إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الهوس الديني يثير الفتنة
ليصل إلى السلطة

تحركات الهوس الديني ضدنا في مصر:


استطلعت جريد "المساء" المصرية، ذات الاتجاه الديني السلفي، بتاريخ 16ـ3ـ1983 طائفة من رجال الدين الأزهريين حول التحقيق الصحفي الذي نشرته للأستاذ محمود محمد طه بمجلة "الوادي" في عددها الأخير، مارس 1983، والذي أوقفت من الصدور بعده.. وقد ذهب الاستطلاع مذهب الشيخ المطيعي في التشويه، والتكفير، والإثارة مما يدل على وحدة اتجاهات الهوس. فقد زعم الشيخ "د. الحسيني هاشم" الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية أنه حينما كان أستاذا بجامعة أم درمان فوجئ بأن الأستاذ محمود (يعلن أن الصلاة ليست لها قيمة إذا وصل الإنسان إلى درجة الصلاح والاتصال بالله) انتهى.. ولكن هذا الشيخ لم يستند في هذا الاتهام الباطل إلى أي نص من مصادرنا، وقد أغفل سائر ما قاله الأستاذ محمود عن صلاة التقليد، وعن صلاة الأصالة.. ومنه قوله في كتاب "من دقائق حقائق الدين" عن تقليد النبي الكريم: (فنحن يجب أن نقلده في صلاته ليصبح لنا حظ من حاله.. فهو يعرج بصلاة معراجه إلى صلاة صلته.. فحاله الفردية دائما.. ونحن حين نتقن تقليده في هذا المستوى تتم لنا الجمعية بعد التشتت، وتتم لنا السلامة الداخلية بعد الانقسام.. فنكون بذلك قد جوّدنا التقليد حتى أدّى بنا إلى الأصالة، وعند الأصالة يسقط عنا التقليد، ولا تسقط عنا الصلاة، لأن الصلاة الحاجة إليها قائمة قياما سرمديا، ولكنها تلطف، وتدق كل حين) انتهى.. فهل من يقرأ هذا الكلام، بأمانة علمية، يحق له أن ينسب إلى صاحبه أنه (يعلن أن الصلاة ليست لها قيمة إذا وصل الإنسان إلى درجة الصلاح والاتصال بالله)؟؟ ويقول الشيخ "د. الحسيني أبو فرحة" عميد كلية الدعوة الإسلامية عن الأستاذ محمود (يريد النيل من القرآن فيدّعي أنه ينقسم إلى أصول وفروع) انتهى.. وذلك من غير أن يقيم أدنى دليل، أو يقدم أية حجة على دعواه بأن القرآن مستوى واحد لا أصول فيه ولا فروع.. وهل يمكن أن يتساوى عمل النبي، في خاصة نفسه "السنة"، مع مستوى عمل الأمة "الشريعة"، وكلاهما يستند على نصوص القرآن؟؟ أليست آية زكاة النبي (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) هي الأصل بالنسبة لآية زكاة الأمة (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم، وتزكيهم بها)، وهي الفرع؟؟ ويمضي هذا الشيخ فيقول عن الأستاذ محمود أنه (يحارب الجامعات الإسلامية، ومنها جامعة الأزهر، والكليات الإسلامية بالسودان باعتبارها معاقل للفكر الإسلامي التي تضم خيرة علماء السودان) انتهى.. وهنا لا بد من كلمة عن الأزهر، وعن نمط التعليم الديني الذي يمارسه، وعن تاريخ الأزهر في تكفير معارضيه، وفي تملّق حكامه.. ذلك بأننا لا نناهض الأزهر إلا بما يشكله من عقبة في سبيل البعث الإسلامي الصحيح..

