لقد أثبتت هذه الأحداث أن الشعب السوداني شعب أصيل، شجاع، كريم .. يجود بالنفس في سبيل العزة، والشرف ولا ينقصه غير القائد الذي يفجر كوامن أصالته، ويحرك حسه الوطني .. فاذا وجد قائدا، في مستواه، فان المعجزات تجري على يديه، والبطولات تسعى اليه خاطبة وده.. حقا كما قال الأستاذ محمود في تحقيق معه في جريدة الأخبار، فيما بعد، ((الشعب السوداني شعب عملاق يتصدره أقزام))

معالم على طريق تطور الفكرة الجمهورية - الكتاب الاول

menu search

الشيعة

الفصل الثاني

الشيعة وعقيدة العصمة



العصمة عند الشيعة:


ويعتقد الشيعة الإمامية العصمة لآل البيت كما هي للنبي.. فالشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء يقول: (ويشترطون - الإثنا عشرية- أن يكون الإمام معصوما كالنبي عن الخطأ والخطيئة، وإلاّ زالت الثقة) – (أصل الشيعة وأصولها، صفحة 73، طبعة الاعتماد).. والشريف المرتضي يقول: (لقد وجبت عصمته – أي الإمام- لأنه لو لم يكن معصوما وهو الإمام فيما قام به من الدين، الذي من جملته إقامة الحدود وغيرها، وواجب الاقتداء به من حيث قال وفعل – لجاز وقوع الخطأ منه في الدين، وكلنا إذا وقع منه ذلك نكون مأمورين باتباعه فيه والاقتداء به، وهذا يؤدي إلى أن نكون مأمورين بالقبيح علي وجه من الوجوه) – (الشافي، صفحة 40، طبع حجر بفارس).. ويقول الطوسي، تلميذ الشريف المرتضي: (إذا ثبت كونه حجة فيما يقوله فلا بد أن يكون معصوما قبل حال الإمامة لأنه لو لم يكن كذلك لأدَّى إلى النفور عنه، كما نقول ذلك في الأنبياء عليهم السلام) – (تلخيص الشافي، صفحة 309).. وكذلك يرى الإسماعيلية عصمة الإمام، ومصطفى غالب في كتابه (تاريخ الفرق الباطنية في الإسلام) صفحة 98: (ومن أصول العقيدة الإسماعيلية ضرورة وجود الإمام المعصوم).. ويذهب الشيعة الإثنا عشرية إلى مساواة آل البيت بالقرآن في العصمة، فها هو محمد جواد مغنية في كتابه (الحسين والقرآن) يقول (والمفروض أن النبي ساوى العترة بالقرآن المعصوم في حديث الثقلين، ومعنى ذلك أنهم معصومون عن الخطأ تماما كالقرآن مشيرا بذلك إلى الحديث: (إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما)..
ويرى الشيعة الإثنا عشرية، أيضا، أن السيدة فاطمة معصومة، عصمة النبي.. فالشيخ عبد الحسين شرف الدين في كتابه: (النص والاجتهاد) يقول: (إن من أمعن في هذه الأحاديث فتدبرها ممن يقدر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حق قدره رآها ترمي إلى عصمتها لدلالتها، بالالتزام، على امتناع وقوع كل من أذيتها، وريبتها، وسخطها، ورضاها، وانقباضها، وانبساطها، في غير محله، كما هو الشأن في أذية النبي، وريبته، ورضاه، وسخطه، وانقباضه، وانبساطه، وهذا هو كنه العصمة، وحقيقتها، كما لا يخفى) انتهى.. مشيرا، في ذلك، إلى الأحاديث، مثل (فاطمة بضعة مني يؤذيني ما أذاها، ويريبني ما أرابها)..

