التعليم: خطاب إلى عميد معهد بخت الرضا الأستاذ عثمان محجوب
كانت وزارة المعارف ، في أواخر عام 1958 ، قد إستدعت لجنة تجلس في الخرطوم ، فترفع ، توصياتها بخصوص السلم التعليمي .. فكانت لجنة عكراوي .. وكان الأستاذ عثمان محجوب ، عميد معهد بخت الرضا يومئذ ، معنيا بهذه اللجنة ، بصورة خاصة ، وقد طلب إلي أن أحاول تقديم بحث عن التعليم بمناسبة إنعقاد جلسات هذه اللجنة .. فكانت النتيجة هذا الخطاب:-
الخرطوم في 24/12/1958
عزيزي عثمان:
تحية طيبة ، وأرجو أن تكون قد وصلت بخير ..
وبعد ، فبالإشارة للمحادثة ، قبيل سفرك ، فإني أرسل إليك ببعض ما أرى في مسألة التعليم ، وأرجو أن يكون له في نفسك وقع حسن .. فإني أرى أنه لا بد ، لتخطيط مناهج التعليم ، من الرجوع إلى الأصول ، إذا ما أردنا تعليمنا أن يكون مثمرا، ونافعا .. والنظرة العجلى للأصل تدلنا على أن مناهج التعليم التي نرسمها يجب ، قبل كل شيء ، أن تهدف إلى تعليم الطالب كيف يعلم نفسه ، وكيف يكلف بمواصلة هذا التعليم ، طوال حياته ، التعليم الذاتي .. وأما حشو ادمغة الطلبة بطائفة مختارة من المعلومات المتنوعة ، والكثيرة ، والتي يجلس أحدهم ليجوز الإمتحان فيها ليواصل سيره في المراحل المختلفة فإنها طريقة فاشلة ، وفي الحقيقة ، مضرة .. والواقع أن الحياة نفسها تتطلب من الإنسان أن يظل طالب علم طوال حياته .. فإن نحن إستطعنا أن نعطيه ، في التعليم النظامي الذي تقيمه الحكومات المتمدينة ، الأسلوب العلمي الذي به يستطيع أن يعلم نفسه فقد أعددناه للحياة الإعداد المطلوب ..
إن فائدة التعليم لهي في مقدرة المتعلم أن يوائم بين نفسه وبين بيئته .. ووظيفة التعليم إنما هي أن يأخذ المتعلم صورة كاملة وصحيحة عن البيئة التي يعيش فيها .. ولقد أشرت آنفا إلى الأصول ، وقلت لا بد من الرجوع إليها ، إذا ما أردنا أن نخطط مناهج التعليم ، تخطيطا رشيدا .. وأول ما يجب تقريره ، في الأصول ، أن الإنسان لا يختلف عن الحيوان إختلاف نوع ، وإنما هو اختلاف مقدار .. ومعنى هذا أن الحيوان قابل للتعليم ، وأن الإنسان قابل كذلك ، غير أن قابلية الإنسان تفوق قابلية الحيوان عدة مرات .. والإنسان بغير تعليم ، لا يتميز عن الحيوان ، إلا قليلا ..
وهذا القليل إنما يأتيه ، خلاف الوراثة ، من قبيل أنه ، بخلاف الحيوان يعيش في مجتمع منظم بعرف ، وتقاليد ، وقانون .. فهو يخضع ، في حدود كبيرة ، لنظام الجماعة ، وفي أثناء خضوعه يتعلم ، ويتهذب ، ويمارس السيطرة على نفسه ، بفضل العرف ، والتقليد ، والقانون ..
والإنسان، قبل أن يعيش في المجتمع، كان حيوانا فرديا فاضطرته قسوة الحياة، في بيئته الطبيعية، أن يخترع نظام الجماعة، وأن ينزل عن قسط كبير من حريته الفردية، فيضبط غرائزه البدائية، مراعاة لحريات الآخرين .. وليس، بالطبع هناك إنسان بعينه، في زمان بعينه، جلس إلى نفسه فاخترع نظام الجماعة، وإنما هو تراث بشري طويل، لم يجيء دفعة واحدة، في زمن واحد، وإنما جاء على تراخي الزمن، وبحكم التطور البطيء جدا، في سحيق الآماد، ثم فرض على الأفراد فرضا، فاضطرهم إلى السيطرة المتمدنة إضطرارا .. فإن عيش الفرد في المجتمع يفرض عليه قواعد سلوك خاصة، في الكسب وفي الإنفاق ، وفي السيرة العامة بين الناس، وقت السلم، ووقت الحرب.. وفي الزواج، وفي بناء الأسرة، وفي إعالتها وحمايتها، إلى غير ذلك .. وهذه القواعد، المرعية بالعرف حينا، وبالقانون حينا آخر، تكون جرثومة الحضارة البشرية، ولها فضل كبير في تعليم الأفراد، وتهذيبهم، قبل أن ينشأ التعليم النظامي الذي نعرفه اليوم ..
