إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الكتاب الثاني من سلسلة رسائل ومقالات

الخير والشر... الفضيلة والرذيلة - تعقيب على الأستاذ كمال شانتير


كوستي 5/8/1961م
عزيزي شانتير..
تحية طيبة وبعد:-
فإنك، في بعض لقائنا في الخرطوم، قد لفت نظري إلى كلمة نشرت لك بجريدة: (الرأي العام).. ولم تكن قد أتفقت لي يومئذ، ولكني، لدى منصرفي، سألت عنها، ووفقت إليها، وعن لي، ساعتئذ، أن أكتب فيها إليك يوما ما، فاحتفظت بها، ولم يتح لي الوقت إلا اليوم.. كلمتك نشرت في باب (صور وألوان)، بعدد يوم 9/3/1961م، تحت عنوان (محاولات)، تحدثت فيها عن الخير، والشر، والفضيلة، والرذيلة..
ولقد كانت الكلمة مشرقة، تتسم بالحيوية، والذكاء، وتضطرم بالثورة – الثورة على قيود الفكر، وقيود التعبير – شانها، في ذلك، شأن كل ما يخرج من قلمك، وإني لأرجو الله أن يفتح بك فتحا يخصب به حياة الفكر، وحياة الشعور، لدى الإنسانية جمعاء..
بعد أن تحدثت عن خطيئة حواء تساءلت: (فلماذا، إذن، لم تكن بداية أفعال البشر فضائل؟؟).. ثم ذهبت تقول: (هناك إعتقاد بأن الفضيلة هي الغرض الجاهز، المفروض علينا توظيفه في أفعالنا، وذلك بأن الفضيلة، بطبيعتها، لا تكلف الإنسان شيئا.. فدخول الجنة اسهل، بكثير، من دخول النار.. وممارسة الفضيلة اسهل، بكثير، من ممارسة الرذيلة..) ..
(الفضيلة لا تحتاج إلى ذكاء.. ولا إلى ثقافة، ولا إلى إلحاح، لأنها طيبة، سهلة، طبيعية.. بعكس الخطيئة التي تحتاج إلى ذكاء، وإدراك، ورفض)، إلى آخر ما قلت في كلتيهما، ويبدو لي أن هناك خطأ أصيلا في تفكير المفكرين الذين استانست برأيهم في هذا الموضوع، كما ذكرت حين قلت: (هذه محاولة بسيطة لطبيعة اليمين، واليسار، في النفس البشرية، عند بعض المفكرين..) ثم إنك تقول: (ولكن من وجهة نظر نقدية، بسيطة، أيضا، سنجد أنه لا توجد فضيلة مطلقة، ولا توجد رزيلة مطلقة.. هناك فعل بشري يحتمل التقييمين، ولكل منا، في فعله، وجهة نظره الخاصة، وعلة رأيه، وسببه.. فالفضيلة، في لحظة، قد تنقلب رذيلة، في لحظة أخرى.. لأن الإنسان الذي يمارس الفعل محكوم عليه بالحرية.. وهو، دوما، في تعال، وصيرورة.. لهذا يستحيل أن يظل فعل الموقف المعين فضيلة مطلقة، لموقف آخر، وإنما يكون الفعل رذيلة لرذيلته في الموقف المعين فقط.. بذلك يمكن أن نكشف مدى الجفاف الثقافي لبعض النظريات، والفلسفات القديمة، والمعاصرة، عندما تنظر بعين المطلق إلى البشرية..) ..
هذا ختام كلمتك.. وأكاد أكون قد نقلتها برمتها، حتى لا يفوتني شيء مما تريد.. وحتى أذكرك بالكلمة، إن كان العدد قد ضاع منك..
أولا أحب أن تعرف أني معجب، وبدون تحفظ، بهذه العبارة: (لأن الإنسان الذي يمارس الفعل محكوم عليه بالحرية..).. ولست أبالي إن لم يحو مقالك غيرها، فإنها من جوامع الكلم، وجوامع المعنى، وجوامع التعبير، أيضا..
ولكن ما هي الفضيلة؟؟ وهل هي مقابلة، مقابلة تامة، للرذيلة؟؟ هل هي في أقصى اليمين، حين تكون الرذيلة في أقصى اليسار؟؟
الفضيلة ليست مقابلة للرذيلة، إلا لدى حديثنا عن القيم النسبية.. فإذا ما تناهت النسبيات إلى الأصول إتضح أن الفضيلة تقف وحدها في أرض الوحدة، لا يقابلها شيء ما، ذلك لأن الرذيلة فرع ينتهي في منطقة النسبية ولا يتعداها..
ما هي الفضيلة؟؟ هي حسن التصرف في ممارسة الحرية الفردية المطلقة!! وما هي الرذيلة؟؟ هي أحد ثلاثة أمور، مختلفة المستويات، هي إما الخطأ في ممارسة الحرية الفردية المطلقة، وإما النكوص عن إستعمال، أو قل عن ممارسة الحرية الفردية المطلقة، وإما سوء التصرف المتعمد في ممارسة الحرية الفردية المطلقة..