ما هي العصمة؟؟:


والشيعة إنما يخلطون بين عصمة النبي، وبين عصمة (حفظ) الأولياء، من جهة، وبين عصمة الأنبياء والأولياء وبين عصمة القرآن، من جهة أخرى.. ولعل الشيعة يعتقدون أن العصمة تعني عدم إتيان الخطأ مطلقا، كما تدل علي ذلك عباراتهم: (معصوما كالنبي عن الخطأ)، (لجاز وقوع الخطأ منه في الدين)..
والعصمة قائمة في الدين – قائمة في حق الأنبياء، كما هي قائمة في حق الأولياء من دونهم.. غير أن عصمة الأولياء إنما تسمى حفظا.. والحفظ درجة أقل من عصمة الأنبياء، أو هو عصمة في مستوى أقل.. وعصمة النبي هي أنه لا يخطيء في جملة أمره، وبخاصة في تبليغ ما أنزل اليه من وحي، فإذا أخطأ، وهو نادرا ما يخطيء (وخطؤه الدقيق إنما هو في مستوى حجب العقل النورانية، لا في مستوى حجب الشهوة الظلمانية)، فسرعان ما يصحح، إما بوسيلة الوحي، أو بأيِّ وسيلة أخرى شريفة.. وذلك حتى لا تكون محصلة أمره إلاّ كل ما هو صحيح مصحح من الأقوال، والأفعال، حيث إنه مصدر التكليف، وموضع القدوة.. ولقد قال النبي عن هذا المستوى الدقيق من الخطأ العرفاني (إنه ليغان علي قلبي فاستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة)، ثم قال: (إنه غان أنوار لا غان أغيار) – أي حجب أنوار، لا حجب شهوة.. ولكمال اللطف الإلهي بالنبي، أنه إذ يصحح بالوحي إنما يعجل له بالمغفرة قبل التصحيح، قال تعالى له: (عفا الله عنك لم أذنت لهم؟؟) وأس كمال النشأة البشرية هو أن البشر يخطئون، فيستغفرون فيغفر لهم.. قال النبي: (لو لم تخطئوا، وتستغفروا، فسيأت الله بقوم يخطئون، ويستغفرون، فيغفر لهم!!).. فالخطأ، بما يلحقه من تصحيح، إنما هو الوجه الآخر للصواب.. ولقد خلق الله عقلا بغير شهوة، فهو لا يخطيء، هو الملك، وخلق شهوة بغير عقل، فهو لا يصيب، هو إبليس.. وكلاهما لا يحظي بحرية الاختيار بين أن يخطيء، أو يصيب.. ثم خلق خلقا وسطا بين الملك، وإبليس، هو الإنسان، فركب فيه الشهوة وركب فيه عقلا، وأمره بسياستها، وأعطاه حق الحرية، في ظاهر الأمر، في الاختيار بن طرفي النقيض – الخطأ، والصواب، وأخفى التسيير الإلهي له وراء حجاب العقل في لطف لطيف... وقد تضوعت هذه الحرية علي الإنسان من الحرية المطلقة للذات الإلهية.. فالبشر أكمل من الملائكة مآلا بسبب كمال هذه النشأة.. ولذلك توقف جبريل عند سدرة المنتهى، فتقدم محمد لشهود الذات الإلهية وترا (فردا)، وذلك لأن جبريل لا ذات له (لا نفس له)، فهو لا يستطيع مواجهة الذات الإلهية، ومصدر الزيادة التي تستزيدها النبوة من أنوار الولاية، كما سلفت القول، إنما هو استغفار النبي، أو رفعه حجب الفكر كلما رانت علي قلبه، حتى تحصل له إلمامة جديدة، في مستوى جديد، بالشهود الذاتي..