الأزهر لا يمثل الإسلام:


يفرض الأزهر صورة منكرة من الإرهاب الديني بمصر، فيحتكر الحديث باسم الإسلام، ويجنح إلى تكفير كل خارج على سلطانه.. وهذه القداسة الزائفة قد امتدت إلى رصيفاته من المؤسسات الدينية في البلاد الإسلامية، ولا سبيل إلى بعث الإسلام إلا بتحطيم هذه القداسة، ووضع الأزهر في إطاره كمؤسسة حفظت التراث الديني حينا من الدهر، ثم تحجرت، وتجمدت، فلم تعد صالحة لتقديم الإسلام في مستوى حل مشكلات الفرد، أو الجماعة، المعاصرة.. فماذا فعل الأزهر طوال الألف عام من عمره نحو إصلاح الحياة المصرية وهي تتداعى في الانحطاط الديني، وتعيش على أخلاط من قشور الحضارة، وقشور الدين.. حتى لقد إيفت هذه الحياة المصرية بشر مستطير يتهدد تقدمها، ومصيرها، وهو شر التطرف الديني والهوس الديني.. والأزهر هو المسئول الأول عن ظهور جماعات الهوس الديني، بما يقدمه من صورة شائهة للإسلام صرفت الشباب عنه، وبما يفرزه هو نفسه، من اتجاهات التكفير والارهاب.. ويقوم نمط التعليم الديني في الأزهر على أسس مناقضة تماما لنهج التعليم الإسلامي.. فالتعليم في الأزهر إنما يقوم على التحصيل النظري في اجترار المطولات الفقهية، وأخلاط المتون والحواشي.. بينما يقوم التعليم في الدين على الهيئة والقدوة.. والقاعدة فيه من القرآن (واتقوا الله ويعلمكم الله، والله بكل شئ عليم)، ومن الحديث النبوي (من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم).. أي من عمل بعلم الشريعة، وهي علم ما لا تصح العبادة إلا به، في بساطة شديدة، علّمه الله علم الحقيقة، وهو الذي لا تصح العبودية إلا به.. فديننا علم، وعمل بمقتضى العلم.. فلم يكن الدين تحصيلا، أو شهادة، أو حرفة.. وللأزهر، بذلك أكبر الأثر في ظهور أو اتشار طبقة رجال الدين، الغريبة، الوافدة على ديننا، من اليهودية والنصرانية.. أما مادة التعليم في الأزهر، فهي، أساسا، الفقه.. والفقه في أخريات الأيام، قد تشعّب وتعقّد، وصار قولا بالرأي ففارق حكمة الشريعة، وروح الدين.. ومن هذه المفارقات ما يتعلمه، وما ينشره الأزهريون من بعض صور الفقه التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، وخاصة فيما يتعلق بالعلاقة بين الزوج والزوجة.. فعن شروط استحقاق نفقة الزوج على الزوجة ما جاء في كتاب "الأحوال الشخصية حسب المعمول به في المحاكم الشرعية المصرية والسودانية" لمعوض محمد مصطفى سرحان.. فقد جاء في صفحتي 236، 237: (استحقاق النفقة منوط باحتباس مشروع أو استعداد له يستطيع الزوج أن يصل به إلى حقه في الاستمتاع متى أراد) انتهى.. فهم لا يعرفون من حكمة الحياة الزوجية سوى الاستمتاع.. أكثر من ذلك!! فإن هؤلاء الأشياخ يتتلمذون على فقه يرى ألاّ نفقة على الزوج للزوجة أثناء مرضها، كما ليس من حقها عليه شراء الدواء لها لعدم صلاحيتها للاستمتاع!! (الجزء الرابع، الفقه على المذاهب الأربعة).. ألا تفارق هذه الصورة الفقهية المتخلفة مفارقة تامة حكمة الشريعة وروح الدين، المتمثلة في قوله تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة، ورحمة..)!!