ولقد نخرج مما تقدم بمقدمتين:
1) إن الحرية الفردية لدى الإنسان هي الأصل ..
2) إن الحرية الجماعية لا تقوم إلا على الحد من الحرية الفردية وهي، في الحقيقة، وسيلة إليها، وليس بينهما، في حقيقة الأمر، تعارض، وإن بدا هذا التعارض، لدى النظر القصير..
ومن هاتين المقدمتين نتوصل إلى نتيجة واحدة وهي:-
1) أي تعليم يجب أن يمكن الفرد من التحقيق التام للتوفيق بين الحرية الفردية، والحرية الجماعية، حتى لا يعيش في عداء مع نفسه ومع مجتمعه .. والحق أن الفرد الذي يستطيع أن يعيش، عيشة فردية ، مستقيمة ، حرة، خصبة، منتجة، يستطيع أن يعيش في المجتمع فيكون مفيدا، نافعا، منتجا .. بل أنه ليستمد سعادته الفردية من إسعاد الآخرين ..
فإذا كان ما تقدم صحيحا فقد يبدو أن التعليم يجب أن يقع في قسمين كبيرين:-
1) التعليم المهني . 2) التعليم الخلقي ..
أما الأول فضروري، لأن المجتمع لا يخدم، خدمة نافعة معينة على التقدم والتمدن، إلا بفضل المهارة المهنية .. هذا إلى جانب أهمية المهارة المهنية للحرية الفردية نفسها، ذلك بأن الإنسان، بالعمل المتقن، يحقق شخصيته، ويصحح رأيه في نفسه، ويوجد التجانس، والتوحيد، بين عقله، وجسده، هذا بفضل المجهود الموحد الذي يتطلبه العمل المتقن من كل من اليد، والعين والعقل، في آن واحد ..
وأما التعليم الخلقي فضروري، لأن المجتمع لا يعاشر بشيء كما يعاشر بالخلق .. والحق أن القانون نفسه طرف من الأخلاق .. وهذا إلى جانب أن الخلق يجعل الفرد يحسن التصرف في معاشرة مجتمعه بطريقة تلقائية، لا يراعى فيها جانب القانون، ولا الخوف من العقوبة التي تترتب على المخالفة .. فيكون سلوكه، في المجتمع مستمدا من قيمه الخلقية، ومن محاسبة ضميره إياه، لا من خوف العقاب .. وهذا لمما يحقق الحرية الفردية العالية، ويحقق التوفيق بين حرية الجماعة وحرية الفرد .. ويفض التعارض البادي بينهما، لدى النظرة القصيرة ..
1) التعليم المهني
وأعني بهذا كل تعليم يعين على إتقان عمل جسدى، بصرف النظر عما إذا كان حظ الفكر في العمل أكبر، كالبحث العلمي التجريبى في المعمل، مثلا، أو كان حظ البدن أكبر، كأعمال النجارة في الورشة، مثلا.. فإنى أسمى كل هذه الأعمال مهنية .. يستوى عندى فيها الفلكى والرياضى ، والعالم الطبيعى، والطبيب، والمهندس، والنجار والبناء .. كل أولئك مهن، وكلها يتطلب إتقانا، ومهارة، مما يوجب التدريب، والتمرين .. وبالطبع فإن كل مسئول عن التعليم المهنى يجب أن يعطى المتعلمين أقصى قدر ممكن من التدريب، والتعليم النظرى، حتى يبلغوا، بإتقان مهنهم، المبالغ.. ولكن ذلك لا يكون يسيرا ولا ميسورا .. وحسبنا أن البشرية سائرة، في كل حين، نحو الإتقان، والتجويد .. وفي بلد كبلادنا فإنا بحاجة ماسة إلى البدايات نفسها، لأننا قل أن نعمل هنا عملا، في الوقت الحاضر، بطريقة عملية، متقنة، إلا في القليل النادر..
