الآية الكريمة: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له، وأنصتوا، لعلكم ترحمون).. فالأدب مع القرآن كما تحدد، الآية، هو الحضور معه.. حضور العقل، وحضور القلب.. فعبارة (فاستمعوا له) تشير إلى حضور العقل.. وعبارة (وأنصتوا) تشير إلى حضور القلب.. فكأن الاستماع المؤدب للقرآن، هو أن تستمع الأذن، والعقل حاضر، يتابع معاني القرآن.. أما الإنصات، فهو أن تكون الأذن أثناء سماع القرآن، وكأنها مفتوحة على القلب مباشرة، تصب فيه أصوات القرآن، وموسيقاه.. والاستماع للقرآن يجب أن يكون، ولو كان الصوت به يأتي من بعيد.. ولو كانت الكلمات غير واضحة، وغير مفهومة.. ويجب ألا يكون هنالك انصراف عن القرآن أثناء تلاوته، سواء كانت تلاوة حية، أو كانت تلاوة من تسجيل، فإن هذا الانصراف من سوء الأدب مع القرآن، وهو يورث الحرمان.. ومجرد التأدب مع القرآن، بالاهتمام به، وحسن الاستماع إليه، هو من التعرض للرحمة، وإلى ذلك الإشارة بعبارة (لعلكم ترحمون) من الآية..
وسوء الأدب مع القرآن، يتسبب في اللعنة، والحرمان، والطرد لأنه سوء أدب مع الله.. فالقرآن كلام الله.. فإذا كان الرب يتكلم، والعبد غافلا عنه، منصرفا إلى غيره فإن هذا لممّا يؤدي إلى الطرد، وإلى ذلك الإشارة بقول المعصوم: (رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه).. وقوله: (رب مصل لم تزده صلاته من الله إلا بعدا).. ولذلك لا بد من الحرص، والحذر، الشديدين، من الوقوع في سوء الأدب مع القرآن.. ولا بد من الحرص الشديد على تقديس القرآن، وتوقيره، وإدمان الاطّلاع عليه، والاستماع له، وحفظ ما يتعبد به منه.. وفوق كل ذلك العمل به..

أدب العقل والنفس والقلب والجسد


إن أدب القرآن، هو أدب عقول، وأدب نفوس.. وهو أدب قلوب، وأدب أجساد أيضا.. وأدب العقول هو وسيلة لأدب النفوس.. فقد ذكرنا في المقدمة، أن العقل هو الذي يقوم بتأديب النفس، وتربيتها.. ولكي يتأتّى له ذلك، على أحسن الوجوه، لا بد أن يكون هو نفسه مؤدبا.. وأن يكون عالما، واسع العلم، حكيما، واسع الحكمة، حتى يتمكن من سياسة النفس، سياسة تقوم على العلم، وعلى الحكمة، فيرقى بها من مرحلة الحيوانية، إلى مرحلة الإنسانية.. وقمة أدب العقل، أن يعرف مكانه من القلب، فلا يتقدم عليه.. فعدم الأدب بالنسبة للعقل، هو تقدمه على سيده القلب.. وهذا التقدم أملاه الخوف.. فالعقل إنما يتقدم، ليستكشف مواطن الخطر، حتى يستطيع أن يتفاداه، ويحمى الحياة.. وهذا ما جعل العقل في حركة دائمة بين الماضي، والمستقبل.. فهو قد أزعجه الخوف من أن يعيش في اللحظة الحاضرة، وقد خدم هذا الخوف تطور الحياة خدمة جليلة، ولكن الحياة لن تكتمل إلا بعد التخلص منه..
وقد كان للعقل دور جليل، في نشوء المجتمع، وتطوره.. فعند نشوء المجتمع بدأ العرف الذي يحرم أشياء ويحلل أشياء، بل إن المجتمع لم ينشأ إلا على هذا العرف، وبدأ العقل يلعب دوره في كبح جماح النفس، وتأديبها، وبذلك فقد أصبح الفرد يستطيع أن يعيش في مستوى طيب من الأمن، إذا ما أخلص للجماعة، واجتنب مخالفة العرف الذي ترعاه.. وهو قد ينعم برضا الآلهة، وصداقة الأرواح الخيرة، وصداقة الخيرين من الرجال والنساء.. فبظهور المجتمع، وبدافع من الرهبة، والرغبة، أخذ يبرز الذكاء، الذي يميز بين ما يليق، وما لا يليق أو قل بين الحلال، والحرام، أخذت تبرز الإرادة، التي تروض الشهوة، وتسوقها في طريق الواجب، وذلك برفض اللذة العاجلة، إيثارا للذة الآجلة، التي تكون في كنف الآلهة، في هذه الحياة، أو في الحياة الأخرى، بعد الموت، أو هي قد تكون في رضا الجماعة، وتقديرها، وثنائها.. فمن الاحتكاك بين اللذة الحاضرة، والواجب المرعي، برز الذكاء للتمييز، وبرزت الإرادة للتنفيذ.. وهذه هي بداية العقل البشري، لأن به دخلت القيمة في وجود الإنسان، ولأن به تجدد اعتبار المستقبل، وبدأ جولان الفكر في شعاب أودية الخيال - بدأ جولان الفكر بين الماضي والمستقبل ابتغاء أن يقف في اللحظة الحاضرة - ابتغاء أن يعيش اللحظة الحاضرة..

