خاتمة:
إن أكثر ما يحتاجه (الشيعة)، ومن ورائهم سائر المسلمين اليوم من فهم لتصحيح عقيدتهم، إنما هو يتعلق بأمر (الولاية).. فلقد ظل مقام (الولاية)، وهو أكبر مقامات النبي الكريم، مخفيا مكتوما، بمقتضي حكم الوقت الذي كان وقت مقام (الرسالة)، ومقام (النبوة).. وعن خفاء مقام (الولاية) قال النبي الكريم (ما عرفني غير ربي!!).. وقال: (لي ساعة مع الله لا يسعني فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل.. ) ولقد ظل النبي من مقام نبوته، يسعى في حياته، لبلوغ مقام ولايته: (وقد ألمّ به في معراجه)، حتى بلغه عند انتقاله، فنزل به إلى برزخه.. وقد ذهبنا في هذا البحث إلى التفريق بين مقاماته الثلاثة: الرسالة، والنبوة، والولاية، فأشرنا إلى أنه كرسول وكنبي قد كان صاحب شريعة، وأنه، كولي، قد كان صاحب حقيقة.. فكان، في رسالته، صاحب شريعة عامة (الشريعة)، وكان في نبوته صاحب شريعة خاصة (السنة).. وحقيقته (ولايته) هي الحقيقة المحمدية، وهي المقام المحمود.. فشريعته قد أثمرت حقيقته.. فكان لولايته كما كان لرسالته، ولنبوته، دور روحي في التغيير.. ولهذا الدور الروحي، من برزخه، الفضل في إبراز مقامات الأولياء من آل البيت، ومن الصوفية، في التمهيد، وفي الإعداد لتحقيق مقام الولاية، في عالم الملك( الأرض)، كما تحقق في عالم البرزخ، وكما هو متحقق أزلا في عالم الملكوت.. وقد أشرنا في هذا البحث، أيضا، إلى أن النبي الكريم، كنبي، إنما كان يتلقى من الله تعالى عن طريق الوحي الملائكي، وإلى أن النبي كوليٍّ إنما كان يتلقى من الله تعالى مكافحة، وقد سقطت وساطة ذلك الوحي.. وختم النبوة إنما يعني نهاية التلقي الملائكي، وبداية التلقي اللدني.. والتلقي اللدني إنما يكون من الله تعالى، عن القرآن الكريم.. فالقرآن، في تناهيه، إنما هو صفة الله (المتكلم)، القديمة، القائمة بذاته المطلقة.. فمن أحسن التوسل بالقرآن، وفق السنة النبوية، كلمه الله تكليما.. والله إنما يكلمنا بوسيلتين: إرسال الوحي، ورفع حجاب العقل، قال تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلاّ وحيا أو من وراء حجاب).. ولقد انتهت وسيلة الوحي بختم عهد النبوة، وبدأت وسيلة رفع حجاب العقل بافتتاح عهد الولاية.. فالعهد الذي أقبل إنما هو عهد الولايات بعد ختم عهد النبوات.. ولقد كانت ولايات آل البيت، وولايات الصوفية إرهاصا بمجيء هذا العهد.. وفي قمة عهد الولايات يجيء (الولي)، وارث الولاية (حيث كان النبي، في حياته، وارث النبوة)، وتجيء رسالة (الولاية) بعد أن ختمت رسالة (النبوة).. ورسالة الولاية هي الرسالة الثانية من الإسلام.. أما وارث الولاية، ورسول الرسالة الثانية من الإسلام، ومحقق الحقيقة المحمدية، وصاحب المقام المحمود، فهو المسيح المحمدي الذي قال عنه النبي، فيما قال: (رجل من آل بيتي يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا).. وهو (الخليفة) وهو (الوسيلة) بين الذات الإلهية، وسائر الخلائق وهو بذلك يحمل اسم (الله) الأعظم.. ارجع لكتابينا (أدب السالك في طريق محمد)، و(عقيدة المسلمين اليوم) وأما الرسالة الثانية من الإسلام فمنهاجها الفردي هو منهاج السنة النبوية بغير زيادة أو نقصان، وأما نظامها الجماعي فيقوم على الشريعة المطورة من فروع القرآن إلى أصوله – أو من مستوى الوصاية إلى مستوى الحرية – الحرية السياسية (الديمقراطية) والحرية الاقتصادية (الاشتراكية)، والحرية الاجتماعية (المساواة الاجتماعية)..
