الفصل الثاني
الإسماعيلية
يكتنف العقيدة الإسماعيلية شيء من الغموض، ويتجلى، أول ما يتجلى هذا الغموض، حول شخصية الإمام إسماعيل نفسه الذي تنتسب إليه هذه العقيدة.. فالإسماعيلية تلتقي في سلسلة الإمامة مع الإثني عشرية حتى جعفر الصادق، ثم تفترق عنها.. فالإسماعيلية يرون أن الإمامة لابنه إسماعيل دون ابنه موسى الكاظم، وأما الإثنا عشرية فيصرفون الإمامة إلى موسى الكاظم..
الإسماعيلية وإمامة إسماعيل:
قال مؤرخ الدعوة الإسماعيلية الداعي ادريس عماد الدين المتوفي سنة 872 هـ في كتابه ("زهر المعاني" صفحة 47- 49) (إن موسي الكاظم لم يجعله الصادق إماما إلاّ سترا على ولي الأمر محمد بن اسماعيل ليكتم أمره عن الأضداد، ولئلا يطلع على ما خص به أهل العدواة والعناد حتى يستطيع الإمام المستقر الحقيقي النهوض بأعباء الدعوة سرا).. ويتحدث الداعي اليمني الخطاب بن الحسين الهمداني المتوفي سنة 533 هـ في كتابه ("غاية المواليد") فيقول: (روي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) في تسليمه الأمر لولده اسماعيل (ع)، وغيبة اسماعيل وولده محمد بن اسماعيل في حد الطفولة، ولم تكن الإمامة ترجع القهقري منه كما لم ترجع من غيره، فأودع حجته المنصوبة بين يدي ميمون القداح مقامه لولده، وأقامه سترا عليه وقدمه بين يديه واستكفله إياه إلى بلوغه أشده.. ولما بلغ أشده تسلم وديعته ثم جرى الأمر في عقبه خلفا عن سلف).. انتهى.. وخلاصة ما ذهبت اليه فرق الإسماعيلية الأولى هو أن بعضهم يرى أن الإمام جعفر الصادق نص على أن يتولى ولده الأكبر اسماعيل، الإمامة من بعده، ولكن اسماعيل توفي في حياة أبيه، فانتقلت بذلك الإمامة إلى ابنه محمد اسماعيل، لأن الإمامة لا تكون إلاّ في الأعقاب، ولا ترجع إلى الأخ.. ويقول أكثر مؤرخي الإسماعيلية إن وفاة اسماعيل بن جعفر في حياة أبيه إنما كانت قصة أراد بها الإمام جعفر التمويه والتعمية على الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور الذي كان يطارد أئمة الشيعة في كل صقع.. وهكذا بدأت الإسماعيلية بالغموض منذ نشأتها.. وظل أئمة الإسماعيلية مستورين حتى ظهور عبيد الله المهدي الذي أسس الدولة الفاطمية في المغرب، وأسس عقبه، المعز لدين الله، الدولة الفاطمية بمصر. ولعله بسبب ذلك الستر أطلق على الإسماعيلية (الباطنية)، أو لعله بسبب الاعتبار الأكبر الذي يولونه للتأويل الباطني للنصوص.. (وجو الغموض والتستر هذا هو أصلح البيئات لنمو الأفكار الغالية، والدعاوى المنحرفة).. ولقد نسب إلى الإسماعيلية كثير من الشبهات كالإباحية، وتحليل المحرمات، والتحلل من التكاليف الشرعية، وقد طعن حتى في نسبتهم إلى آل البيت، كما نسب كثير من معتقداتهم إلى الأصول المسيحية، واليهودية.. وقد تكون الخصومة المذهبية هي مصدر تلك الشبهات، وقد تكون هناك فرق إسماعيلية قد انحرفت بالفعل، في جو الغموض والستر المحيط بهذه الدعوة..