ولخفاء مأتى الخطأ المتعلق بالنبوة، ولسرعة التصحيح الذي يجري له، ولشرف الوسيلة التي تتخذ في هذا التصحيح تميزت عصمة الأنبياء من عصمة الأولياء، فجعلت الأخيرة حفظا.. ويتفاوت الأولياء في درجة الحفظ الإلهي بحسب تفاوتهم في درجة الخطأ، وفي درجة السرعة التي يتم بها تصحيحه، وفي درجة الوسيلة التي تتخذ في التصحيح.. وعلي ذلك، فالنبيُّ معصوم بعصمة النبوة: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس.. إن الله لا يهدي القوم الكافرين).. فلم يبلغنا عنه إلاّ كل أمر صحيح أو مصحح.. وفيما عدا النبي فكل فرد من آل بيته، أو من أكابر صحابته، إنما هو محفوظ، يصيب في جملة أمره، ولكنه قد يخطيء، فيلهم التصويب من داخله، أو قد لا يستعلن، أو قد يستعلن فلا يدرك.. والخطأ، كل الخطأ، مساواة آل البيت، أو أكابر الصحابة، في العصمة مع النبيِّ الكريم.. فإن ذلك جهل بقدر النبي، ونقص في العقيدة في كمال عصمته.. ثم إن لذلك عاقبة سيئة تنشأ من اعتبار الخطأ الذي يكون قد بدر من أحد آل البيت، أو من أحد أكابر الصحابة، في حد ذاته، صوابا مع إن هذا الخطأ قد يكون لحقه التصحيح بتراخي الزمن، بمقتضى الحفظ الإلهي، فلم يستعلن تصحيحه بالقدر الكافي، أو لم يدرك هذا التصحيح.. وذلك كما تورط الشيعة إذ أخذوا بموقف عليٍّ بن أبي طالب الأوَّلي، في الامتناع عن بيعة أبي بكر، وهو موقف قد تأتَّى لعلي تصحيحه لاحقا، كما سنرى، ثم بنوا كل مذهبهم علي ذلك!!
أما القرآن الكريم فهو كلام الله الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه).. وهو لدى التناهي، كما سلف القول هو ذات الله العلية.. (ومن أحسن من الله قيلا).. فهو، بذلك، فوق عصمة النبوة، دع عنك حفظ الأولياء.. وما استمدت النبوة عصمتها إلاّ منه (وما ينطق عن الهوى، إن هو إلاّ وحي يوحى).. ومساواته مع أهل البيت في العصمة إنما هو من فساد العقيدة.. أما الحديث: (إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي: كتاب الله، وعترتي آل بيتي) إنما يجد فهمه في الرواية الأخرى للحديث: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي: كتاب الله وسنتي).. والحديثان متكاملان.. وذلك حيث ينسب آل البيت إلى السنة.. ومن ذلك مثلا، عدم جواز الصدقة لهم بقول النبي: (الصدقة أوساخ الناس، فهي لاتجوز لمحمد ولا لآل محمد)... وكتاب الله هو سنة الله (ولن تجد لسنة الله تبديلا)، ومن سنة الله، وهي أخلاق الله (تخلقوا بأخلاق الله، إن ربي على سراط مستقيم) تجيء سنة النبي، وهي مبلغ تخلقه بالأخلاق الإلهية، ومن سنة النبي تجيء سنة آل البيت، وسنة الخلفاء الراشدين، وهي مبلغ تخلقهم بالأخلاق النبوية، وذلك كما جاء في حديث آخر: (عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين، المهديين، من بعدي، عضوا عليها بالنواجز)..
وإنما يستدل على العصمة، وعلي الحفظ، بالسيرة.. فقد دل النبي علي عصمته بسيرته قبل البعث، وبعده.. حتى عرف في الجاهلية، بالصادق وبالأمين.. وقد قال لفاطمة (يا فاطمة اعملي، فإني لا أغني عنك من الله شيئا) وقال لآل بيته: (لا يأتيني الناس يوم القيامة وهم يحملون أعمالهم، وتأتوني وأنتم تحملون أنسابكم).. وقد قال علي بن أبي طالب في إحدى خطبه إبان خلافته: (إنما انا رجل منكم، لي ما لكم، وعليَّ ما عليكم) – (شرح نهج البلاغة) "المجلد الثاني" الجزء السابع، صفحة 