سيكون تعليمنا المهني مقيدا بثلاثة قيود:-
1) إمكانياتنا المالية .. 2) مواهب أطفالنا .. 3) حاجة البلاد لأنواع المهن المختلفة ..
1) وأعنى بالإمكانيات المالية: مقدرتنا على بناء دور العلم واستجلاب المعدات الضرورية للبحث العلمى، وإعداد المدرسين، المدربين تدريبا كافيا .. هذا إلى جانب رفع مستوى حياة المواطنين عامة وتحسين حالة الأسر الصحية، والعقلية ..
2) واعنى بمواهب أطفالنا عدد المؤهلين منهم، بالفطرة، ليكونوا مهندسين مهرة، وأطباء مقتدرين، ورياضيين ضليعين .. فإنا يجب أن نكتشف الموهبة الطبيعية ، في كل طفل ثم نعمل على تنميتها ، وتثقيفها .. فإنه ليس في طوق كل طفل أن يكون طبيبا .. وإذا حاولنا أن نخلق من الموسيقار الموهوب، مثلا، طبيبا، قديرا، فإنا قد نضيع الموهبة التى فيه، ونضعه في غير موضعه ، ونضيع بذلك، على المجتمع عدة مزايا .. فيجب، إذن، إكتشاف المواهب أولا، ثم تشجيعها بالتعليم، والتثقيف، لتبرز خير ما فيها لمصلحة صاحبها، ولمصلحة المجتمع برمته .. يستوي في هذا بالطبع الرجال، والنساء ..
3) وأعني بحاجة البلاد لأنواع المهن المختلفة: أننا يجب أن نوجه التعليم المهني، بعد أن نكشف عن المواهب الطبيعية لدى الأطفال الذين بين أيدينا، فنوجه لمهنة الهندسة المدنية ما نعتقد أننا سنحتاجه في كذا من السنين ، وكذلك للطب، ولغيرهما من المهن .. وغرضنا وراء ذلك بالطبع رفع مستوى معيشة المواطنين، من جميع وجوهها: المادية ، والصحية، والعقلية، مراعين في ذلك المساواة، من جميع هذه الوجوه، بين جميع المواطنين ، سواء كانوا في الحضر، أو في البادية .. ويجب ألا ننشئ المدن الكبرى على حساب الريف، فنترك بعض المواطنين رحلا، كما هم، ثم نطور المدن تطويرا يجعل البون شاسعا بين الحضريين والبادين بل يجب أن نعمل على توطين البادين من مواطنينا، بتوفير مياه الشرب لهم، ولمواشيهم، وبإعداد المراعي المستديمة، بطرق الرى الحديثة، وبحفظ العلف، بالطرق الفنية الحديثة حتى يستقروا في مكان واحد، وحتى يربوا مواشيهم بالطرق العلمية الحديثة .. نهتم بالكيف ، أكثر مما نهتم بالكم ، وبذلك نستطيع أن ننشر التعليم ، والتمدين ، بينهم، بنفس المستوى الذي ننشرهما به في المدن .. وكل ما هناك، من فرق، إنما يكون فرق مقدار، لا فرق نوع، ذلك بأن التعليم المهني للأرياف سيكون في سبل الزراعة وتربية الحيوان، وتصنيع منتجات الحيوان، ومنتجات الزراعة، بينما التعليم المهني في المدن قد يكون في الصناعة، والتجارة، وما شابههما وطبعا هذا لا يعني ألا يتعلم سكان الأرياف ما يتعلمه سكان المدينة، ولكن يعني أن نوع تعليمهم، في الغالب الأعم، وعلى الخصوص في البداية، سيكون المقصود منه إعدادهم لبيئتهم إعدادا نافعا .. وما يقال هنا عن الأرياف يقال مثله عن المدن ..