الأصل الفرد لا الجماعة


إن الأصل هو الفرد، لا الجماعة.. الفرد – أي فرد – هو الغاية، والجماعة هي الوسيلة إلى تلك الغاية – بخلاف رأي الشيوعيين، والفاشيين – ومن ثم فالحرية الفردية، المطلقة من كل قيد، أصل، ولكن ممارستها، والإستمتاع بها، يتطلب حذقا في الفهم، وسماحة في الخلق، يجنبان الفرد التعدي على حريات الأفراد الآخرين الذين يزاملونه في رحلة الحياة الطويلة، ويعينونه عليها.. فإذا قل هذا الحذق، وساء ذلك الخلق، إنحرف الفرد عن الفضيلة، وتورط في الرذيلة، وأخذ بالعقوبة، على حسب جرمه.. والعقوبة منصوص عليها في نظام مكون الكون.. وجماعها: (كما تدين تدان).. وقد عكستها قوانين الجماعة في صورة القصاص المعروفة، وما يتفرع عنها.. وفي بادئ ذي بدء كان الفرد البشري حيوانا سائما، لا يعرف الحدود، ولا القيود.. فلما استوى وأصبح لا بد له من أن يرتفع، عن طوق الحيوانية إلى بدء الإنسانية، قيد.. ففرض عليه: (الحلال، والحرام).. ذلك بأنه لا يمكن أن يرتفع عن مستوى الحيوانية إلا إذا بدأ بضبط نزوته، لأنه بذلك يبدأ السيطرة على نفسه، وتبدأ إرادته في الظهور.. وهذا هو السر في ظهور جرثومة الشريعة.. ولقد كنى القرآن عنها كناية هي في غاية اللطف، حين قال: (ويا آدم أسكن، أنت وزوجك، الجنة، فكلا من حيث شئتما، ولاتقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين..) فهما يأكلان من الجنة حيث شاءا، ليس عليهما إلا قيد واحد.. وليس القيد مقصودا في ذاته، بالطبع، ولكنه ضروري لإبراز قوة ضبط النفس، تلك التي تمثل أول مرقى من مراقي الإنسانية فوق وهاد الحيوانية.. فلما ضعفت حواء عن ضبط نفسها، وتبعها آدم، وقع سوء تصرف في ممارسة الحرية الفردية المطلقة، فكانت الرذيلة، وكانت العقوبة، من جنس العمل، وهي الحرمان من النعيم.. وقد حكى القرآن عنها بقوله تعالى: (قال اهبطوا!! بعضكم لبعض عدو.. ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين).. وإنما عبر عن العقوبة بالهبوط، فقال: (أهبطوا) لأنهما بفعلها، حين عجزا عن السيطرة على النفس، قد هبطا من مستوى البشر إلى مستوى السوائم.. فأنت ترى إذن أن الفضيلة ليس (أساسها القبول) كما تقول، وإنما أساسها الذكاء، والمجاهدة لضبط النفس.. وليس من الحق قولك: (فدخول الجنة أسهل، بكثير، من دخول النار.. وممارسة الفضيلة أسهل، بكثير، من ممارسة الرذيلة..) ذلك بأن ممارسة الرذيلة إن هي إلا إرسال النفس على هينتها تنحدر في دركات الحيوانية التي ما ارتفعت الإنسانية فوقها إلا بالدماء، والدموع، والعرق، في الآماد السحيقة، منذ فجر الحياة البشرية..

الفضيلة أصل والرذيلة فرع


والرذيلة إنما كانت فرعا، ولم تكن أصلا كالفضيلة، لأنها نتيجة خطأ.. والخطأ، أيا كان، فإنما هو نتيجة جهل.. وأنت تعلم أننا نتعلم بإستمرار.. وإنما نتعلم بأخطائنا.. فإذا ما مارسنا حريتنا الفردية ممارسة تامة فنحن معرضون لأحد أمرين: إما أن نصيب، وإما أن نخطئ.. فإذا ما أصبنا أصبح عملنا فاضلا.. وإذا ما أخطأنا أصبح عملنا رذيلا.. وتتفاوت درجات الفضيلة كما تتفاوت دركات الرذيلة.. فإذا ندمنا على خطئنا كان ذلك إيذانا منا بأننا قد إستفدنا من الخطأ، وانقلبت الرذيلة فضيلة بمجرد الندم عليها.. سواء أدفعنا ثمن الخطأ بعقوبة مادية، أم لم ندفعه..