رياضة العقول والنفوس وتأديبها


إن سبيل العقول والنفوس إلى الرياضة، والأدب، هو التقوى.. والتقوى هي علم، وعمل بمقتضى هذا العلم.. هي، في البداية، علم بالشريعة، وعمل بمقتضاه.. ثم هي علم بالطريقة، وعمل بمقتضاه.. ثم هي علم بالحقيقة، وعمل بمقتضاه.. والتقوى تثمر فرقانا، وهو نور في القلوب، يتم به التمييز بين ما يليق، وما لا يليق.. وعن ذلك يقول تعالى (يا أيها الذين آمنوا!! إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا).. (إن تتقوا الله) يعنى تعملوا بالشريعة، فتأتمروا بالأمر، وتنتهوا عند النهي.. (يجعل لكم فرقانا) يعنى نورا في عقولكم وقلوبكم، به تفرقون بين الحق والباطل.. يعني يجعل لكم مقدرة في عقولكم بفضل التقوى، بها تقوون على التفكير الدقيق، والتمييز السليم، بين ما يليق، ومالا يليق، بين الحلال والحرام.. فالتقوى تبدأ من صورة غليظة ثم تسير نحو الدقة.. وكذلك الفرقان، يبدأ بداية بسيطة، وضعيفة، ثم يسير نحو الدقة، والقوة، تبعا لسير التقوى.. هذه الصورة في العلاقة بين التقوى والفرقان، يحكيها الحديث الشريف (الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه).. فالتقوى في بدايتها لا تحتاج إلى كبير عناء، كذلك قوة العقل المميزة بين الحلال والحرام لا تحتاج إلى شدة دقة.. وعندما يبدأ السير من الطرفين الغليظين نحو الوسط - نحو منطقة الأمور المشتبهات - تبدأ الحاجة إلى قوة فكرية زائدة، بها يقع التمييز بين الحلال والحرام.. وتبدأ أيضا الحاجة إلى قوة في الإرادة زائدة، بها تتم القدرة على فعل ما هو به مأمور وترك ما هو عنه منهي.. وتصبح التقوى هنا قوة على التمييز، ودقة فيه، ومقدرة على التنفيذ حسب ما يمليه التمييز.. وهكذا، كلما أصبح العقل دقيقا في تمييزه، قويا في إرادته، استطاع أن يحمل النفس على الالتزام بمقتضبات الواجب، وهذه هي تربيته لها، وهي تربية تدق، وتتسامى، باستمرار، في مستوى الشريعة، ومستوى الطريقة، ومستوى الحقيقة.. والسير في الترقي في تربية العقول والنفوس يتم في ست مراحل، أولها مرحلة المؤمن العادي، ثم الورع، ثم صاحب اليمين، والبر، والمقرب، ثم صاحب الاستقامة.. وهذه الدرجات الست مقابلة لمراحل النفوس السبع، والتي هي نفسها درجات العقل، إلا أن النفس الأمارة دون مرتبة المؤمن العادي، ولذلك تبدأ النفوس من اللوامة، فالملهمة، والمطمئنة، والراضية، والمرضية، والكاملة..
ووسيلة تأديب العقل، هي الصلاة.. فقمة أدب العقل هي لحظة التوقف الفكري.. تلك اللحظة التي حققها النبي الكريم، وحكى عنها القرآن بقوله تعالى: (ما زاغ البصر وما طغى) يعنى ما انشغل فكر النبي بالماضي، ولا بالمستقبل.. وبذلك التوقف الفكري، تمت للنبي الصلة بالله، في قمة.. وكانت تلك الصلة هي قمة الصلاة، هي صلاة الصلة التي أشار إليها المعصوم بقوله: (الصلاة صلة بين العبد وربه).. وقد فرضت الصلاة الشرعية، كوسيلة لتحقيق هذه الصلاة - كوسيلة لتحقيق صلاة الصلة - وبالتالي لتحقيق أدب العقل في قمة.. والصلاة الشرعية، قد فرضت في مقام: (قاب قوسين أو أدنى).. والقوسان هما الماضي والمستقبل، وبينهما اللحظة الحاضرة - بينهما صلاة الصلة.. والقوسان هما أيضا، من حيث هيئة الصلاة، العينان، العين اليمين، والعين الشمال، وبينهما العين الثالثة، والتي تحاول الصلاة أن تفتحها، وهي عين العقل القوي المحايد، الذي يستطيع أن يوحّد جميع معطيات الحواس، وهذا العقل هو الحاسة السادسة - وهذه الصورة تحكيها حركة السجود في الصلاة.. فالسجود، بعد القيام، والركوع، والرفع من الركوع، هو عمل في محاولة إنزال الملكوت - العقل - إلى الملك - الجسد وهو محاولة لإنزال مقام (ما زاغ البصر وما طغى)، وهو المقام المحمود، من الملكوت إلى الملك، وتجسيده.. وحين تكون العينان هما القوسان، تكون الجبهة وهي موضع السجود، هي التي ترمز إلى مقام (ما زاغ البصر وما طغى).. والجبهة هي مكان العقل، موضع العين الثالثة التي تقع في خط الاستقامة بين العين اليمين، والعين الشمال، وهذه العين، بانفتاحها، تتحقق الحاسة السادسة، ويتم تحييد الفكر..
والسجود هو وضع الأنف، والجبهة في الأرض، تخضعا، وتواضعا لله.. وتواضع العقل هو أكبر صور أدبه.. والعقل المتواضع، هو العقل الذي يعرف قدر نفسه، فلا يتقدم على القلب، ولا يدعي العلم والمعرفة.. فادّعاء العلم هو الجهل الحقيقي، والتخلي عن هذه الدعوى هو العلم الحقيقي، وإلى ذلك الإشارة بقول المعصوم: (لا يزال المرء يعلم، ما لم يظن أنه قد علم.. فإن ظن أنه قد علم، فقد جهل)..
والعقل المحايد، هو العقل الذي يلتزم الحق، فلا ينحرف عنه يمنة، ولا يسرة.. فهو لا ينحرف مع الهوى، ولا ينحاز لنفسه ضد الآخرين، فهو يقول الحق ولو على نفسه.. والحياد والتواضع الفكري هما أهم صور أدب العقل..
من كل ذلك يتضح أن تأديب العقول، وتأديب النفوس وفق نهج السنة، نهج القرآن، هو أمر علمي، وعملي، يتم عن طريق التقوى، بتقليد المعصوم وفق مراحل سلوكية محددة تقوم على العلم، وعلى العمل بمقتضى العلم، وتقوم على الحكمة الحكيمة في سياسة النفوس..