أقترح ألا يكون عمل لجنتكم قاصرا على جانب التعليم وحده لأن التعليم إنما يمارس في المجتمع .. وهناك مسائل كثيرة تؤثر على المجتمع، وتؤثر، من ثم، على التعليم .. فإذا ما أهملت هذه المسائل الكثيرة، ثم إقتصر الكلام على التعليم وحده ، فلن يكون مثمرا، الثمر المطلوب، لأن الطفل لا يجيء للتعليم إلا بعد أن تكون المؤثرات الأولى على شخصيته قد عملت عملها فيه، مما لا يستطيع التعليم، فيما بعد، أن يصحح ما أفسدت .. وهذه المؤثرات الأولى تجيء من بيئته المنزلية، ووسطه في الحارة، والشارع، والحي .. ثم أن الطفل لا يكون في المدرسة إلا جزءا يسيرا من يومه ، يعود بعده إلى هذه البيئة التي يكون أثرها عليه، دائما، أبلغ من أثر المدرسة ولذلك فيجب على رجل التعليم أن يعني، بعض الشىء، بهذه البيئة، وإن كانت، في تفاصيلها، تخص رجالا آخرين، غير رجال التعليم ... ولكن يجب أن يتضافر مجهود كل الهيئات لينتج الرجال الصالحين للغد من أطفال اليوم .. وأنا شخصيا أعتقد أن وزارة المعارف في البلاد يجب أن تكون أكبر وزارة، وأن يكون لها إشراف تام على (المورد البشري) عندنا، لأنها هي التي سترعى نوعه، وتتعهده بالتهذيب الذي بدونه لا يكون الإنسان خير حالا من الحيوان ..
يجب أن يكون من حقها الأشراف على الأطفال من قبل أن يولدوا وذلك بتنظيم الزواج، والتأكد من أن الفتى والفتاة، اللذين ينويان الزواج صحيحان، وخليقان، بأن ينجبا أطفالا أصحاء .. ثم برعاية الأمومة، أثناء الحمل .. ثم برعاية الطفولة، في السنين المبكرة .. ثم باستلام الطفل في سن أبكر مما نفعل اليوم .. يجب أن تكون لنا مراحل من التعليم تأخذ الأطفال في سن الخامسة مثلا .. على أن يكون التعليم مختلطا بين البنين والبنات، ومعدا في كل قرية من القرى .. وليكون ذلك عمليا فيجب تجميع البيوتات القليلة في القرى الصغيرة على بعض في موضع مناسب، حتى تنشأ منها قرية محترمة، مخططة تخطيطا صحيا حديثا، وبها تنهض جميع المرافق الضرورية كالسوق، والمدرسة والشفخانة ومنشآت الماء الصالح للشرب ..
التعليم الأولي
1) يبدأ من سن الخامسة .. ويكون إلى سن السابعة بالتلقين، وتوجيه النشاط الطبيعي عند الطفل بواسطة اللعب، وباستعمال الدمى، والصور، وبتشجيع الأطفال ليبنوا، من الطين، أشكالا تعبيرية من الحيوان، وخلافه .. ويجب ألا يعلموا القراءة بالمرة في هذه المرحلة حتى تتسع الصور، والمعانى، في أذهانهم ، بوسائل التعبير المحسوس من الصور، والأشكال، ومن القصص، والأحاجى الشيقة، الرشيدة . ذلك بان تعلم الكتابة بدون أن يشعر المتعلم بالحاجة إليها للتعبير عما في نفسه يحجر الفكر، ويحد الخيال، ويكاد يجعل الكتابة كأنها غاية في نفسها .. يجب أن يقوم بالتدريس، في هذا الطور، المعلمات المثقفات ..
2) يقوم هذا التعليم، في كل قرية، من بنايات بسيطة، من القش، والطين، ينشئها المواطنون أنفسهم بالتعاون (النفير) .. وتقدم، في هذه المرحلة للأطفال وجبة من الطعام الصحى، المناسب، وشىء من الحلوى، والبلح، واللبن ..
3) بعد السابعة يبدأ تعليم القراءة والكتابة .. ويكون التعليم مختلطا أيضا .. وفي بنايات من نوع البنايات في تعليم رياض الأطفال المذكورة أعلاه .. يبنيها المواطنون ، في كل قرية (بالنفير) .. ويحافظون عليها ، ويصونونها، كل حين .. ويقوم بالتعليم، إذا أمكن، المعلمات أيضا .. ويستمر العمل اليدوي بخلق الأشكال المعبرة من الطين، إلى سن العاشرة، حيث يدخل، في المدارس، التعليم المهني كبناء المنازل، وإعداد الأثاثات .. ويبدأ، بصورة أقرب إلى اللعب، بنماذج متناسقة، من الطين، ومن الخشب، ومن الورق المقوى .. ويلاحظ، في أثناء هذه المراحل، المواهب، والميول الطبيعية، عند كل طفل .. وسيكون هذا الطور طور تفتح، وتنبه، لأساليب من الحياة جديدة . تقوم هذه المرحلة في منازل أجمل، وبأثاثات أجمل، من منازل القرية وأثاثاتها، وتتخذ من المواد البسيطة، الموجودة محليا.. هذا الطور هو طور تفتح الخيال، فإذا ما وجه توجيها خلاقا إستطاع أن يكون عمليا، ومطور للحياة لأحسن، فأحسن.. ويتولى التعليم في هذا الطور المعلمون، والمعلمات.. ويكون تعليما مختلطا.. لا يفترق فيه البنون عن البنات، إلا في حصص التعليم المهني، لأن للبنات تعليما مهنيا غير تعليم البنين ويجب التركيز على التعليم المختلط، لأننا نرمي لحياة طبيعية، حيث لا يكون الرجل في حيز والمرأة في حيز آخر، كما هي الحال عندنا اليوم..
