الباب الثاني
الشيعة والإسماعيلية
والبهائية والقاديانية
نتناول في هذا الباب العقيدة الإسماعيلية، والعقيدة البهائية، والعقيدة القاديانية.. ولقد سبق أن تناولنا الأسس الاعتقادية للإسماعيلية، والمشتركة مع الشيعة الإثني عشرية: الإمامة، والعصمة.. ولذلك فسنركز، في هذا الباب، على عقيدة الإسماعيلية في إمامة اسماعيل بن جعفر الصادق، خاصة، وعقيدتهم في التأويل، ونشير إلى فرق الإسماعيلية المتباينة، وبخاصة المعاصر منها.. كما سنتناول الأسس الاعتقادية للبهائية والقاديانية، كفرقتين، أو كعقيدتين نشأتا في البيئة الشيعية.. ولذلك فنستهل هذا الباب بالحديث عن نشأة الغلو في التشيع، وأثره في تكوين الفرق الشيعية، وفي تشكيل معتقداتها، وعن هذه المعتقدات الشيعية التي كونت تربة خصبة لنشوء البهائية، والقاديانية..
الفصل الأول
الغلو والانحراف في التشيُّع
الشيعة بين الغلو والاعتدال:
قال عليٌّ بن أبي طالب: (ليحبني أقوام حتى يدخلوا النار في حبي، ويبغضني أقوام حتى يدخلوا النار في بغضي) وقال: (يهلك فيَّ رجلان: محب مفرط بما ليس فيَّ، ومبغض قال يحمله شنآني على أن يبهتني).. ولعل ذلك من نبوءة النبي له.. ولقد حقت تلك النبوءة، فقد خرج عليه الخوارج فكفروه، كما سلف، ثم غلا السبئية في ادِّعاء حبه حتى ألَّهوه.. والخوارج قد كانوا من شيعته، والسبئية من أدعياء التشيع له، ثم إن من الفرق من نسب إليه النبوة..
وبين طرفي تكفيره، وتأليهه تتفاوت فرق الشيعة في درجة الغلو، أو في درجة الاعتدال، ولا اعتدال.. والإثناعشرية، والإسماعيلية لا تخلوان من غلو، بل إن معتقداتهما إنما تحملان بذرة الفرق الغالية التي ألَّهت عليا، أو نسبت إليه النبوة، وإن تبرأتا منها.. ومن آثار الخوارج بقيت فرقة (الأباضية) بعمان، وهي معتدلة، ولها فقهها المستقل، ولم تبق من فرق الشيعة إلاّ الإثنا عشرية، والإسماعيلية (البهرة، والأغاخنية، والدروز)، والنصيرية (العلويون) الذين نشأوا عن الإثني عشرية..
وما نشأ الغلو في التشيع إلاّ كرد فعل لما أصاب آل البيت، من اضطهاد، وتقتيل، وتنكيل، وإلاّ عن عقدة ذنب، وبخاصة عند أهل العراق، من خذلان علي وبنيه، ثم وجد التشيع عوامل مساعدة أخرى من الشعوبية عند الفارسيين، ومن موروثهم من فكرة الحق الإلهي المقدس للأكاسرة، ومن الديانات والفلسفات القديمة التي اختلطوا، وتأثروا بها.. وقد نما الغلو والإنحراف في التشيع كذلك، في ظروف التقية، والتكتم التي مرت بالشيعة، وهم يواجهون اضطهاد الأمويين والعباسيين وغيرهم من الدول والممالك التي ناصبت الشيعة العداء..
ويبدو أن السبئية هي التي بذرت بذرة الغلو في التشيع فأخذت ترسم لها إطارا مذهبيا.. فعبدالله بن سبأ كان يهوديا فأسلم، وادّعى التشيع لعلي، في خلافة علي.. فهو أول من قال: (إنه كان لكل نبي وصي، وعلي وصي محمد.. فمن أظلم ممن لم يجز وصية، رسول الله صلى الله عليه وسلم) (الطبري، الجزء الخامس صفحة 98).. ولعله تأثر في ذلك باليهودية حيث هارون وزير موسى ووصيه!! فكانت تلك بذرة فكرة الوصاية.. ثم قال: (وإن عثمان أخذها بغير حق فانهضوا في هذا الأمر، وابدأوا بالطعن علي أمرائكم، واظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).. (ابن الأثير، الجزء الثالث، صفحة 59).. وبذلك ظهر الطعن في الخلفاء الراشدين.. ولما بلغ عليا ذلك قال: (ما لي وما لهذا الحميت الأسود الذي يكذب على الله ورسوله) (ابن عساكر، المكتبة التيمورية، الجزء العشرون، صفحة 578).. ويذهب ابن سبأ في الغلو مداه فيقول لعلي وهو يخطب: (أنت أنت!!) فيقول له عليٌّ: (ويلك!! من أنا؟؟ فيقول: (أنت الله!!) – شرح ابن أبي الحديد، الجزء الأول، الصفحة 425.. وقد أمر عليٌّ بقتله، ثم اكتفى بنفيه إلى المدائن.. ثم قال للذي نعى له عليا: (كذبت لو جئتنا بدماغه في سبعين صرة، وأقمت على مثله سبعين عدلا، لعلمنا أنه لم يمت، ولم يقتل، ولا يموت حتى يملك الأرض) – (فرق الشيعة "للنوبختي"، صفحة 22) ومن هنا بدأت فكرة الرجعة عند الشيعة!! ولا نقول بأن السبئية هم الذين أسسوا المذهب الشيعي، ولكننا نقول بأنهم بدأوا الغلو في التشيع، فذهبوا إلى أقصى مداه، فجاءت الفرق الشيعية الأخرى وهي لا تخلو من التأثر بهم – كما سنرى..