والأصل الذي تجيء منه الحرية، في النظام الجماعي، إنما هو حرية الخطأ، (أو حق الخطأ)، التي صحبت بروز العقل البشري، وظلت تلازم تطوره.. وهي نفحة قد تضوعت على الإنسان من الحرية المطلقة للذات الإلهية، وبذلك انفتح الطريق أمام الإنسانية إلى الحرية الفردية المطلقة.. وبهذه الحرية تميز البشر عن الملائكة، وعن الأبالسة، وكلاهما لا يملكان حرية الاختيار (الظاهرية) بين الخطأ والصواب، على تفاوت بينهما في ذلك، كما أشرنا في هذا البحث.. وقد أعطي الإنسان حق الحرية ثم كلف بواجب حسن التصرف فيها، وقد بلغ هذا الحق الذي أعطي له مبلغ ما تحكيه هذه الآية: (وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر!!)، فقد أعطي الحق في أن يرتكب الخطأ، في قمته، وهو الكفر!! وطولب في نفس الوقت، بالصواب، في قمته، وهو العبودية.. قال تعالى: (ما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون).. حيث إن العبودية قدر الإنسان المقدور (إن كل من في السموات والأرض، إلاّ آتي الرحمن عبدا).. وقد سير الإنسان إلى تلك العبودية بقانون المعاوضة: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره* ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره).. فمن استعمل حق الحرية استعمالا حسنا، فاختار الطريق المؤدي إلى تلك العبودية، زيد له في هذا الحق باطِّراد، ومن أساء استعماله، فاختار طريق الكفر، صودر منه هذا الحق ريثما يحسن استعماله.. ومن صور هذه المصادرة الوصاية في الدنيا، والعذاب في الآخرة.. ولقد قامت الشرائع جميعا، سماويها، وأرضيها، علي الوصاية، على تفاوت بينهما، من وصاية رشيدة، إلى وصاية غاشمة، حيث لم تكن البشرية في مستوى الحرية.. حتى جاءت شريعة الإسلام، في رسالته الأولى، في مستوى الوصاية الرشيدة، المنفتحة علي الحرية.. بينما جاءت شريعة الإسلام، في رسالته الثانية وهي تنهى أكبر من تحقق بالحرية وهو النبي، عن الوصاية (فذكر إنما أنت مذكر* لست عليهم بمسيطر).. وجاءت الرسالة الثانية من الإسلام، في منهاجها التعبدي، موكلة باكساب الفرد الحرية الداخلية من كل كبت موروث أو مكتسب، بفعل الخوف الذي أملاه الجهل بأصل الحياة، ومصيرها، حيث يعبر هذا الكبت عن نفسه في النزعة إلى السيطرة – السيطرة علي مراكز النفوذ، وعلى وسائل الرزق، وعلى مصادر اللذة.. هذا المنهاج التعبدي إنما يؤدي بالفرد إلى العبودية لله، التي بها التحرر من استرقاق العناصر، وإحراز الحرية الداخلية.. ويجيء النظام الجماعي متسقا مع المنهاج الفردي في إنجاب الفرد الحر، بحيث يعطي الفرد أكبر قدر ممكن من الحرية في مقابل أن يأخذ منه أقل قدر ممكن من الحرية.. وتأتي المواثيق والمؤسسات كوسيلة لهذه الغاية..
والبشرية، اليوم، إنما هي مقبلة علي دورة جديدة من دورات حياتها على هذا الكوكب، بها تدخل عهد (الإنسانية)، أو عهد (المدنية) بقفزة أشبه بتلك التي دخلت بها عهد (البشرية) من عهد (الحيوانية)، وقد ظلت في عهد بشريتها هذه متأثرة برواسب عهد الحيوانية – عهد (الغابة) وإنما تفتتح دورة (الإنسانية) ببروز الإنسان الكامل من بشرية اليوم، وقد تمهدت له الأرض بالدعوة إلى البعث الإسلامي في مستوى الرسالة الثانية من الإسلام.. والإنسان الكامل هو الذي سيحمل اسم (الله) الأعظم، في الأرض، وسيقوم برسالة الوسيلة (الخليفة) بين الذات الإلهية والخلائق، في الأرض، وسيكون مطاعا في الأرض كما ظل مطاعا في السماء، قال تعالى: (هو الذي في السماء إله، وفي الأرض إله.. ).. وبذلك فسيلاقي أفراد الإنسانية ربهم، في الأرض، وسيكونون مسئولين عنده، مسئولية فردية حسية..