4) من العاشرة إلى السادسة عشرة تكون مرحلة التعليم النهائية لجمهرة البنين والبنات من الذين لا يستطيعون مواصلة مراحل التعليم الرسمي في المدارس، وذلك لضيق الأماكن، في المراحل العليا، كما هو محقق أن يكون، في بداية الأمر، بالنسبة لضيق مواردنا.. وفي هذا الطور بين العاشرة، والسادسة عشرة يمكن أن ينفصل البنون في مدارس خاصة بهم، والبنات كذلك.. ويتولى التعليم المعلمون في مدارس البنين، والمعلمات في مدارس البنات.. ويتسع التعليم المهني، ويشمل، بالنسبة للبنات، تدبير المنزل، من غسيل، ومكوة، وتفصيل ملابس، وتطريز، وخياطة، وطهو الطعام، ومعرفة القيم الغذائية في المأكولات المتوفرة محليا، وصحة الأسرة، والأطفال بشكل خاص، والتمريض، وطرف صالح من العادات الإجتماعية الحميدة.. وبالإختصار تتعلم كل ما يعدها لتكون زوجة صالحة.. وتعلم الأولاد في مدارسهم في هذه المرحلة، طرفا صالحا من المهن المختلفة التي تجعل منهم رجال صالحين واسعي الحيل – يستطيعون أن يخلقوا من ظروفهم المحلية ظروفا لحياة أرقى مما وجدوا عليها آباءهم، ويعدون، بدورهم، في هذا الطور، ليكونوا أزواجا صالحين..
5) بعد نهاية التعليم الأولي، في سن السادسة عشرة يكون هناك تعليم جامعي، شعبي، في الأمسيات، لمن يريد.. وتكون هناك أندية للصبيان، وللصبايا، تواصل إرشادهم وتثقيفهم وتهذيبهم..
التعليم فوق الأولي
1) يتوخى في هذا أن يكون متوفرا لأكبر عدد ممكن من الأولاد، والبنات.. ولا يشترط فيه أن يكون جامعيا، في طور بلادنا الحاضر، بل يكفي فيه أن يكون ثانويا.. أن يتوفر حتى يستطيع إستيعاب كل من يستحقه.. وهو عبارة عن إمتداد للتعليم الأولي.. وأعتقد أننا يجب أن نرجئ التعليم الجامعي لفترة مقبلة، بعد أن تتسع إمكانيات البلاد المادية.. وبعد أن تتسع القاعدة بالتعليم الأولي، والثانوي.. وفي ذهني الآن تعليم عام فوق التعليم الثانوي الحاضر، ودون التعليم الذي يجري الآن بالمعهد الفني، على أن يعمم، كما قلت، حتى يشمل جميع المواطنين.. وفي هذه الأثناء نسد حاجة البلاد للخبرة الفنية العالية ببعث الطلبة النابهين جدا إلى الجامعات الخارجية، ليتعلموا إلى نهاية كبيرة، فنون الهندسة، والطب، والرياضة، الزراعة، وتربية الحيوان، والنبات، والزهور، والموسيقى، إلى آخر ما هناك، ليعودوا فيبسطوا كل أولئك بطريقة تجعل كثيرا منها يمكن تلقى طرف صالح منه في المراحل الأولية، مما يعين المتخرجين على النهوض بحياة القرى والأرياف ..
