أوما علمت أن الأرض قد إلتحقت بأسباب السماء - تعقيب على الأستاذ محمد محمد علي
جريدة الجمهورية 5/2/1954
أخي محمد .. تحيتي واحترامي ..
وبعد ، فقد قرأت لك كتابك القيم، الذي تعرضت فيه لمناقشة خطابنا إلى رئيس منظمة اليونسكو ، ولقد طابت لك نفسك أن تسوق كتابك الضافي تحت عنوان طريف: (تكرموا بإنزال الفلسفة من السماء إلى الأرض) ، وهو عنوان بارع يدل، من الوهلة الأولى ، على ما ينتظر القارئ من نظرة علمية ، وواقعية .. ولست أريد أن أطيل وقوفي هنا ، ولكني لا أحب أن أزايل مقامي هذا قبل أن أؤكد لك أن الأرض في تفكيري قد إلتحقت بأسباب السماء .. فلست أرى أرضا ، ولا سماء ، وإنما وحدة إتسقت فيها العوالم ، من الدراري ، إلى الذراري ، في غير تفاوت نوع ، وأكاد أقول: ولا تفاوت مقدار ، وإنما هو التعاون المتضافر على الدلالة على وحدة المعاني ، القائمة وراء تعدد الشخوص ، وتلك دلالة يستوي فيها جبريل ، وإبليس ، في البلاغة ، والتبليغ .. فإذا انحط النظر عن ذلك ، فإنما هو اللمح الذي يرى أوائل الأشياء وأواخرها ، ثم يسلسل ، في تنسيق متحد، مقدمات النتائج المبتغاة ، تسلسلا دقيقا ، لا يسبق فيه فاضلا مفضول ، وإنما هو القسط، والعدل ..
وأما قولك: (ولست أريد اليوم أن أناقش كل ما ورد في خطابك المثالي ، فسأتجاوز الحكومة العالمية ، لأني أعتقد أن الحكومة العالمية ، إذا قدر لها أن تقوم ، فسيكون قيامها نتيجة لحسم المشكلات ، والقضاء على المظالم .. ستقوم حين يقبر الإستعمار ، والإستغلال ، وتسود الناس روح المودة ، والعطف، فينظر المرء إلى أخيه بعين الإنسان ، لا بعين الذئب) ، فقول حصيف ، ولكنه لا يقال لمثلي ، لأنك تعلم أني أرى نفس الرأي ، وأعمل له ، في متقلبي ومثواي .. وأما قولك ، من نفس الفقرة ، المتقدمة: (فالتفكير فيها الآن وثوب إلى النتيجة قبل إحكام المقدمات ، وإعداد الوسائل) ، فقول ضحل ، وما أحب لك أن تتورط فيه.. وإلا فإنك تعلم ، كما أعلم ، أنك ، إن لم تفكر في النتائج ، لا تحكم المقدمات ، ولا تحسن التوسل ، وإنما تسير ونظرك تحت قدميك ، إما لهذا ، وإما لذا ..
واما تشككك في أن تكون فكرتي عن أثر الآلة في التعليم المعاصر ، ومناهجه ، مستقاه من إستقصاء لا مبالغة فيه ، فتشكك مردود ، لأنك لا تقيم عليه ، بل أنك ، في الحقيقة ، توافقني ، من حيث لا تريد .. فأنت تزعم: (أن المؤثر القوي في منهج التعليم ، وغاياته ، والإنتاج الفكري ، ليس الآلة ، ودقتها ، بل هو نوع الحياة الإقتصادية ، والإجتماعية ، الذي تخضع له الشعوب .. فالتعليم الذي تدعو إليه منظمة اليونسكو مختلف في وسائله ، وغاياته ، عن التعليم الذي تمارسه الكتلة الشرقية من أوروبا) .. وأنت بهذا الزعم تنظر إلى الشيوعية ، والرأسمالية .. ولكن ما قولك في من يخبرك أن الشيوعية ، والرأسمالية اللتين تعترف بقوة أثرهما على التعليم ، ومناهجه هما نفسهما ، أثر من آثار الآلة؟؟ فكأنك ، بزعمك هذا تنسب النتائج إلى نتائج ، ولا ترجع بها إلى الأسباب الأولى ..