ثم جاء الكيسانية الذين ينسبون فيمن ينسبون اليه، إلى مختار الثقفي.. وذلك حيث ظهر من كانوا يسمون (التوابين)، الذين أعلنوا عن توبتهم عما فرطوا في جنب علي، والحسن، والحسين بخذلانهم، وقعودهم عن نصرتهم، فخرجوا لقتل من قتله (مروج الذهب الجزء الثاني صفحة 110).. وقد نسب إلى أهل الكوفة قولهم: (دعونا ابن بنت نبينا فبخلنا عنه بأنفسنا حتى قتل إلى جانبنا، لا نحن نصرناه بأيدينا، ولا جادلنا عنه بألسنتنا، ولا قويناه بمالنا، فما عذرنا إلى ربنا، وعند لقاء نبينا، ألا انهضوا فامحوا عنكم سخط ربكم، ووالله لا أظنه راضيا دون أن تناجزوا من قتله أو تبيدوه، فقوموا إلى بارئكم، فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم) – (نظرية الإمامة، أحمد محمود صبحي، دار المعارف بمصر، صفحة 314).. ويروى أن (التوابين) ومختار الثقفي (الكيسانية) قد تتبعوا قتلة الحسين، حتى قتلوهم.. وقال الكيسانية بإمامة محمد بن الحنفية (ابن علي بن أبي طالب)، بعد الحسين، وزعموا أنه هو المهدي الذي يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا، وأنه حي في جبال رضوي، لم يمت، ولا يموت حتى يظهر الحق ("تاريخ الشيعة" لحسين علي محفوظ، الكاظمية، صفحة 61).. وظهرت الاصطلاحات الشيعية (كالمهدي)، و(كالوصي)، و(كالإمام) في أقوال التوابين والكيسانية.. وقد نسب إلى مختار الثقفي قوله: (جئتكم من عند (المهدي) محمد بن الحنفية وزيرا أمينا) وقوله: (إن "المهدي" بن "الوصي" بعثني إليكم امينا ووزيرا) – (ابن الأثير الجزء الرابع، صفحة 69 وصفحة 71).. هذه هي بذرة الغلو في التشيع.. ونلاحظ أن السبئية قالوا بأن عليَّا حي لم يمت وإنه سيرجع، وكذلك قال الكيسانية، مما ذهب اليه الإثنا عشرية باعتقادهم أن محمد (المهدي) الإمام الثاني عشر حي لم يمت، وبأنه في غيبته، وسيرجع!! ويقول (الغرابية)، وهي فرقة شيعية بائدة بنبوة علي، وبأنه شريك النبي في النبوة ("الشيعة في التاريخ" صفحة 72).. ونلاحظ أن الإثنا عشرية قالوا بأن (الإمامة منصب إلهي كالنبوة) وأن الإمام (يقوم بالوظائف التي كان على النبي القيام بها) كما أسلفنا!!
والغلو في التشيع لآل البيت، كما أسلفنا، إنما مصدره ما تعرضوا له من محنة، ومن خذلان.. قال ابن أبي الحديد، في شرحه (نهج البلاغة)، الجزء الثالث، صفحة 15، وهو يصور هذه المحنة: (حاربوا عليا، وسموا الحسن، وقتلوا الحسين، وحملوا النساء علي الأقتاب حواسر وكشفوا عن عورة علي بن الحسين، حين أشكل عليهم بلوغه، كما يصنع بذراري المشركين إذا فتحت دورهم عنوة.. وقتل عبيد الله بن زياد يوم الصف تسعة من صلب عليٍّ عليه السلام، وسبعة من صلب عقيل بن أبي طالب، وضرب عنق مسلم بن عقيل صبرا بعد الأمان.. ) انتهى.. غير أن الشيعة لم تعرف الحكمة من تلك النكبة، فذهبت في تكفيرها عن التفريط في حق آل البيت إلى الغلو في تكلف رفع قدرهم بصورة ممقوته، دينا، وعقلا..