وتاريخ الأزهر كله، إنما هو تاريخ الإرهاب، والتكفير، في مصر.. فقد كفّر الأزهريون الشيخ عبد الرازق، ومحمد رشيد رضا، ووصموا عمر لطفي المحامي بالإلحاد لدعوته إلى إقامة الجمعيات التعاونية، وكفّروا طه حسين، وقاسم أمين، ولم ينج من طائلة الاتهام بالخروج على الدين حتى جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده.. فلم يكن بدعا أن يصدر الأزهر فتوى في تكفيرنا، وكان آخر ضحايا الإرهاب الديني توفيق الحكيم..
وتاريخ الأزهر هو، أيضا، كله السير في ركاب السلطة، وتمليقها، والافتاء وفق أهوائها. فقد قام علماء الدين المصريون بتخذيل ثورة الشعب المصري بالحملة الفرنسية ببيانهم الذي جاء فيه: (ونصيحتنا لكم ألا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) (تاريخ الجبرتي).. وقد استصدر منهم الاحتلال الانجليزي عام 1914 بيانا يدعو الشعب إلى (إطاعة الحكومة) ("حوليات مصر السياسية" لأحمد شفيق باشا).. وقد قال شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي في تمجيد فاروق (إنه مثال من مثل الخير العليا، وصورة كاملة من صور الفضيلة المحببة للنفوس) ـ (مجلة الأزهر 1139).. وكتبت مجلة الأزهر عام 1963 مقالا بقلم رئيس تحريرها أحمد حسن الزيات يفضّل فيه اشتراكية جمال عبد الناصر على اشتراكية محمد بن عبد الله!! وقال، في معرض نقاشه مع العقاد حول تلك المفاضلة (إن وقفة جمال عبد الناصر في ميدان التحرير تعدل كل العهود التي انكفأ العقاد يؤلف عبقرياتها)!! مع أن من بين تلك "العبقريات" "عبقرية محمد"!! وكتبت مجلة الأزهر بتاريخ 2ـ6ـ1962 في وصف ميثاق عبد الناصر بقولها (إن ميثاقك الذي عاهدت الله على الوفاء به، وعاهدك الشعب على اللقاء عليه، حروف من كلمات الله، لم يؤلفها أحد قبلك في أي عهد لا في القديم، والحديث، لا في الشرق والغرب!!). ودعا الشيخ شلتوت شيخ الأزهر في مجلة الأزهر ديسمبر 1960 إلى طاعة الحكومة بقوله (ما دام عملها في المصلحة العامة) وأردف (لا فرق في ذلك بين حكومة علمانية أو حكومة دينية) انتهى..
ألا يكفي هذا التاريخ غير المشرّف للأزهر لأن تتحطم من حوله القداسة الزائفة وأن تكشف مفارقاته، بغية أن يجيء البعث الإسلامي على جادة الدين؟؟ ألسنا محقين إذ نناهض الأزهر والمؤسسات الدينية الرصيفة له في البلاد الاسلامية، وهي، بذلك إنما تشكّل معوقا أساسيا للبعث الإسلامي الصحيح؟؟

إيقاف مجلة "الوادي" وحرية الفكر والصحافة:


وادعت جريدة "المساء"، في ذلك العدد، أن إيقاف مجلة "الوادي" قد ارتبط بالتحقيق الصحفي الذي نشرته المجلة للأستاذ محمود محمد طه، وهي تحسب أن ذلك (لطمة ) على حد تعبيرها لجريدة الأهالي (الشيوعية) التي ادعت أن الإيقاف تم بسبب نشر مذكرات لجمال عبد الناصر على حلقات.. ومهما كانت دوافع إيقاف المجلة فإن تهليل جريدة المساء به إنما يدل على العقلية الدينية التي تسود مصر والتي لا تعرف سوى الإرهاب، والكبت، كما يشكل هذا الإيقاف مصادرة لحرية الفكر، والصحافة، وهي بداية غير حميدة لمسار العلاقات بين البلدين تحت ظل التكامل، حيث أن هذه الحرية هي المناخ الذي تترعرع فيه الوحدة الفكرية المرتقبة بين البلدين..