مستقبل الثقافة العربية في السودان
كنت قد حضرت محاضرة، في منتصف الخمسينات، ألقيت على طلبة المعهد العلمي عن (مستقبل الثقافة العربية في السودان) وأعتقد أن أستاذا مصريا، كان مبعوثا من الأزهر للتدريس في المعهد العلمي قد كان يحاضر تلك الليلة، فقام في بالي توجيه هذا الكلام، وأهديته لطلبة يومئذ ، وكان قد نشر في الصحف فيما أظن:-
كل حديث، منذ اليوم، عن مستقبل أي قطر على هذا الكوكب يجب ألا ينحصر في الحدود الجغرافية لذلك القطر، ذلك لأن الوضع قد تغير عن ذي قبل، وأخذ عالمنا يستقبل عهدا جديدا، كل الجدة، من وحدة المصالح، ووحدة المصير، ووحدة الشعور.. والحق، الذي لا مراء فيه، أن الحواجز التي كانت تفصل بين البشر، في الماضي، لم تعد قادرة على الحيلولة بينهم، منذ اليوم، بعد أن قهرت سبل المواصلات، وسبل الإتصال الحديثة، الزمان، والمكان قهرا يكاد يكون تاما.. بفضل الله، ثم بفضل هذه الكشوف، أصبحت الإنسانية تعيش في بيئة طبيعية جديدة.. بيئة صغيرة، موحدة.. ولكي توائم الإنسانية بين مذاهبها الإجتماعية، وبيئها الطبيعية هذه الموحدة، أصبح لزاما أن تبرز، إلى حيز الوجود، مذهبية اجتماعية، عالمية، موحدة، أيضا، عندها تلتقي الإنسانية جمعاء، إلتقاء أصالة، بدوافع الجبلة المركوزة في كل نفس بشرية، من حيث أنها بشرية، بصرف النظر عن إختلاف اللون، واللسان، والموطن..
وبنفس القدر الذي به، أصبحنا، نعيش في بيئة جديدة فقد وجب علينا أن نفكر تفكيرا جديدا، تفكيرا يتسم بالإحاطة، وبالشمول، وبالدقة.. ووجب علينا أيضا أن نعيد النظر فيما تواضع عليه الناس، في العهود السوابق، من مفاهيم، ومدلولات، ومن ذلك، على سبيل المثال، مفهوم كلمة (ثقافة) التي نحن بصددها الان.. فقد تواطأ الناس على تعريفها بأنها مجموع المعارف، والعلوم، والآداب، والفنون، عند أمة من الأمم.. وهم لذلك يتحدثون عن الثقافة العربية، والثقافة الإنجليزية، أو غيرهما.. وأحب أن ألاحظ هنا أن هذا التقرير خطأ، وأن التراث البشري عامة، في المعارف، والعلوم، والفنون، إنما هو (وسيلة) الثقافة لا (الثقافة) نفسها.. ولقد يحتاج قولي هذا إلى إعمال فكر.. فدعوني أوضح قليلا.. ولأبدأ بتعريف مبتسر (للثقافة).. فالثقافة عندي هي تقويم النفس.. وهي، بذلك، علم، وعمل بمقتضى العلم.. والنفس، في حقيقتها، وفي جوهرها الأصيل، محض علم، ومحض خير، ولكن طرأ عليها الشر، طروء وافد ثقيل، فأذهلها عن حقيقتها، وغطى أصالتها بركام من الأوهام، والأباطيل، وإلى ذلك الإشارة بقول الله تعالى: (كلا!! بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) وهذا مطلق، عل سائر الناس، وليس قاصرا على الكفار.. (فالثقافة) عندي هي معرفة الحقيقة الأزلية وترويض النفس عليها حتى تكون هناك مواءمة بين بدوات النفس ومقتضيات الحق، وبذلك تعود النفس إلى بيئتها الأصلية، وتستعيد معرفتها الأولى، وتزول عنها أوضار الجهالات، وغواشي الشرور..
إن العارفين لا يشكون أن معرفة الحقيقة الأزلية مركوزة في النفس البشرية، من حيث هي بشرية، وبصرف النظر عن ملتها، ولكن البشر قد نسوا هذه المعرفة: (ولقد عهدنا إلى آدم، من قبل، فنسي، ولم نجد له عزما).. وما عمل التعليم إلا تذكيره إيانا بما نسينا من هذه المعرفة القديمة الأزلية -: (ولقد يسرنا القرآن للذكر، فهل من مدكر؟؟) أو إقرأوا إن شئتم: (سنريهم آياتنا، في الآفاق وفي انفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحق.. أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد؟؟)..