2) في هذه المرحلة، من مراحل التعليم، تخصص الأعداد المطلوبة من المهن المختلفة، حسب حاجة التعمير، وحسب المواهب الطبيعية الموجودة لدى الطلاب، على أن تجعل، في المصالح المختلفة، وسائل للتدريب المهني لإكساب الخريجين فيها المزيد من الخبرة العملية.. وعلى أن تكون هناك فرص للنابهين من المهنيين ليزوروا البلاد الخارجية في بعثات علمية مما برزوا فيه من فن ..
3) لهذه المرحلة يمكن إعداد الكتب المدرسية المترجمة من اللغات الأجنبية، ويجب أن يكون جميع التدريس باللغة العربية، ولا يشرع في تعليم لغة أجنبية إلا للمبرزين الذين سيبعثون إلى الخارج لتلقي المزيد من التدريب العلمي، والفني ولهؤلاء يمكن أن يشرع في تعليم اللغة الأجنبية – الإنجليزية في بداية التعليم فوق الأولي.. وهذا يعني أن يكون هناك إتجاه لإعداد هؤلاء في فصول خاصة تبدأ بنهاية طور التعليم الأولي أما سائر الطلاب الذين يتلقون تعليما فوق الأولي فيجب أن تكون دراستهم باللغة العربية.. ولا يغيب عن بالي الصعوبة الكبيرة في إعداد هذه الكتب المترجمة.. ولا يغيب عن بالي أيضا تدريب المدرسين والمدرسات، المطلوبين لمثل هذا البرنامج الكبير.. ولكن، على الأقل، البداية ممكنة.. ويجب التخطيط المرسوم ليجيء اليوم الذي يتم فيه إعداد الكتب المترجمة والمؤلفة المطلوبة.. وكذلك تدريب المدرسين والمدرسات، بالعدد الكافي للحاجة إليهم ..
التعليم الجامعى
(1) إن التعليم الجامعى الحاضر باهظ التكاليف جدا.. وهو غير كبير الجدوى للبلاد.. بل إن الخريجين والجامعيين يكونون طبقة جديدة لا تأبه كثيرا بحالة البؤس التي يعاني منها الشعب، وهم على التحقيق، غير قادرين على السكن في القرى، والأرياف، حتى يستطيعوا أن يتفهموا حالة مواطنيهم، ويعينوا على تطوير حياة الريف.. ولو أوقف هذا التعليم الجامعي الحاضر، وأستعين بما ينفق عليه، في الوقت الحاضر، لتوسيع قاعدة التعليم، وتركيز مراحله، على النحو الذي إقترحت أعلاه، لكان ذلك أفيد للبلاد..
2) عندما يتركز التعليم، ويرتفع مستوى المواطنين، العقلى والصحى، والإجتماعى، والإقتصادى، بفضل ما يبذله خريجو معاهدنا التى ذكرت تنظيمها آنفا، يمكن أن نرتقي الى تعليم جامعي ينبت من طبيعة أرضنا، وتفكيرنا، وشخصية قومنا، ثم يتلقى ما يتلقى من أفكار غربية ووشرقية، فيهضمها، ويجعلها سودانية أصيلة. أي يستطيع أن ينظر إلى العالم الشرقي، والغربي، من وجهة نظر سودانية، وبذلك يكون تعليمنا أصيلا، لا دخيلا.. ويكون خريجونا إنسانيين، سودانيين، أصلاء يسعون لإسعاد قومهم، ولإسعاد البشرية عامة، كعمل طبيعى، في غير تكلف ولا رياء..
التعليم الخلقى
أولا يجب أن يفهم النشء بالأخلاق، بدون ان نسميها أخلاقا.. يجب أن يكون تعليمنا بالقدوة، لا بالكلام.. والدين، من حيث هو، من أكبر وسائل تعليم الخلق الجميل، والدين الإسلامى، بشكل خاص، على ألا يكون تعليمه مستقلا عن النشاط اليومى، في التعليم المهنى، أو في الألعاب أو خلافه، وإنما يكون متلبسا بكل أولئك. يجب ان يعلم الدين بسير الرجال الصالحين، حتى ولو كانوا غير مسلمين، فبإبراز قيم السلوك الإنساني التي عاشها العظماء، من مسلمين، وغير المسلمين ترسخ في أذهان الطلاب النماذج البشرية الممجدة..