موجز لتاريخ الإسماعيلية:
كانت الحركة الإسماعيلية في نشأتها تدعو إلى إمامة اسماعيل بن جعفر الصادق، وبعد أن أعلنت وفاة اسماعيل سيقت الإمامة في عقبه محمد، وبعده في الأئمة المستورين من عقبه.. وقد سميت هذه الفترة دور الستر الأول.. وظلت الحركة تعمل في ظل هذا التستر، والتكتم، حتى ظهر الإمام عبيد الله المهدي في المغرب فأسس الدولة الفاطمية، هناك، ثم تسلم الإمامة المنصور ثم المعز لدين الله الذي فتح مصر عام 359 هـ، حيث أسس الدولة الفاطمية بها.. ثم تولاها العزيز، ثم الحاكم، بأمر الله، ثم الظاهر، ثم المستنصر بالله.. وبعد أن أعلنت وفاة المستنصر وقع الخلاف بين ولديه نزار، والمستعلي الذي تمكن من استلام الخلافة.. فانقسمت الإسماعيلية إلى فرقتين (مستعلية) و(نزارية).. فأما المستعلية فقد استمروا في حكم مصر.. وبعد المستعلي جاء الآمر، ثم الطيب، الذي يدعون أنه دخل كهف الستر والغيبة.. وفي هذه الفترة استلم أربعة وكلاء شئون الخلافة، وآخرهم العاضد الذي استولى صلاح الدين الأيوبي في عهده، على الحكم، فانتهت الدولة الفاطمية، وتفرقت فرقتا النزارية والمستعلية.. ومنذ ذلك الوقت عرفت المستعلية بالبهرة، ووطنها الأم الهند.. أما النزارية فقد انتقلت إلى فارس وجعلت عاصمتها قلعة (آلموت)، وقد تسلسل منها أئمة عديدون حتى الأغاخان الذي عرفت الدعوة باسمه (الأغاخانية).. (بتصرف من كتاب "الحركات الباطنية في الإسلام" للمفكر الإسماعيلي مصطفي غالب – طبعة دار الكتاب العربي)..
أما الدروز فعقيدتهم هي التوقف في تسلسل الإمامة الإسماعيلية بمفهومها الروحي عند الحاكم بأمر الله، بينما يستمر الإسماعيلية الآخرون في هذا التسلسل الذي لا يزال يعمل به الإسماعيلية الأغاخانية.. أما الفرقة النصيرية (العلويون) فتنسب إلى الإمامية الإثني عشرية، من حيث اعتقادها في سلسلة الإمامية، ولكنها حسبت من الإسماعيلية (الباطنية) لغلوها في التأويل الباطني.. ويرى النصيرية أن نظام الإمامة قد أصابه الاضطراب بعد غيبة الإمام الثاني عشر، فجاءت فكرة الباب (الوكيل) للإمام الغائب.. وقد كان محمد بن نصير، عندهم بابا للإمام الحادي عشر، الحسن العسكري، ثم صار بابا لابنه المهدي (بدأت البابية "البهائية" بفكرة الباب).. ويسمى النصيرية بالعلويين لاعتقادهم في عليٍّ بما يشبه التأليه.. فهم يقولون عنه (علي الأعلى الذي ارتدي الحلة الزرقاء وسكن في الشمس).. وتقوم معتقداتهم على الرموز، وعلى الكرامات!!
فكرة التأويل والعلاقة بين النبي وعليٍّ عند الإسماعيلية:
أما فكرة الإمامة عند الإسماعيلية فتكاد أن تكون هي فكرة الإمامة عند الإثني عشرية، من حيث النص على الإمام، ومن حيث ضرورة تسلسل الإمامة في الأعقاب، ومن حيث عصمة الأئمة، ولكنهم يختلفون عن الإثني عشرية في أن الإمامة تستمر عندهم مدى الحياة، ولا تقف كما وقفت عند الإمام الثاني عشر.. ولم يقف الإسماعيلية بتسلسل الإمامة من اسماعيل بن جعفر الصادق، بل ذهبوا بها إلى عهد آدم وسلسلوها حسب نصوص التوراة والإنجيل حتى قيام الإمام القائم المنتظر.. (صفحة 101 المرجع السابق).. وجاء في كتاب (أساس التأويل) للقاضي النعمان قاضي قضاة الدولة الفاطمية، صفحة 31، منشورات دار الثقافة بيروت: (وفي آيات كثيرة من كتابه سبحانه وتعالى ذكر للأمثال، والباطن، والتأويل.. ومن معجزات وغرائب تأليفه أنه يأتي بالشيء الواحد وله معنى في ظاهره، ومعنى في باطنه، فجعل عز وجل ظاهره معجزة رسوله، وباطنه معجزة الأئمة من أهل بيته، لا يوجد إلاّ عندهم، ولا يستطيع أحد أن يأتي بظاهر الكتاب غير محمد رسول الله جدهم، ولا أن يأتي بباطنه غير الأئمة من ذريته) انتهى.. والشيعة يعتقدون أن محمدا صاحب التنزيل وأن عليا صاحب التأويل.. (المصدر السابق)..