ولا يجيء تذكر الحقيقة الأزلية إلا على مكث، وتمهل، وإلا بعد البحث، ورياضة النفس، والصبر، وإلا بالتوسل بالوسائل الصحائح.. وخير هذه الوسائل وسائل الدين، بشكل عام، ووسائل الإسلام، والقرآن بشكل خاص.. وأول وسائل الإسلام في هذا الطريق تبدأ من بداية بسيطة هي التصديق، والعمل – مجرد التصديق باللسان، ومجرد العمل بالجوارح، بتقليب الأعضاء في العبادة المفروضة على المسلم في اليوم والليلة.. بهذا العمل البسيط يبدأ تذكر الحقيقة الأزلية المركوزة في كل نفس بشرية.. فأول العمل قول باللسان، وعمل بالجوارح.. يترقى هذا، وكنتيجة محتومة، ومضمونة، بضمان فضل الله الذي قال: (واتقوا الله، ويعلمكم الله)، يترقى إلى قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارج، وهذا هو المعروف بالإيمان.. ثم يزيد الإيمان، ويطرد، ويقوى في القلب، فيستعمل الجوارح في الطاعات، في مستوى العبادات، ومستوى المعاملات، وتبدأ بذلك إستقامة النفس، واستقامة السيرة، ويطالع السالك بالأمر العظيم، الذي ورد على النبي الكريم، (فاستقم كما أمرت، ومن تاب معك، ولا تطغوا).. فإذا ما بلغت النفس (بالثقافة) طور (الإستقامة) فقد تركت الطغيان، وبرئت من الجهل، وسلكت سلوك الآدميين، ونشرت الخير، والمحبة، والسلام، والمعرفة، كما تنشر الزهرة المعطار الشذا، في غير تعمل، ولا تكلف.. (فالثقافة) إذن علم، وعمل بمقتضى العلم، ويعبر عنها، تعبيرا مباشرا، قول الله تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه).. و(الكلم الطيب)، كما قلنا آنفا، هو معرفة الحقيقة الأزلية، أو بتعبير آخر: (لاإله إلا الله).. وهي تبدأ بمجرد قولها باللسان.. و(العمل الصالح) التصديق برسالة محمد، ومحاكاته في العبادة، والأخلاق، وهي بذلك (أي الثقافة) في متناول الأميين والمتعلمين، على السواء.. وهذا هو السر الذي مكن القرآن، والإسلام، من خلق أرقى المثقفين في العالم من الأميين، والرعاة – محمد، وأبوبكر، وعمر.. والحديث عن (الثقافة العربية) حديث خطأ، ذلك لأن (الثقافة العربية) إنما هي (الثقافة الإسلامية) .. ومع أن الإسلام نشر اللغة العربية إلا أن اللغة العربية لن تستطيع أن تنشر الإسلام.. ويجب أن يكون هذا واضحا، في أخلاد الذين يتحدثون عن العرب، وعن اللغة العربية، في هذه البلاد، وفي غير هذه البلاد.. وليس من همي هنا أن أنكر على السودانيين كونهم عربا، أو كون ألسنتهم شرائح مقدودة من ألسنة العرب.. ولست أذهب مذهب التقليل من شأن اللغة في مسائل الثقافة.. ولكني إنما أحب أن أقرر أن اللغة العربية (تابعة) للإسلام وليست (متبوعة).. ولقد سمعت في داركم يومها حديثا يصرف الناس عن نشر الفكرة الإسلامية إلى نشر (الفكرة العربية) بل لقد قال مبعوث الأزهر الشريف حديثا يجعل الإسلام وسيلة (القومية العربية).. وذلك هوس زحم به المصريون المعاصرون رؤوس العرب، وأوشكوا أن يوردوهم به موارد الهلاك..
أما بعد، فإن يكن لا بد من التحدث عن مستقبل (الثقافة العربية) في السودان فإني أقول أن مستقبلها هو مستقبل نشر الفكرة الإسلامية في بساطتها، بالعودة بالناس جميعا إلى الشعار المبسط بقولك: (أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله).. الا أنه سيقولها أقوام ليسوا عربا، ولا يكادون يحسنون نطقها، كما قالها، من قبل، بلال الحبشي، وقلب شينها سينا، وقال المعصوم: (سين) بلال عند الله (شين) ثم لم يضره ذلك شيئا، فبلغ في الإسلام المبالغ، ونزل منه منازل التشريف.. ومستقبل نشر الفكرة الإسلامية، في بساطتها الأولى، في السودان، مستقبل مرموق بعون الله، وبتوفيقه..
محمود محمد طه