قال تعالى: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه).. وسيكونون محكومين وعلى قمتهم (المهدي)، بالدستور، وهو القرآن (ومركزيته الكلمة "لا اله إلاّ الله" التي مركزيتها "الله" – الاسم الأعظم الذي يحمله المسيح).. وسيكون (المسيح)، فوق ذلك الدستور، إذ هو (لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون).. وقد يبرز تساؤل: لماذا تأخذون على الشيعة ذهابهم إلى وضع أئمتهم، كالخميني، فوق الدستور؟ والجواب قريب، وهو أن (المسيح) إنما هو (الخليفة)، هو الوسيلة بين الذات الإلهية، المطلقة، والخلائق، فهو لا يخضع إلاّ لمحاسبة تلك الذات.. والدستور (الحرية) إنما هو نفحة منه هو، به يسير الخلائق إلى مرضاة الذات..
والدستور منطقة قيد، بينما هو منفتح على الإطلاق، فهو بالنسبة لمن دونه كأنه مطلق.. فأين منه أئمة الشيعة؟؟ ذلك البعث إنما هو منوط بقيامة جنة الأرض التي هي صورة من القيامة الكبرى، كما أن جنة الأرض صورة من الجنة الكبرى.. وظهور اسم الله الأعظم مجسدا تجسيدا كاملا، في الأرض، إنما يوطيء أكناف البيئة الإنسانية للعبودية لله، حيث تتأتَّي المعرفة به بصورة لم يسبق لها ضريب، لا من بعيد أو من قريب، وهو يدخل، بنفسه، من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، فيبلغ الإيمان به مرتبة اليقين، وتظهر بظهوره، حقيقة الخير المطلق التي تسير الوجود اليها، فيأمن كل فرد من أفراد الإنسانية على مصير حياته، مما يوسع حريته، وهو يمارس المسئولية الفردية أمام الله، ممارسة حسية مباشرة، كما يمارسها أمام المجتمع، وفي نفس الوقت، وهو، كذلك يستمد سعة حريته من كمال حرية الإنسان الكامل، ويستمد إحسان التصرف في هذه الحرية من الإحسان الشامل الذي سيسود تلك البيئة الصالحة..
وبدخول أفراد الإنسانية مداخل العبودية يتم تواؤم الحياة الإنسانية مع البيئة (الرضا بالله).. والرضا بالله هو سبب السعة في الرزق، كما أن نقص الرضا هو سبب الضيق في الرزق.. قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون* ما أريد منهم من رزق، وما أريد أن يطعمون* إن الله هو الرزاق، ذو القوة المتين) وقال تعالى أيضا: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا، لفتحنا عليهم بركات من السماء، والأرض، ولكن كذبوا، فأخذناهم بما كانوا يكسبون.).. ولذلك فإن مجيء المسيح وهو يحمل اسم (الله) الأعظم، وبما سيصحبه من دخول الإنسانية مداخل العبودية، إنما سيكون هو السبب في وفرة الخيرات، وسعة الأرزاق، حتى لقد قال النبي عن ذلك الوقت: (ويفيض المال حتى لا يقبله أحد)، وقال عن صاحب ذلك الوقت: (يملأ الأرض عدلا، كما ملئت وجورا).. فإن من مقتضيات تلك العدالة الشاملة الوفرة، والسعة.. والأصل هو الوفرة التي بأخذ كل فرد منها ما يريد، في سعة، ثم هي في تنام مطرد.. وما الندرة إلاّ لحكمة تعليمية، أرادها الله، قال تعالى: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض، ولكن ينزل بقدر ما يشاء، إنه بعباده خبير بصير.. ).. فإذا أدت تلك الحكمة التعليمية وفق المنهاج غايتها، فرضي الناس بالله صار الأمر إلى الوفرة.. وبنفس القدر الذي به الوفرة أصل، فإن الملكية الفردية – ملكية الارتفاق، لا ملكية العين – التي ستصحب الوفرة هي أصل، أيضا.. وما اعتبرت الملكية الفردية في الرأسمالية، من رواسب عهد الغابة، إلاّ لأنها تجيء في وقت الندرة التي تحرك نوازع حب السيطرة علي مصادر الرزق.. وفي هذا الوقت لا يصلح نظام اقتصادي لإقرار العدالة إلاّ الاشتراكية، بما يصحبها من ملكية جماعية، لوسائل الانتاج، وهي إجراء مرحلي متطور، علي الرأسمالية، يضع البشرية على أبواب عهد المدنية الذي تغمره الوفرة، وتشيع فيه الخيرات، حتى لتصبح كضؤ الشمس..