الفضيلة حسن التصرف في الحرية


والحق أن مجرد ممارسة الحرية الفردية فضيلة.. والخطأ لا يجعلها رذيلة.. إلا إذا كان المخطئ قد أخطأ عن عمد، ثم هو لم يندم، ثم هو قد حاول أن يتهرب من مسئولية خطئه.. وهذا ما لم يحصل لحواء.. والقرآن يحدثنا عنهما فيقول: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا!! وإن لم تغفر لنا، وترحمنا، لنكونن من الخاسرين.. وأنت تسأل، بعد أن ذكرت خطيئة حواء: (فلماذا إذن لم تكن بداية أفعال البشر فضائل؟؟)..
وأنا أجيبك بأنها كانت فضائل.. ولم تكن رذائل.. ولقد قال النبي: (إن لم تخطئوا، وتستغفروا، فسيأت الله بقوم يخطئون، ويستغفرون، فيغفر لهم..) .. وهذا ما كان من حواء وآدم.. والحق أنه لا سبيل إلى الحرية إلا بممارستها، وتحمل مسئولية الخطأ في تلك الممارسة.. ولست أعرف تعريفا للديمقراطية أوفى من قولنا: (إن الديمقراطية هي حق الخطأ)..
وأنت تقول قولتك التي أعجبتني: (لأن الإنسان الذي يمارس الحرية محكوم عليه بالحرية) وتقول عنه: (وهو دوما في تعال وصيرورة).. والحرية هي قمة الخير.. فإن يكن الإنسان محكوما عليه بها فلا بد أن تكون القوة الحاكمة عليه بقمة الخير، ونهايته، هي خيرا مطلقا.. وإن يكن الإنسان دوما في (صيرورة) كما تقول، فإنه لا بد سائر، وصائر، إلى لا نهاية.. سائر، وصائر إلى المطلق من الكمال.. ومن ثم فإني لا أكاد أفهم لماذا تقول أنت: (بذلك يمكن أن نكشف مدى الجفاف الثقافي لبعض النظريات، والفلسفات، القديمة والمعاصرة، عندما تنظر بعين المطلق إلى البشرية..) .. إن هذا ليس جفافا ثقافيا، يا صديقي وإنما هو خصب، وإمراع، ما عليه من مزيد.. نعم!! فإن الإمكانات البشرية، في الترقي كلما ظهرت، وبأي شكل ظهرت، فإنما هي نسبية، وليست مطلقة.. ولكنها لا تستقر على حال، في أي جزء من أجزاء الزمن، مهما صغر، وإنما هي دوما في (صيرورة) على حد تعبيرك، تستهدف المطلق.. وتريد أن تجعل من كمالها المحدود، النسبي، كمالا مطلقا، وما هي ببالغة ذلك، لأن المطلق نهاية، بلا نهاية.. المطلق نستطيع أن نحلم به، ونستطيع أن نتخيله، ونستطيع أن نشعر، شعورا وجدانيا أكيدا، بوجوده، ونستطيع أن نسميه، ولكننا لا نستطيع أن نحيط به فهما.. وكلما أدركنا شيئا من صفات كماله غير المتناهي كلما ارتفعنا في سلم كمالنا النسبي.. نحن نسمي المطلق: (الله).. والله يخبر عن نفسه فيقول: (ليس كمثله شيء.. وهو السميع البصير..) .. فلكأنه يقول: أنتم أيضا سمعاء، وبصراء، فأنتم تشاركونني في صفتي السمع، والبصر.. والتحسين المستمر في هاتين الصفتين، وما إليهما، إنما هو (الصيرورة) المستمرة.. فكلما حسنتم من صفات كمالكم، إنكشفت لكم من صفات كمال المطلق آفاق جديدة، فاستهدفتموها في (صيرورتكم).. فنهاية (صيرورتكم) مرتبة (الله).. وهي مرتبة غير متناهية.. مطلقة..
لست أدري!! هل أوسعتك ثرثرة في هذا الكتاب؟؟ وهل زججت بك في ميدان لا تريده، وهو الدين؟؟ ولكن ما ذنبي، وأنت الذي بدأت بذكر حواء؟؟ ثم أني لا أكاد أجد، ((على طول ما بحثت في نتاج الفكر البشري))، غير الدين، منهاجا فكريا يصل بك إلى الأصول القائمة وراء ظواهر الشكول.. وفي الختام إليك تحية صديق معجب..

أخوك
محمود محمد طه
كوستي