أدب القلب وأدب الجسد


القلب كما ذكرنا، هو بيت الرب، وأدبه هو أن يكون بيتا نظيفا بالصورة التي تليق بالرب، فلا يجاوره فيه ما لا يرضاه.. وإنما يتم ذلك عن طريق التقوى، عن طريق التخلص من الرين، بوسيلة العقل الصافي المؤدب.. فالقلب المؤدب، هو القلب السليم، سليم من الانقسام، وسليم من الضغائن، ومن الأحقاد.. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: (ولا تخزني يوم يبعثون * يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم).. فالقلب السليم، هو القلب السلام الذي لا ينطوي إلا على ما ينفع الناس ويصلحهم..
والعقل الصافي، والقلب السليم، يكون لهما انعكاسهما على الجسد، فيكون جسدا حيا، وجميلا بالقدر الذي يفيضه عليه العقل والقلب من العلم والحياة.. وللجسد أدبه، وهو أن يكون جسدا خاشعا، ومطيعا لا يستخدم حواسه وجوارحه إلا في ما يرضي الله.. فلكل حاسة، وجارحة، أدبها وهو أن تتقيد عن معصية الله، وأن توظف في طاعته.. وأدب الجسد هو أيضا، أدب العبودية، وهو أدب يبدأ من الشريعة.. فعند ممارسة الشريعة، في الصلاة مثلا، يجب ألا يكون تعبير الجسد، تعبيرا يدل على الشعور بالقوة، وبالعظمة، وإنما ينبغي أن يكون تعبيرا يدل على الخشوع، واستشعار الضعف.. ويجب أن تكون أطراف الجسد، أثناء الصلاة، ساكنة.. وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أحد الأصحاب ويده كثيرة الحركة أثناء صلاته فقال: (لو خشع قلبه، لسكنت جوارحه).. ومن أدب الجسد أن يكون نظيفا، وطاهرا، دائما - أن يكون نظيفا النظافة الحسية، والنظافة المعنوية.. ولتحقيق هذه النظافة لابد أن يكون السالك في طريق محمد على طهارة بصورة دائمة عن طريق طبق الوضوء على الوضوء أو عن طريق التيمم..
والأدب في جميع النواحي، والمستويات والتي ذكرناها، لا يتم إلا عن طريق العمل المتقن في تقليد المعصوم، وفي الاقتداء به، في العبادة وفي المعاملة، ولذلك أسميناه أدب السالك في طريق محمد.. والقضية الأساسية في هذا الأدب هي الأدب مع صاحب المنهاج نفسه - مع النبي.. فالمنهاج ليس بمعزول عن صاحبه، وهو إنما يستمد قيمته من قيمة صاحبه.. فكمال منهاج السنة، مستمد من كمال النبي.. فبقدر العلاقة مع صاحب المنهاج، والأدب معه، تكون الاستفادة من المنهاج.. والأدب علم، هو علم بمقام النبي، وعلم بقيمته لنا.. فلتجويد الأدب مع النبي، لا بد من التعريف به، والتعريف بمقتضيات الأدب معه، وهذا ما سنعمل على تبينه في الباب الثالث..