وأما قولك عما عبته أنا عن أثر الآلة على التعليم ومناهجه: (ولكن ما رأيك إذا قلت لك أن هذا اللون من العادات الفكرية ، والملكات النفسية ، هو ما نحتاج إليه ، نحن الشرقيين ، ليحد من أطراف حريتنا المثالية الحالمة ، فهو ، على ما به من قتام ، وآلية ، ثمرة ، مهما يكن طعمها ، من ثمرات العلم ، والنظرة الموضوعية .. وهو ، وإن لم يكن المثل الأعلى للحياة ، فإنه أقرب إليه من أحلامنا الهائمة ، وجبريتنا الصوفية) ، فقول حسن ، ولكني أحب لك ، وللشرقيين ، أحسن منه حين أدعو إلى النهج الذي: (يؤلف بين القيم الروحية ، وطبائع الوجود المادي ، تاليفا متناسقا ، مبرأ ، على السواء ، من تفريط المادية الغربية التي جعلت سعي الإنسانية موكلا بمطالب المعدة ، والجسد ، ومن إفراط الروحانية الشرقية التي أقامت فلسفتها على التحقير من كل مجهود يرمي إلى تحسين الوجود المادي بين الأحياء ..) وأنا لم أزعم قط أن: (معين العطف ، والشوق ، والنزوع إلى حياة أفضل ، وأكرم ، من الحياة الماثلة) ، قد نضب في نفوس البشر .. فالناس عندي ، كما عندك ، (مذ كانوا أبناء حاضرهم ، ورواد مستقبلهم) .. ولكن على تفاوت بينهم في الرياد .. فمن الناس من لا يرى إلى أبعد من أنفه ، ومنهم من تنجاب عن بصيرته سحب الظلمات ، وحجب الأنوار ، فيرى ورود الحياة ، وصدورها ، ويرى سيرها فيما بين ذلك..
وأما قولك: (وعندما كان عماد الحياة الحيوان فإن إنتاج الناس، في الحياة المادية ، والفكرية ، كان متأثرا بالحيوان ونشاطه ، مستشرفا إلى حياة أرقى ، وأكمل ..) ، إلى قولك (وقد حلت الالة اليوم محل الحيوان ، فهي لا بد مؤثرة في إنتاج المنتجين ، وهي لا بد عاجزة ، كما عجز الحيوان ، من قبل ، عن السيطرة على جميع الدوافع النفسية ، والحواجز التي تدفع بركب البشرية إلى الأمام) ، فقول يعجبني ، ويسرني ، ولكني لا أجده ردا علي .. فإني إنما صورت الأثر الغالب على مناهج التعليم ، وغاياته ، في عصرنا ، هذا الآلي ، وقلت: (وكذلك أصبح التعليم مهنيا في أكثر أساليبه) .. ولم أقل أن الآلة استأثرت بجميع الدوافع التي تدفع بركب البشرية إلى الأمام، ولذلك فإن قولك عني: (فالصورة التي رسمتها للتعليم، والإنتاج ، تحمل الشيء الكثير من أعراض التشاؤم) قول مردود .. فإن أملي في مستقبل البشرية لا يدع مجالا للتشاؤم .. وهو أمل لا يقوم على الظن ، وإنما يقوم على يقين لا أرتاب فيه ، وعندما بدا لك ، في خطابي شيء منه يسير ، ظننته أنت مما يدخل في باب (اليوتوبيات) ..
وأنت تزعم أن نوع التعليم الذي أدعو إليه في خطابي غير مفهوم .. وأرى من حقك علي أن أكون مفهوما .. (فغاية التعليم عندي أن يحرر الإنسان من الخوف .. وتحريره إنما يكون بتصحيح تلك الصورة الخاطئة ، الشائهة ، التي قامت في خلده عن الحياة ، وعن قانونها) .. وهذا قول تقرني أنت عليه ، ولكنك تقول: (وللقارئ الحق في أن يفهم أنك تدعو إلى التربية الطبيعية ، وإلى سيادة العلوم الطبيعية .. فالعلم وحده هو الذي يستطيع ، بقدر ما وصل إليه من كشف ، أن يعطينا صورة صحيحة عن أصل الحياة ، وقوانينها، وأن يقصي عن أذهاننا ، الصورة الأسطورية الشائهة) .. وأنا فعلا أدعو إلى التربية العملية ، وإلى سيادة العلوم الطبيعية .. والذي نريده حقا ، اضافة إلى علم الظواهر ، هو علم ما وراء الظواهر ، فإنه وحده الذي يطلع على الحقائق التي ، بالإطلاع عليها ينتفي الخوف .. ولقد فصلنا رأينا عن هذا التعليم ، وعن تعليم العلم التجريبي ، في كتيب الجمهوريين: (قل هذه سبيلي) ، الذي صدر منذ حين ، تفصيلا يغنينا عن الإسهاب هنا .. فأرجو أن ترجع إليه لتعلم مبلغ الخطأ في قولك: (وهذا الضرب من الخوف لا يعنينا في مشكلة التعليم .. وهو ، إذا كان معتدلا ، أمر لا بد منه لحفظ الذات من الكوارث ، وليس من الخير أن نستأصله استئصالا ، فالخوف من المكروب ، والخوف من الحريق ، إلخ مهم ، وسلاح لا بد من حمله) ..