171، المطبعة اليمنية.. وهو القائل: (رحم الله امريءٍ أهدى إلينا عيوبنا).. فهو إنما يسوِّي بينه وبين المسلمين في الحقوق والواجبات، فيخضع نفسه لمحاسبتهم، كما كانت سنة أبي بكر الصديق في خلافته الراشدة، إذ قال: (لقد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن وجدتموني علي حق فأعينوني، وإن وجدتموني علي باطل فسددوني.. أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم!!) وتلك هي الخلافة الراشدة التي تميزت عن الملك العضوض، وما يدعيه من الحق الإلهي المقدس، والذي قوضه الإسلام، ثم آل اليه أمر المسلمين بعد انحطاط أمر الدين، وارتفاع أمر الدنيا، في صدورهم.. وحديث النبي:(الأئمة من قريش ما حكموا فعدلوا، ووعدوا فأوفوا، واسترحموا فرحموا) إنما يعلق الإمامة في قريش في حسن بلائها فيها.. ولقد سأل رجل من البصرة عليا: (أيمكن أن يجتمع الزبير وطلحة وعائشة على باطل؟؟) فقال عليٌّ: (أنت أمرؤ ملبوس عليك.. إنما الحق والباطل يعرفان بأقدار الرجال، أعرف الحق تعرف أهله، وأعرف الباطل تعرف أهله).. وهو جواب لا يعصم من الخطأ أحدا، ولا يحتكر الحق لأحد، مهما تكن منزلته، بعد أن سكت الوحي وانقطع خبر السماء.. وعلي بن أبي طالب هو القائل (بالإيمان يستدل على الصالحات، وبالصالحات يستدل على الإيمان) وهو قول من جوامع الكلم، ومن علوم النبوة التي ورثها عليٌّ عن النبي.. (فالإيمان ما وغر في الصدر وصدقه العمل)، ولذلك اقترن الإيمان بالعمل (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم، ورسوله، والمؤمنون).. والأئمة من آل البيت النبوي إنما هم على هذه السنة، فقد أثر عن الإمام الباقر قوله: (فوالله ما شيعتنا إلاّ من اتقى الله.. وليس بيننا وبين الله قرابة، ولا معنا براءة من النار، ولا يتقرب اليه إلاّ بطاعته، ولا على الله لأحد من حجة، فمن كان مطيعا لله فهو لنا ولي، وما كان عاصيا لله فهو لنا عدو، وما تنال ولايتنا إلاّ بالعمل والورع).. انتهى..
وقد أثر، أيضا، عن الإمام الصادق، نجل الإمام الباقر، قوله: (ما نحن إلاّ عبيد الذي خلقنا واصطفانا، والله ما لنا علي الله حجة، ولا معنا مع الله براءة، وإنا لميتون، وموقوفون، ومسئولون.. من أحب الغلاة فقد أبغضنا، ومن أبغضهم فقد أحبنا).. انتهى ("أصول الكافي"، الجزء الثاني، صفحة 73، طبعة 1388 هـ.. وبهذا حدد هذان الإمامان الجليلان من آل البيت أسس التشيع الصحيح لآل البيت، فنفيا العصمة عنهم، بصورة قاطعة.. وذلك، نفسه، من دلائل الحفظ الإلهي لآل البيت، حيث اعتصموا بجادة الدين، وحملوا أنفسهم على محجته.. ولقد دلَّ آل البيت على هذا الحفظ الإلهي لهم بسيرتهم الطاهرة، وخلقهم القويم، حيث فطمهم الله عن حب الدنيا، فتجافوا عن أهوائها، فظلوا ركنا شديدا من أركان الدين ومثابة آمنة لأهله.. وآية الحفظ الإلهي لآل البيت من كتاب الله تعالى، قوله: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس، أهل البيت ويطهركم تطهيرا).. وسنرى دلالات هذا الحفظ من المواقع، والمواقف المشهودة لهم..