ثم يجب أن تكون حياة المعلمين نموذجا حيا للخلق القويم.. ويجب الحذر، كل الحذر، من فصل التعليم إلى، تعليم ديني، وتعليم مدني، ينتظر فيه من رجال الدين، من إستقامة الخلق، ما لا ينتظر من رجال التعليم المدني.. إن الأخلاق، في حقيقتها، هي حسن التصرف في الحرية الفردية، وهي بذلك حق على كل فرد.. ويجب علينا جميعا أن نعين بعضنا بعضا على تحصيلها وذلك لأهميتها الفردية، والجماعية.. ولما كان الدين عامة، والإسلام خاصة، أكبر أسلوب يعين على تحصيل الأخلاق، بوصاياه، وبقرآنه، وبعبادته، وبسيرة نبيه، وأصحابه، وجب علينا أن نولي الدين إهتماما خاصا، لنحقق به التربية الخلقية.. على أنا يجب أن نميز بين القضايا الفقهية التي تلقن في المعهد الدينية الحاضرة، وبين (روح الدين) فإن روح الدين البسيطة، المنبعثة من القول البسيط (لا إله إلا الله)، هي شعار التربية لأنها تدعو إلى الحرية، وترسم الطريق إلى الخلق الذي يليق بالأحرار، وهو ما عنيناه بحسن التصرف في الحرية الفردية..
وأما تعلم القضايا الفقهية، على نحو ما يمارس في المعاهد الآن، فهو مهنة، كسائر المهن، ولا يحتاجه المجتمع الذي ندعو إليه.. نعم!! سنحتاج إلى رجال قانون، ولكنهم لن يكونوا بالصورة الحاضرة، لأننا لن نعمل على قيام محاكم شرعية، ومحاكم جزئية، وإنما سيكون التشريع موحدا، وسيكون القضاء موحدا أيضا..
سيكون التشريع مبنيا على القيم الإنسانية الرفيعة، وهى القيم التي نعلمها في معاهدنا، ومنازلنا، ونطلبها من كل مواطن مهما كان دينه، ومهما كانت مهنته، بغير تمييز في ذلك..
يجب أن يشرف على التعليم جهاز واحد، وهو وزارة المعارف.. ويجب أن يوحد التعليم، في برامجه ومناهجه، حتى تنشأ عنه قومية موحدة الفكر، والخلق، والزى، والعادة..
ما أحب أن يفهم من وضعي للتعليم الخلقي تحت عنوان منفصل أني أعنى أن يكون تعليم الأخلاق مستقلا عن تعليم المهنة، فإنى أعتقد أن التعليم المهنى الصحيح هو التعليم الذ يوحد بين المهارة الفنية، والقيم الخلقية، التي تبعث على العمل المهنى.. وهناك حديث مأثور عن النبى في هذا المعنى وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شىء.. فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة.. وليحدد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته).. ففى كل عمل هناك إعتبار يتعلق بالآخرين، فيجب توخى العدل فيه، وتوخى الرحمة.. فإذا ما توكد هذا المعنى، في كل مهنة، أصبحت الأخلاق كالروح، تتلبس جسد كل عمل، وكل مهنة، مهما دقت، وصغرت.. قد تكون هذه الإقتراحات كثيرة على وزارة المعارف لأنها تدخل في إختصاصها أمرا ليس في المألوف دخوله.. ولكنى لا أقترح، وأنا مقيد بالمألوف، وإنما أقترح وأنا متطلع للكمال الممكن.. وهذه المقترحات فيها كمال ممكن.. والحق أن عمل المعارف هو أكبر عمل يؤثر على الأفراد تاثيرا بالغا.. فإذا اقترحنا توسيع إختصاصها لتشمل جميع المرافق الإجتماعية، والإقتصادية، والصحية، فليس ذلك بالغريب.. فإن هو لم يكن مألوفا فقد يجب السعى لجعله كذلك، ما دام مكفولا، وممكنا.. ثم أن هذا تخطيط لم يعط إلا الخطوط العريضة جدا لما في ذهنى عن التعليم.. ولقد اضطررت إلى الإكتفاء به لضيق وقتى، وإلا لذهبت في الحديث عن القيم التعليمية في نظام الحكومة المحلية، وفى ممارسة الديمقراطية، وفي حركات الكشافة، ومنظمات الشباب، والشابات، فألحقها بصلب التعليم النظامى، وطلبت إلى وزارة المعارف أن يكون لها في الإشراف عليها جميعا اليد الطولى..
أرجو الا أكون قد أضعت وقتك سدى، وسلامى عليك..
المخلص
محمود محمد طه