وأما قولك: (والعلم عندك كامن في النفس أيضا ، بل هو جوهر النفس ، مغلف بطبقة كثيفة ، مظلمة ، من الأوهام ، والخرافات ، والمخاوف ، الموروثة .. وهنا يبرز أفلاطون صريحا يتحدث إلينا في خطابك) ، فهو قول مؤسف حقا .. فأنت شاب مثقف ، مسلم ، ولا تعرف هذا القول الذي تنكره إلا عن طريق أفلاطون .. ليت شعري!! فأين يذهب بك عن قول الله تعالى: (كلا!! بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ..)؟؟ وعن قوله تعالى: (لقد كنت في غفلة من هذا ، فكشفنا عنك غطاءك، فبصرك اليوم حديد..)؟؟
وانت تورد قول أفلاطون: (إن العلم تذكر النسيان) وتزعم أن أرسطو قد قضى ، قضاء مبرما ، على علم النفس الأفلاطوني .. فما رأيك في قول القرآن: (ولقد يسرنا القرآن للذكر .. فهل من مدكر؟؟)؟؟ هل قضى عليه أرسطو أيضا ، قضاء مبرما ، أم أنت لا ترى منه ما أراه؟؟
وتسألني: (فماذا فهم الرجل ، وربك ، من هذه القصة ذات القشرة ، ومن المادة التي صنعت منها الأحلام ، وصنع القرآن؟؟) واجيبك: إن هذا لا يعنيني ، بقدر ما يعنيني أن أسجل ما أراه الحق ، وأن أدعو إليه .. وسيهتدي به أناس ، وسيضل به آخرون ..
وتسألني: (لو فرضنا أن وصفك الشعري ينطبق على القرآن ، ألا يمكن أن ينطبق على جميع الكتب الدينبة ، وعلى الفنون ، وعلى الميثلوجيا ، أيضا؟؟) والجواب قريب ، وهو أن الكتب الدينية جميعا والفنون ، والمثلوجيا ، كل أولئك معارج من معارج الحق ، على تفاوت بينها ، في القرب والبعد ، وكل ما هناك أن القرآن مهيمن عليها جميعا وجامع لما تفرق فيها ، من أشتات الحقائق ، فهو أعلاها مرتبة ، واقربها إفضاء إليه فما ينطبق عليه ينطبق عليها ، على تفاوت بينها، في الشمول والقصور ..
أما بعد، فإني أشكر لك خطابك الممتع حقا .. وأؤكد لك أن نشاطي الذهني لا يذهب في المجاري التي لا تعدو حدود التأملات الفردية ، ولا الفروض المثيرة للجدل العقيم، وإنما أنا طالب حق أبتغيه في مظانه ، ثم لا أماري فيه ، إلا مراء ظاهرا .. وأنا موقن، كل الإيقان ، أن هذا الوجود قائم على الحق ، وأن الباطل فيه عارض من عوارض النقص ، فلا يلبث ان يزول .. وأن هذه الأرض قد إلتحقت بأسباب السماء، فلا يصلحها ، منذ اليوم ، إلا تشريع يقوم على الحق الذي لا مراء فيه ..
وتسألني ما الحق الذي لا مراء فيه؟؟
وأجيب: إنه الإرادة المتوحدة ، التي انفردت بالهيمنة على الظواهر الطبيعية ، في الأرض ، كما في السماء، وهدت الحياة سبيلها ، في النور كما في الظلمات ، ثم استعصمت بخفاء لا يعين على استجلائه غير قرآن الفجر .. (إن قرآن الفجر كان مشهودا) ..