لعمري!! إن للقرآن ظاهرا وباطنا، وإن له تفسيرا وتأويلا.. أما ظاهره فقد عني بآيات الآفاق، وأما باطنه فقد عني بآيات النفوس (سنريهم آياتنا في الآفاق، وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أولم يكف بربك أنه علي كل شيء شهيد؟) وأما تفسير القرآن فهو ما تعطيه اللغة، وأما تأويله فهو ما يؤول اليه من المعاني، ذلك بأن القرآن هو كلام الله، وكلامه هو صفته القديمة القائمة بذاته، فالقرآن لدى التناهي هو ذات الله.. وقد تنزلت ذات الله لتعرف عبر التنزلات التي هي مراتب الصفات: الحياة، العلم، الإرادة، القدرة، السمع، البصر، الكلام.. وفي مرتبة الكلام ظهر القرآن في اللغة العربية.. ولكل كلمة، أو عبارة من القرآن معنى من حيث كل صفة من هذه الصفات، والعارفون إنما يتفاوتون حسب المعرفة بهذه المعاني (وفوق كل ذي علم عليم) حتى تنتهي المعاني عند الذات حيث (وما يعلم تأويله إلاّ الله).. قال تعالى: (حم* والكتاب المبين* إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون* وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم).. غير أن كل تأويل يجب ألاّ يتجافي مع ظاهر النص، ولا مع الحكمة من النص، فالتفسير قاعدة، قمتها التأويل، والتفسير مشمول في التأويل.. أما زعم الشيعة بأن النبي هو صاحب التنزيل، وبأن عليا هو صاحب التأويل، فغلو من الغلو.. ذلك أن النبي إنما هو صاحب التنزيل، والتأويل معا – بما هو رسول، ونبي، وولي.. ففي مرتبة رسالته أمر أن يبلغ القرآن المقروء، وأن يبين منه الشريعة، وأن يفسره وفقها، وفي مرتبة نبوته علم من القرآن علم النبوة – علم التأويل، وقد خير في تبليغه.. وفي مرتبة ولايته علم من القرآن علم الولاية – علم التأويل، ولكنه نهي عن تبليغه.. أما ما علمه عليا فهو علم من علم النبوة، هو الذي أهله ليكون خليفة النبوة من بعده.. ثم إن الالتواء بمعاني القرآن وفق العصبية المذهبية إنما هو تأول وليس تأويلا، من ذلك قول (النعمان التميمي) في كتاب (أساس التأويل)، صفحة 361 في دعوى تأويل قوله تعالى: (قل أرايتم إن كان من عند الله وكفرتم به.. ): (تأويل ذلك قل أرأيتم يا أصحاب محمد إن كان نصب هذا الوصي – علي – من عند الله بأمره وكفرتم به يعني سترتم منزلته التي اجتباها الله له واختارها.. ) انتهى..
الحاكم بأمر الله: ويرى الإسماعيلية، على لسان (داعيهم الأكبر الكرماني) أن أمر الإسلام قد انتقل إلى الحاكم بأمر الله فقال: (ومما يدل على ما قلناه من انتقال أمر الإسلام إلى الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين بانجاز الله له وعده، فيكون الأمر كله إليه كما كان إلى النبي في أيامه) – (رسالة مباسم البشارات – الإمام الحاكم) للكرماني، صفحة 226 من كتاب (الحركات الباطنية في الإسلام) لمصطفى غالب.. بل ذهب يسبغ على الأئمة العصمة المطلقة، صفحة 231، بقوله (وسواء عرفت الحكمة في أفعالهم أم لم تعرف فإمامتهم ثابتة لا تحل معاقدها، ولا تنبت قلائدها، كنبوة النبي صلى الله عليه وسلم)، وفي ذلك مفارقة واضحة لمعنى العصمة، ولمعنى الحفظ.. فكل صاحب حقيقة لا شريعة له فحقيقته باطلة..
وهكذا يغرق الإسماعيلية في الغموض في الاعتقاد، والغلو في التأويل، فيجنحون إلى العصمة المطلقة على الإمام، بل وإلى تأليهه، كما ذهب السبئية في عهد علي، وهم يبذرون بذور الغلو في التشيع.. فقد قال الكرماني، صفة 237 من المصدر الآنف، عن الحاكم بأمر الله (لا يغيب اللاهوت عن الناسوت لأنكم لا تستطيعون النظر إليه، ولا لكم قدرة على الإحاطة بحقيقته)..