وبما أن المسئولية ستكون مسئولية فردية أمام الله، بصورة حسية مباشرة، كما هي أمام المجتمع، وفي نفس الوقت فستتحقق المساواة بين الرجال والرجال، وبين الرجال والنساء، في قمة ليس لها ضريب، وإن كان التفاضل سيقوم في المقامات الروحية، ودرجات القرب، (وفوق كل ذي علم عليم)، (وللرجال عليهن درجة).. وستكون البيئة بيئة عفة، يجد فيها كل فرد، من رجل وإمراة، زوجه في الحقيقة، (وإذا النفوس زوجت)، إذ الأصل (ومن كل شيء خلقنا زوجين)، فتقوم العفة في صدور الرجال، والنساء، حيث تفض المعرفة بالله رواسب الكبت الذي وقع علي الغريزة الجنسية، في الصدور، فتتسامى هذه المعرفة بالغيرة من الغيرة الجاهلة، وهي صورة من صور التملك إلى الغيرة العالمة، وهي الغيرة على العفة.. (حيث كانت وصاية الرجال على النساء بسبب تلك الغيرة الموروثة من عهد الحيوانية) وستبرز المرأة الإنسان، والرجل الإنسان، وهما يستمدان كمال إنسانيتهما من كمال إنسانية الإنسان الكامل، وستبرز خصائص الإنسانية في الإنسان، بجلاء الفطرة – العقل الصافي، والقلب السليم.. وبذلك كله، ترفع الوصاية من الرجال على الرجال، ومن الرجال على النساء، ومن الطبقات على الطبقات، فتتحقق المساواة الاجتماعية التامة..
هذه هي القمة التي تقبل البشرية في مجموعها على بلوغها، وقد ظلت هذه البشرية في تطورها، مشدودة اليها، متأثرة بها، كما يدل رأس سهم التطور وهي تتطلع إلى الحرية – (الحرية السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية)، فتبلغ حاجتها إلى هذه الحرية، وطاقتها بها مداهما اليوم.. من ههنا كانت الدعوة إلى البعث الإسلامي بسبيل من هذه التطلعات البشرية، وعلى أسس تؤدي إلى تلك القمة المنتظرة من كمال الحياة الإنسانية (جنة الأرض).. ومن ههنا الدعوة إلى منهاج السنة في العبادة، والمعاملة، وإلى الشريعة المطورة المرتفعة من الشريعة إلى السنة – أو من فروع القرآن، إلى أصوله، لتجيء الديمقراطية والاشتراكية، والمساواة الاجتماعية – (العدالة الاجتماعية الشاملة) كبيئة صالحة لمجيء الحياة الإنسانية الكاملة (جنة الأرض).. والماركسية، في الشرق، والرأسمالية في الغرب، عاجزتان، تماما عن التطور، وعن مواكبة الحاجة الموضوعية لإنسانية القرن العشرين، الحاجة إلى الحرية (الحرية الفردية المطلقة في ذلك).. ذلك بأن كلا النظامين وكلتا الفلسفتين، إنما يقوم على القيمة المادية وحدها، أو هو على أيسر تقدير يقدم القيمة المادية على القيمة الروحية.. ومن ههنا عدم علميتهما.. إذ أن العلمية هي النظرة الشاملة التي تضع القيمة المادية في مكانها الصحيح كوسيلة للقيمة الروحية، أو (الدنيا مطية الآخرة) كما هي الحكمة النبوية البالغة، أو حاجة المعدة وسيلة إلى حاجة العقل، أو الاشتراكية وسيلة للديمقراطية.. والنظامان، والفلسفتان (الماركسية والرأسمالية) إنما هما مشدودتان إلى الماضي، ومتأثرتان برواسبه وهي رواسب عهد الغابة، فالماركسية استقراء من ماضي الصراع البشري، حيث الحق للقوة، وحيث تتناقض في ظاهر الأمر مصلحة الفرد مع مصلحة الجماعة، فيضحي به في سبيل الجماعة، قد حسبت أن تلك الصورة ستظل ملازمة لخط التطور البشري في مستقبله، فقدمت الجماعة على الفرد، فأهدرت الحرية الفردية في سبيل الحرية الجماعية، وجعلت وسيلة التغيير الاجتماعي الأساسية هي القوة والعنف، فجاءت بدكتاتورية البروليتاريا، فانتهى نظامها، علي يد السوفيت إلى استعمار جديد، يسعي لاغتيال حريات سائر الشعوب!! بينما ظلت الاشتراكية، ناهيك عن الشيوعية، حلما مستحيلا، مع دوامة التوسع، والتسلح.. وما علمت الماركسية أن مستقبل البشرية هو عهد المدنية حيث القوة للحق، وحيث يفارق العنف القوة، فيحدث التغيير بغير حاجة إلى العنف، وحيث يجيء الفرد الحر الذي تتسع حريته باتساع حرية الجماعة، فلا تتناقض معها، وذلك حيث يفض التناقض الأساسي بين العبد والرب، أو بين الإنسانية والبيئة، وذلك بالعبودية لله، والرضا به – وهو مصدر الوفرة، والحرية.. أما الرأسمالية فهي، في حد ذاتها، بقية من بقايا عهد الغابة حيث تتمكن من النفس البشرية النزعة إلى السيطرة على مصادر الرزق.. وقد قامت الرأسمالية، مثلها مثل الماركسية، على مفهوم خاطيء لقيمة الحرية، على تفاوت بينهما، فحسبت أن من لوازم الحرية الفردية، الملكية الفردية لوسائل الانتاج، وأن مقتضيات هذه الحرية، أيضا، حرية (الجسد)، أو ما يسمى (بتحرير الغرائز) فأهدرت بذلك قيمة الحرية الصاعدة، حيث إن الحرية الفردية مقيدة بحسن التصرف فيها، وبعدم التعدي بها على حريات الآخرين.. ففي الملكية الفردية لوسائل الانتاج تعدٍّ على حريات الآخرين الاقتصادية، وفي (الإباحية) الجنسية هبوط بخط التطور الذي لا يسير نحو إطلاق الغرائز، وإنما نحو تنظيمها، بفض كبتها وفق منهاج فردي، في علم النفس، يؤدي إلى الحرية الداخلية..
وهكذا تجيء الدعوة إلى البعث الإسلامي في مستوى الرسالة الثانية من الإسلام لتفض الكتلتين العالميتين القائمتين اليوم، في كتلة ثالثة، هي الأمة الإنسانية الواحدة، التي تتوحد علي الإسلام، في هذا المستوى العلمي.. فقد وصلت الكتلتان إلى نهاية مقدرتهما التطورية، وآلتا إلى حافة التدهور التي لا تؤدي إلاّ إلى الحرب العالمية الثالثة – الحرب النووية، التي تتهدد الحضارة، والنوع البشري – كليهما.. فالأزمة العالمية هي أزمة السلام، وأزمة الرخاء.. وقد آل الصراع بين الكتلتين إلى سباق محموم على التسلح صار معه الحد من الأسلحة الإستراتيجية متعذرا، ناهيك عن نزع السلاح، وإلى هوة اقتصادية، وحضارية مروعة بين نصف الكرة الأرضية الشمالي المتحضر الغني، ونصفها الجنوبي المتخلف الفقير.. فعلى المسلمين، "الشيعة" و"السنة" كليهما، أن يعودا إلى تصحيح عقيدتهم الإسلامية، وفق عقيدة التوحيد الصحيحة، وأن يعرفوا أنهم حملة رسالة لم يجعل الله تعالى للإنسانية من مفازة إلاّ بها، وأن دورهم الأساسي هو إبراز المدنية الجديدة التي تخلف الحضارة الغربية، وذلك بالفهم الدقيق لحقائق الإسلام، ولحقائق العصر، مما تتوفر عليه هذه الدعوة إلى الرسالة الثانية من الإسلام. وليكن (طريق محمد) هو القاعدة التي يتوافى عليها المسلمون فيحدثوا بها ثورة فكرية، وثقافية، توحدهم، وتفجر طاقاتهم، وتضعهم موضعهم الصحيح من قيادة هذه البشرية الضالة، الحائرة..
ونحب في خاتمة هذه الخاتمة أن نؤكد أن (التشيع) للنبي الكريم، وآل بيته، إنما هو ما عليه السودانيون عامة، والجمهوريون خاصة.. فإن من يسمون (الشيعة) اليوم ليجهلون قدر النبي، وقدر آل بيته، وهم يقدحون في عصمته، وفي حفظهم، بتلك الصورة التي أشرنا إليها في هذا البحث.. إننا لنحن الشيعة الحقيقيون بما نعرف للنبي الكريم، ولآل بيته، من القدر، وبما نوليهم من محبة تقوم على المعرفة بهم، وعلى الأدب معهم.. هدى الله المسلمين إلى الإسلام، وهدى بهم الإنسانية إلى السلام والله ولي التسديد، وعليه التكلان..
الإخوان الجمهوريون
أم درمان ص ب 1151
تلفون 233312